• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الثقافة والمثقف والتباس المفهوم

د. شما بنت محمّد

الثقافة والمثقف والتباس المفهوم

◄الثقافة تلك الكلمة التي نسمعها كثيراً تجري على ألسنة الكثير من الناس بكلّ طوائفهم الفكرية والمعرفية دون أن يكون لدينا مفهوم واضح لها، فدائماً تتغير دلالتها في الذهن بناء على الحالة المعرفية التي جاءت في سياقه لتصبح الكلمة مجرد غطاء لعدّة مفاهيم متباينة أحياناً ومتوافقة أحياناً ومتكاملة أحياناً أُخرى.

يربط الناس بين مفاهيم الثقافة والمعرفة وبين الثقافة والحضارة، فمن دون أن ندرك حقيقة المفهوم سنبني على دلالات خاطئة معارف قد لا تأخذنا في الاتجاه الصحيح نحو بناء الحضارة. وكلمة الثقافة من المصطلحات التي ظلت حائرة في أذهان المجتمعات، مراوحة بين العديد من المفاهيم دون إدراك حقيقي لكنيتها، وكلمة الثقافة كلمة تعتبر دلالتها الحديثة مغايرة في لغتنا العربية لدلالتها القديمة المعجمية، فأصلها في المعاجم هو كلمة ثقف وهو بمعني الفطنة والذكاء وثقف الشيء أي عرفه وأتقنه لكن تظل الدلالة اللغوية قاصرة عن التعرّف على المفهوم الجامع لكلمة الثقافة، رغم أنّنا حين نستخدم كلمة الثقافة في حياتنا اليومية فنحن نركن إلى المدلول اللغوي في لغتنا العربية لكلمة الثقافة هي معرفة الشيء، فحين نطلق كلمة إنسان مثقف يتداعى في الذهن صُوَر القارئ الذي يمتلك جزءاً من المعارف والفكر، وإن حاولنا أن نجد استخداماً لكلمة الثقافة في تاريخنا العربي لن نجد إلّا فيما ندر، لكن في العصر الحديث بدأنا نستخدم كلمة الثقافة بصورة مكثفة.

الإنسان في لحظة ميلاده الأُولى يُولد صفحة بيضاء نقية صافية لا يمتلك أي ملامح ثقافية، يتشابه مع أقرانه ومع الوقت يبدأ في اكتساب الخبرات من خلال امتصاص العادات والسلوكيات واللغة وكلّ ما يتعلّق بآليات الحياة من المحيط الذي وُلِد فيه ويبدأ رحلة التغيير مع الآخر المحيط به، ويتحوّل إلى إنسان مثقف، وتكون مراحل حياته الأُولى هي مراحل الامتصاص، حيث يكون فيها مجرّد صفحات يكتب فيها الآخرون، حتى يبدأ العقل الفردي لهذا الإنسان في الوعي وإدراك الذات والتعرّف على الحدود التي تفصله كفرد عن محيطه.

لندرك ذلك نتعرّف على مفهوم الثقافة كما عرفها إدوارد تايلور في كتابة الثقافة البدائية (الثقافة هي تلك الوحدة الكلّية المعقدة التي تشمل المعرفة والإيمان والفنّ والأخلاق والقانون والعادات بالإضافة إلى أي قدرات وعادات أُخرى يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع)، إذاً كلّ إنسان هو مثقف، لا تنحصر الثقافة في المفهوم الضيِّق الذي يلتبس عند الكثيرين في المعرفة والتحضر ومواكبة العصر، بل إنّ الإنسان القديم قبل أن تنشأ الحضارة الإنسانية الأُولى لديه ثقافة، فقد سبقت الثقافة الحضارة فالثقافة إطار عامّ يحوي فيه كلّ تلك الخبرات التي يكتسبها الإنسان في حياته والمعارف والتي تتحوّل إلى عادات وسلوكيات وقوانين ومفاهيم وطقوس حياتية قامت عليها قدرة الإنسان على بناء الحضارة. فالإنسان حين جاء الأرض بلا هُويّة حضارية تشكّلت هُويّته وثقافته مع الوقت ومع اتّساع رقعة تعامله مع معطيات الحياة، وتطوير محيطه وتطويعه ليتناسب مع احتياجاته، ومع التراكم بدأت تظهر الحضارة الإنسانية الأُولى ومع انطلاق الإنسان إلى عدّة بقاع من الأرض واستكشاف العالم حوله بدأت تتغير الظروف المحيطة به وتشكّلت تباينات بين تلك الحضارات الإنسانية التي خرجت من رحم الحضارة الأُولى، فكان للطبيعة دورها الكبير في هذا التباين ما بين الحضارات فالثقافة تنشأ من العلاقة ما بين الإنسان وبين الموجودات المحيطة به، ومع اختلاف تلك الموجودات والطبيعة تختلف تعاملات الإنسان فتتباين ثقافات وتنشأ حضارات مختلفة ومتباينة.

ولكن هل يمكن أن يتحوّل الإنسان ثقافياً بصورة كاملة؟ قبل الإجابة على هذا السؤال لابدّ أن يسبقه انغماس كامل في المعرفة والبحث وراء الفهم للحياة المحيطة والعادات والتقاليد المتراكمة التي تحكم المجتمع وتحكم الفرد الراغب في هذا التحوّل والاندماج مع الثقافات الأُخرى لإدراك الآليات التي لابدّ من اتّباعها للوصول إلى حالة التغيير في ثقافة المجتمع ومن ثمّ نستطيع أن ندرك إجابة السؤال ونسبة التحوّل التي يمكن أن نحدثها.

إنّ إزالة اللبس في المفاهيم يقودنا إلى تكشف الدلالات والتعرّف على الروابط التي تربط مفهوم الثقافة مع كلّ روافده ممّا يتيح لنا الفرصة أن نستوعب آليات التعايش بين الثقافات المتباينة والعمل على بناء علاقات سلام بين كلّ الثقافات التي تحيا على الأرض علناً يوماً ما نصل إلى السلام المنشود لكلّ العالم.

في الإمارات نمارس جهوداً كبيرة في التحوّل الثقافي الذي يتماشى مع التطوّر الكبير في العالم مع الحفاظ على مواريثنا الخاصّة والاندماج في الحركة المتسارعة للتطوّر التكنولوجي الذي يؤثّر قطعاً على ثقافة المجتمع وأنهي المقال بأن أطرح عليكم تساؤلاً (هل ترون أنّنا في الإمارات ما زالنا نحتاج لتغيير في ثقافتنا من عادات وتقاليد وموروث قيمي حتى يمكن أن تستمر رحلتنا نحو المستقبل أم أنّنا قادرون على تجاوز الحاضر إلى المستقبل دون تغيير؟►

 

* باحثة إماراتية في الأمن الاجتماعي والثقافي

ارسال التعليق

Top