• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

التوبة والاطمئنان النفسي

عمار كاظم

التوبة والاطمئنان النفسي

التوبة هي بداية العبد ونهايته، قال تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور/ 31).. هنا خطاب لأهل الإيمان وخيار خلقه، ليتوبوا بعد إيمانهم وصبرهم وجهادهم، وفي الآية تعليق للفلاح بالتوبة، إذ أتت كلمة (لعلّ) إيذاناً لهم بأنّهم إذا تابوا على رجاء الفلاح، فلا يرجو الفلاح إلّا التائبون. وقال تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الحجرات/ 11)، وفي هذه الآية يُقسِّم الله تعالى العباد إلى تائب وظالم، فالظالم هو الذي لم يتب، وليس هناك أظلم منه لجهله بربّه وخالقه وبحقّ الله تعالى عليه، ثمّ يعيب نفسه وآفات أعماله.

والإنسان إذا ما ارتكب المعاصي وكانت مصدر قلقه ومحاسبة نفسه، فإنّ هذه النفس لن تطمئن وتطهر إلّا بالتوبة إلى الله في السرّ والعلن، ولن يزول قلقه النفسي إلّا بمحاسبتها، ثمّ الرجوع إلى الله ومفارقته لصراط المغضوب عليهم والضالين، ولن تتم توبته إذا لم يندم ويقلع ويعزم على عدم العودة إلى هذه المعاصي وهذه الذنوب، ولن يتم له ذلك إلّا بمجاهدة نفسه.. فعليه أن يصلح ما أفسد، فإذا كانت الأخطاء والمعاصي فيما بينه وبين الله كترك حقوق الله سواء حقوق عبادية أو الأُمور التي تخص الناس، إذ أنّ العبد الغفّال إذا صدرته منه الخطيئة في أمر الله ونهيه واعترف وأقرّ على نفسه بالذنب، كانت البداية إلى العودة إلى الله وأن ناصيته بيده تعالى وأنّه سبحانه الذي يقضي بما يشاء، ولا يتم ذلك إلّا بالإيمان بأنّ الله متمكن منه ولن يتخلّى عنه، وأيقن أنّ التوبة إلى الله محفوظة بتوبة من الله عليه قبلها، وتوبة من بعدها، فتوبته بين توبتين من ربّه، سابقة ولا حقة، عندما يوقن العبد أنّ الله ألهمه ووفقه فتاب، يتوب الله عليه ويقبل توبته ويثبته عليها.

قال الإمام زين العابدين (عليه السلام) في أدعية الصحيفة السجّادية: «وإذا انقضت أيّامُ حياتنا، وتصرَّمَت مُدَدُ أعمارنا، واستحضرتنا دعوتُك التي لابدّ منها ومن إجابتها، فصلِّ على محمّدٍ وآله، واجعل خِتام ما تُحصي علينا كتَبَةُ أعمالنا توبةً مقبولةً لا تُوفِفُنا بعدها على ذنبٍ اجترحناه، ولا معصيةٍ اقترفناها، ولا تكشِف عنّا ستراً سترتَهُ على رؤوسِ الأشهاد يومَ تَبلُو أخبار عبادك، إنّك رحيمٌ بمن دعاك ومُستجيبٌ لمَن ناداك».

تلك هي ـ يا ربّ ـ أُمنياتنا ودعواتنا، عندما تنطلق الحياة بنا في امتدادها، في حركة العمر الذي يحمل في داخله الأمل الطويل.. أن نكون من عبادك الصالحين الذين يعيشون في نطاق المسؤولية الجادّة، ولكنّ لكلّ بدايةٍ نهاية، ولكلّ نفسٍ أجل، هناك تضيق الحياة، فلا تبقى لنا إلّا نافذةٌ صغيرةٌ منها، وتتضاءل الفرصة، فلا نملك منها إلّا الشيء القليل، وذلك عندما تنقضي أيّام حياتنا، وتتقطع مدد أعمارنا، وتأتي الساعة الأخيرة، وتنطلق الدعوة من الله إلى أن ننتقل من دار الدُّنيا إلى دار الآخرة.. وهي الدعوة الحاسمة التي لا مجال للعباد إلّا من إجابتها، لأنّها سنّة الله في الكون الذي قضى على جميع عباده بالموت.

إنّنا نتوسل إليك أن تأتينا ساعة الموت الأخيرة، ونحن في حال الطاعة لا في حال المعصية، وفي حالة التوبة الخالصة التي تمثّل الامتداد الحيّ لإيماننا بك وطاعتنا لك، والتي تحصل على القبول منك، لأنّها ليست التوبة الطارئة التي كانت نتيجة الرعب المفزغ لحظة معاينة الموت في عملية هروب لا معنى له في عمق الوعي، ولا غناء له في حجم النتائج، بل هي التوبة العميقة التي تنطلق من الخوف من مقامك، ومن الرغبة في نهي النفس عن الهوى، من موقع الاختيار الهادئ الذي ينطلق من حسابات الفكر الدقيقة، على أساس القناعة الذاتية بالموقف، والتصميم الحاسم في الحصول على جنّة الله ورضوانه.. فالتوبة تمثّل معنى الإرادة الفاعلة التي تجعلنا نواجه الموقف بقوّة، من خلال الطمأنينة الهادئة الآمنة بأنّ الله قد ألغى لنا كلّ ذنوبنا، وجعلنا ننفتح على يوم القيامة كمن لا ذنب له. إنّنا نتوسل إليك، وأنت الذي سترت علينا ما فعلناه، أن تديم لنا هذه الرعاية الإلهية، لتستر علينا في الآخرة كما سترت علينا في الدُّنيا، لأنّنا انطلقنا من مواقع الخطيئة إلى مواقع التوبة.

ارسال التعليق

Top