• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الحرية الفكرية شرط البناء الحضاري

العلامة الراحل السيد محمّد حسين فضل الله

الحرية الفكرية شرط البناء الحضاري
◄إنّه ليس من شكّ في أنّ الإنسان محدودٌ بحدود الزمان والمكان وما يتحرّك في إطارهما من ظروف وعوامل، وتعرضُ عليه المتغيّرات تبعاً لذلك، ومن المعلوم أنّ التأسيس لأي نهج ذي بُعدٍ حضاريّ، لابدّ أن ينظر إلى نِتاج حركة البشرية ككلّ، لا إلى زاوية محدّدة من الزمان، أو إلى بقعة محدّدة من المكان، أو إلى نِتاج ثقافي محدّد، ولذلك فالمطلوب التأسيسُ لمسارٍ يسمح بتجدّد الأفكار تبعاً لتطوّر الزمان، وتغيّر موقع الإنسان فيه، وذلك بهدف تأمين الأرضية الدائمة لتحقيق الرؤية الكلّية التي تحكم وجود الإنسان على هذه الأرض.

وحتى لا نبقى هنا في دائرة التجريد، نزيد الفكرة بياناً ضمن النقاط التالية:

أ) إنّ الرؤية الإلهية – إذا صحَّ التعبير – لوجود الإنسان على الأرض هي بناء الحضارة الإنسانية على هدى الله – سبحانه وتعالى – وهو ما بيّنته آيتان ضمن الآيات التي تحدّثت عن استخلاف الإنسان: الأولى، قوله تعالى: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة/ 30)، والثانية قوله تعالى: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة/ 38).

والذي جعلنا نتحدّث هنا عن بناء الحضارة هو البُعد التطويري الذي نستوحيه من الحوار الذي جرى بين الله – تعالى – وبين الملائكة حول المخلوق الجديد (الإنسان)؛ لأنّ الظاهر من هذا الحوار أنّ الملائكة – في طبيعة تكوينهم – عاجزون عن القيام بمهمّةٍ، الإنسانُ هو الكائنُ المؤهَّلُ لها، والأرجح أنّ الأسماء التي علّمها الله لآدم ليست صور الأشياء فحسب؛ فإنّ هذا أمرٌ تدركه الملائكة، وإنّما البُعد الحركي لتلك الصور، أي القدرة على التركيب والتحليل والاستنتاج، أو – بعبارة أخرى – البُعد التطويري للمفاهيم.

ب) إنّ تحقيق ذلك لا يتمّ من خلال جيلٍ أو جيلينٍ من حياة البشر، وهذا ما نستوحيه من مسألة إهلاك الله تعالى للأُمم التي استعصت على إصلاح الأنبياء، باعتبار أنّ المراد هو حذف العنصر السلبي المؤثّر على حركة الهداية البشرية بشكل عام، كما يوحي بذلك قوله تعالى: (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا) (نوح/ 27)، كما نستوحي ذلك من تطوّر الرسالات التي كانت تنفتح على تغيّرات الزمن، كما حكى الله تعالى عن رسالة السيد المسيح (ع): (وَلأحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) (آل عمران/ 50)، وغير ذلك ممّا يجعلنا نرجّح أنّ النظرة الإلهية لمسار تحقيق إرادته على الأرض (دور الخلافة) إنّما ترتبط بمسار عامّ للبشرية، وكلُّ فردٍ يتحمّل مسؤوليةً بحسب موقعه من هذه السلسلة، والعظماء الذين تلمعُ أسماؤهم هم الذين يفعّلون كلّ طاقاتهم في خدمة هذا الموقع المحدّد في حكمة الله، والذين يسقطون إنّما هم الذين تنازلوا عن موقعهم، واستسلموا لقيادة الشيطان الذي يهدف – منذ البداية – إلى تعطيل المشروع الإلهي على الأرض، عبر تعطيل دور كلّ فردٍ في سلسلة الوجود البشريّ.

