• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

التوبة والندم على المعصية

عمار كاظم

التوبة والندم على المعصية

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (التحريم/ 8). ويقول الإمام السجّاد (علیه السلام): «أتوبُ إليك في مقامي هذا توبة نادمٍ على ما فرط منه، مشفقٍ على ما اجتمع عليه، خالصِ الحياء ممّا وقع فيه، عالمٍ بأنّ العفو عن الذنب العظيم لا يتعاظمك، وأنّ التجاوز عن الإثم الجليل لا يستصعبك، وأنّ احتمال الجنايات الفاحشة لا يتكأّدُك، وأنّ أحبّ عبادك إليك، مَن ترك الاستكبار عليك، وجَانبَ الإصرار ولزم الاستغفار، وأنا أبرأ إليك من أن أستكبر، وأعوذ بك من أن أصرُّ، وأستغفرُك لما قصّرتُ فيه، وأستعينُ بك على ما عجزتُ عنه». الندم على المعصية والتوبة منها من أفضل ما يقوم به المرء تجاه نفسه وربّه، حيث يشعر الإنسان بسيِّئات ما عمل، ويعزم على عدم العودة إليها، بل ينطلق ليؤكِّد ارتباطه الحيّ بالله تعالى، وعدم الرجوع إلى التفريط بحقوق الله والناس. فالتائب هو الإنسان الملتفت إلى أخطائه وآثامه، والعامل على تصحيح سلوكياته، والساعي إلى فتح صفحةٍ جديدةٍ من حياته، فيعمد إذ ذاك إلى نشر القول الطيِّب والكلام النافع الذي يأنس به من حوله، ويبثّ به الرحمة والعاطفة والطمأنينة على مَن حوله؛ على الصغير والكبير والضعيف، ويعمد أيضاً إلى إصلاح ذاته والإقبال على ما يرفع من شأنها، فلا يقبل أيَّ فكرٍ، بل يسعى ليأخذ ما يفيد عقله وينمِّي ذهنه، والتائب هو القامع لشهواته، فلا ينقاد إليها حتى تأسره وتستعبده، بل يتحكّم بها ويلبّي حاجاته ضمن ما أحلّ الله له من الطيِّبات والحلال. التوبة تصحّح لك نفسك وتغيّرها، وتجعلك تصنع نفسك صناعة جديدة؛ الآن قبل غد، وغداً قبل بعد غد، يقول النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): «حاسبوا أنفُسكم قبل أن تُحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا». وفي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «إذا تاب العبد توبةً نصوحاً، أحبّه الله، فستر عليه في الدُّنيا والآخرة»، فقلت: وكيف يستر عليه؟ قال (عليه السلام): «ينسي مَلَكَيه ما كتبا عليه من الذنوب، ويوحي إلى جوارحه: اكتمي عليه ذنوبه - فلا تشهد عليه يده أو رجله أو لسانه - ويوحي إلى بقاع الأرض - لأنّ كلّ أرض تعصي الله فيها تشهد عليك، وكلّ أرض تطيع الله فيها تشهد لك - اكتمي عليه ما كان يعمل عليك من الذنوب، فيلقى الله حين يلقاه وليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب».

فهذا الشهر المبارك تتضاعف فيه الحسنات، وتُمحى فيه السيِّئات، وتُقبَل فيه الأعمال، ويُضاعف عليها الله الدرجات، فهلّا تتوجّه فيه نفوس المؤمنين إلى بارئها، وتنفض عنها أوساخ الذنوب وقذارات المعاصي؟! فالنفوس التي ولجت عوالم الذنوب والمعاصي على اختلافها، قد اختبرت ما لهذه الأُمور من سيِّئات وأذى، فهي تحرّف الإنسان عن فطرته وطبيعته السوية. والدعوة قائمة في هذه الأيّام إلى اختبار التوبة النصوح، حيث حلاوة القُرب من الله، وحيث العودة الصافية إلى أصالة الذات وهُويّتها الحقيقية السائرة في دروب الخير والبرّ والعطاء. إنّ علينا أن نربّي أنفُسنا على طاعة الله، وأن تكون كلّ طموحاتنا رضوان الله تعالى، وأن نتحرّك في الحياة على أساس أن نعرف أنّ الدُّنيا مزرعة الآخرة، فما تزرعه تحصده: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء/ 89-88)، لنفكّر في ذلك اليوم، حتى نكون عند الله: (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ مقتدر) (القمر/ 55). فلنجعل من توبتنا في هذا الشهر الفضيل جُنّةً من النار، وفوزاً بجزاء الله ورحمته، ولنستغلّ كلّ أوقاته كي يكون مساحةً لمعايشة التوبة والتقوى على وجهها الحقيقي. المؤمنون الصائمون يتوسّلون الله في الليل والنهار، وفي السرّ والعلانية، أن يوفّقهم للتوبة المقبولة عنده، وأن تكون خاتمة آجالهم في خير ورِضا من الله، بحيث لا ينحرفون عن سبيله، بل يؤكِّدون بأعمالهم النافعة الصالحة مدى وعيهم وتحمّلهم لمسؤولياتهم أمام الله تعالى، وأمام الناس والحياة، انسجاماً مع الإرادة الإلهيّة في زرع الخير والفضيلة.

ارسال التعليق

Top