• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الحب والصبر يورثان الرضا

الحب والصبر يورثان الرضا

◄اعلم أنّ من قال ليس فيما يخالف الهوى وأنواع البلاء إلّا الصّبر فأمّا الرضا فلا يتصوّر، فإنما أتى من ناحية إنكار المحبّة فأما إذا ثبت تصوّر الحبّ لله واستغراق الهمّ به فلا يخفى أنّ الحبّ يورث الرضاء بأفعال الحبيب ويكون ذلك من وجهين.

أحدهما أن يبطل الإحساس بالألم حتى يجري عليه المولم ولا يحس به، ويصيبه جراحه ولا يدرك ألمها، ومثاله الرجل المحارب فإنّه في حال غضبه أو حال خوفه قد تصيبه جراحة وهو لا يحس بها فإذا رأى الدم استدلّ به على الجراحة، بل الذي يعدو في شغل قريب قد تصيبه شوكة في قدمه ولا يحس بألمه لشغل قلبه، وذلك لأنّ القلب إذا صار مستغرقاً بأمر من الأمور مستوفي به لم يدرك ما عداه.

وكذلك العاشق المستغرق الهم بمشاهدة معشوقه أو بحبّه قد يصيبه ما كان يتألم به أو يغتم لولا عشقه ثمّ لا يدرك غمّه وألمه لفرط استيلاء الحبّ على قلبه، هذا إذا أصابه من غير حبيبه فكيف إذا أصابه من حبيبه، وجمال الحضرة الربوبية وجلالها لا يقاس به جمال، فمن ينكشف له شيء منه فقد يبهره بحيث يدهش ويغشى عليه ولا يحسّ بما يجري عليه.

وأمّا الوجه الثاني فهو أن يحس به ويدرك ألمه ولكن يكون راضياً به، بل راغباً فيه مريداً له بعقله وإن كان كارهاً له بطبعه، كالذي يلتمس من الفصاد الفصد والحجامة فانّه يدرك ألمه إلّا أنّه راض به وراغب فيه ومتقلّد منه المنة، فهذه حالة الرضا بما يجري عليه من الألم ومهما أصابته بليّة من الله عزّ وجلّ وكان له يقين بأنّ ثوابه الذي ادّخر له فوق ما فاته رضي به ورغب فيه وأحبه وشكر الله عليه.

هذا إن كان يلاحظ الثواب الذي يجازى به عليه، ويجوز أن يغلب الحبّ بحيث يكون حظ المحب في مراد حبيبه ورضاه لمعنى آخر وراءه، فيكون مراد حبيبه ورضاه محبوباً عنده ومطلوباً، وكلّ ذلك موجود في المشاهدات في حبّ الخلق وقد تواصفها المتواصفون في نظمهم ونثرهم.

وروي أنّ أهل مصر مكثوا أربعة أشهر لم يكن لهم غذاء إلّا النظر إلى وجه يوسف الصديق (ع)، كانوا إذا جاعوا نظروا إلى وجهه فشغلهم جماله عن الإحساس بألم الجوع، بل في القرآن ما هو أبلغ من ذلك وهو قطع النسوة أيديهنّ لاستهتارهنّ بملاحظة جماله حتى ما أحسن بذلك.

ويروى أنّ عيسى (ع): "مرّ برجل أعمى أبرص مقعد مضروب الجنبين بفالج وقد تناثر لحمه من الجذام وهو يقول: الحمد لله الذي عافاني ممّا ابتلى به كثيراً من خلقه فقال له عيسى (ع): يا هذا أي شيء من البلاء تراه مصروفاً عنك؟ فقال: يا روح الله أنا خير ممن لم يجعل الله في قلبه ما جعل في قلبي من معرفته، فقال: صدقت هات يدك فناوله يده فإذا هو أحسن النّاس وجهاً وأفضلهم هيئة قد أذهب الله عنه ما كان به، فصحب عيسى (ع) وتعبّد معه". ►

ارسال التعليق

Top