في كلّ الأحوال، قد يزيدنا استيحاءً لذلك قوله تعالى في جوابه للملائكة عندما اعترضوا – أو تساءلوا – عن الحكمة من جعل إنسانٍ خليفةً والحال أنّه "يفسد في الأرض ويسفك الدماء"، فقال تعالى: (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 30)، الذي نفهمه أنّه إشارة إلى أنّ المسألة لا ترتبط بفردٍ، وإنّما ترتبط بمسارٍ سينتهي بالحتميّة الإلهية، وهي تحقيق المشروع الإلهيّ على الأرض، وعبر الإنسان خاصّة، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (الأنبياء/ 105)، وكما قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا...) (النّور/ 55).

ولعلّنا نستأنس بما ورد عن رسول الله (ص) في بيان موقعه من الرسالات السابقة، ما يعزّز هذا المعنى الذي أسلفناه، وذلك أنّه قال (ص): "مَثَلي في النبيّين كمثل رجلٍ بنى داراً فأحسنها وأكملها وأجملها، وترك فيها موضع لبنةٍ لم يضعها، فجعل الناس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه ويقولون: لِمَ تمّ موضعُ هذه اللبنة! فأنا في النبيّين موضع تلك اللبنة"، أي إنّ تتابع الرسالات له ارتباط بالمسار العامّ للبشرية، في ما يريد الله تعالى أن يتكامل في حركة الإنسان، لكي يكون مؤهّلاً لحمل الرسالة الخاتمة في نهاية المطاف.

ج) استناداً إلى ما تقدّم، نفترض أنّ البُعد الحضاري مرتبط بحركة البشرية بعامّة، وليس لفردٍ دون آخر، أو لحقبة زمنية دون أخرى، فقد تتكوّن – بفعل تطوّر الزمن والحياة – معطياتٌ جديدة للإنسان تجعله يقتنع أنّ الحقّ ليس في الأفكار السابقة، وأنّ الهدى ليس في التجارب السالفة، وإنّما كانت تلك الأفكار تمثّل الحقّ أو الهدى من خلال المعطيات المتوفّرة للإنسان في ظرفها، وإذا كان الإنسان معذوراً – لأجل اقتناعه – بأنّها تمثّل الحقّ والهدى، فإنّه لن يكون معذوراً أمام الله إذا سار وفقها وهو مقتنعٌ بخلافها.

هذا يعني – بكلّ وضوح – ضرورة وجود قواعد تسمح بالتدفّق الدائم للأفكار، سواء منها الأفكار التي تنتج للمرة الأولى، أي الإبداعية، أو الأفكار التي ترتبط بإصلاح أفكار أو أوضاع سابقة، أي النقد. هنا نحن أمام مبدأ حرّية التعبير، ومبدأ حرّية النقد، كشرطين أساسيّين لاستمرار الفعل الحضاري للمجتمع أو للأُمّة، أو للوجود البشري بعامّة.

ولعلّ الخطاب التشدّدي تجاه بعض الأنبياء يمنحنا القدرة على رؤية ذلك المنحى الكلّي، حيث لا يرضى الله – سبحانه – بأن يحيد النبيّ أو الرسول عن مسؤوليّاته قيد أنملة؛ لأنّ نبوّته ورسوليّته تأتي في لحظة تأريخيّة ملائمة لإطلاق عجلة تجديديّة لما يريد الله تعالى للبشرية أن تتحرّك نحوه في قادم الأيّام. من ذلك الخطاب ما خاطب به الله نبيّه محمّداً (ص): (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ * لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ) (الحاقة/ 47).

ختاماً، إذا كانت هذه التأمّلات قد انتهت إلى ما انتهت إليه، فإنّها تبقى وجهة نظرٍ، حاولنا من خلالها أن نقدّم تجربة في استنطاق القرآن تجاه إشكاليات تطرحها الحياة أمام الفكر الديني والبشري عموماً، وكلّنا أملٌ في أن تجتذب وجهة النظر هذه وجهات نظرٍ أخرى، لتضيف إلى خطّ المعرفة ما يصحّح خطأ، أو يصوّب توجّهاً، أو يؤكّد فكرةً، لتتكامل محدوديّاتنا أمام ذلك الوجود الكامل، والحقّ الذي منح الوجود معناه، وشكّل محوره؛ والله من وراء القصد.►

ارسال التعليق

Top