◄إدراك الإنسان ليس مجرد إحساس فحسب، وليس مجرد تفكير عقلي وتجريدي فحسب، بل هو مزاج من عقل وحس من تجريد وتشخيص، وحينما يراد من العبادة أن تؤدي دورها على نحو يتفاعل معها الإنسان تفاعلاً كاملاً، وتنسجم مع شخصيته المؤلفة من عقل وحس ينبغي أن تشتمل العبادة نفسها على جانب حسي وجانب عقلي تجريدي لكي تتطابق العبادة مع شخصية العابد، ويعيش العابد في ممارسته العبادية ارتباطه بالمطلق بكل وجوده.
ومن هنا كانت النية والمحتوى النفسي للعبادة يمثل دائماً جانبها العقلي التجريدي، إذ تشدّ الإنسان العابد إلى المطلق الحق سبحانه وتعالى، وكانت هناك معالم أُخرى في العبادة تمثل جانبها الحسّي.
فالقبلة التي يجب على كلّ مصلي أن يستقبلها في صلاته، والبيت الحرام الذي يؤمّه الحاج والمعتمر ويطوف به، والصفا والمروة اللذان يسعى بينهما، وجمرة العقبة التي يرميها بالحصيات، والمسجد الذي خُصص مكاناً للاعتكاف يُمارس فيه المعتكف عبادته، كلّ هذه الأشياء معالم حسية رُبطت بها العبادة فلا صلاة إلا إلى القبلة، ولا طواف إلا بالبيت الحرام وهكذا، وذلك من أجل إشباع الجانب الحسي في الإنسان العابد واعطائه حقه ونصيبه من العبادة.
وهذا هو الإتجاه الوسط في تنظيم العبادة وصياغتها وفقاً لفطرة الإنسان وتركيبه العقلي والحسي الخاص.
- ويقابله إتجاهان آخران:
أحدهما يفرط في عقلنة الإنسان – إذا صح التعبير – فيتعامل معه كفكر مجرد، ويشجب كلّ التجسيدات الحسية في مجال العبادة، فما دام المطلق الحق سبحانه لا يحده مكان، ولا زمان ولا يمثله نصب ولا تمثال فيجب أن تكون عبادته قائمة على هذا الأساس بالطريقة التي يمكن للفكر النسبي للإنسان أن يناجي بها الحقيقة المطلقة.
وهذا الإتجاه لا تقرّه الشريعة الإسلامية فانّها على الرغم من اهتمامها بالجوانب الفكرية – حتى جاء في الحديث ان (تفكير ساعة أفضل من عبادة سنة) – تؤمن بأنّ التفكير الخاشع المتعبد مهما كان عميقاً لا يملأ نفس الإنسان ولا يعبئ كلّ فراغه، ولا يشدّه إلى الحقيقة المطلقة بكل وجوده، لأنّ الإنسان ليس فكراً بحتاً.
ومن هذا المنطلق الواقعي الموضوعي صممت العبادات في الإسلام على أساس عقلي وحسي معاً فالمصلي في صلاته يمارس نيته تعبداً فكرياً وينزه ربه عن أي حد ومقايسة ومشابهة، وذلك حين يفتتح صلاته قائلاً: الله أكبر، ولكنه في نفس الوقت يتخذ من الكعبة الشريفة شعاراً ربانياً يتوجه إليه بأحاسيسه وحركاته لكي يعيش العبادة فكراً وحساً، ومنطقاً، وعاطفة وتجريداً ووجداناً.
والإتجاه الآخر يفرط في الجانب الحسي ويحول الشعار إلى مدلول، والإشارة إلى واقع، فيجعل لهذا الرمز بدلاً عن مدلوله، والإتجاه إلى الإشارة بدلاً عن الواقع الذي يشير إليه، وبهذا ينغمس الإنسان العابد بشكل وآخر في الشرك والوثنية.
وهذا الإتجاه يقضي على روح العبادة نهائياً، ويعطلها بوصفها أداءً لربط الإنسان ومسيرته الحضارية بالمطلق الحق، ويسخرها أداء لربطه بالمطلقات المزيفة بالرموز التي تحولت بتجريد ذهني كاذب إلى مطلق، وبهذا تصبح العبادة المزيفة هذه حجاباً بين الإنسان وربه، بدلاً عن أن تكون همزة الوصل بينهما.
وقد شجب الإسلام هذا الإتجاه، لأنّه ادان الوثنية بكل أشكالها، وحطم الأصنام، فقضى على الآلهة المصطنعة، ورفض أن يتخذ من أي شيء محدود رمزاً للمطلق الحق سبحانه، وتجسيداً له، ولكنه ميّز بعمق بين مفهوم الصنم الذي حطمه، ومفهوم القبلة الذي جاء به، وهو مفهوم لا يعني إلا نقطة مكانية معينة اسبغ عليها تشريف رباني، فربطت الصلاة بها اشباعاً للجانب الحسي من الإنسان العابد، وليست الوثنية في الحقيقة إلا محاولة منحرفة لإشباع هذا الجانب استطاعت الشريعة أن تصحح انحرافها، وتقدم الأسلوب السوي في التوفيق بين عبادة الله بوصفها تعاملاً مع المطلق الذي لا حد له ولا تمثيل، وبين حاجة الإنسان المؤلف من حس وعقل إلى أن يعبد الله بحسه وعقله معاً.►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق