• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الحزن ونور القلب

مركز نون للتأليف والترجمة

الحزن ونور القلب
   نصّ الوصية:

·      قال الإمام أبو جعفر محمد بن علي الباقر (ع) موصياً صاحبه، وتلميذه النجيب جابر الجعفي: "وَاسْتَجْلِب نُورَ القلب بدوام الحُزْنِ".

 

منزلة القلب:

القلب ملك الأعضاء، كما في الحديث النبويّ المروي عن رسول الله (ص): "ألا وإنّ في الجسد مضغة؛ إذا صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدَت فسد الجسد كلّه، ألا وهي القلب". وعن الإمام الصادق (ع): "أعلم: أنّ منزلة القلب من الجسد بمنزلة الإمام من الناس الواجب الطاعة عليهم، ألا ترى أنّ جميع جوارح الجسد شرط للقلب وتراجمة له مؤدية عنه".

والقلب لغة: أصلان صحيحان، أحدهما يدلّ على خالص الشيء وشريفه، فالأوّل قلب الإنسان وغيره، سُمّي به لأنّه أخلص شيء فيه وأرفعه. وخالص كلّ شيء وأشرفه قلبه، وهو محلّ نظر الربّ تبارك وتعالى كما جاء في وصية النبيّ الأكرم (ص) لأبي ذر الغفاري (رض): "إنّ الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم". وقال أمير المؤمنين عليّ (ع): "قلوب العباد الطاهرة مواضع نظر الله سبحانه، فمن طهّر قلبه نظر الله إليه"، وقال سيّد الأنبياء (ص): "إذا طاب قلب المرء طاب جسده، وإذا خبث القلب خبث الجسد".

 

للقلب مرآة يُرى الكون ضمنها:

قد جعل الله تعالى مدار السعادة أو الشقاوة على القلب، فإذا مُلئ القلب إيماناً وتصديقاً وفقهاً وإدراكاً لمراد الله ومراد الذين عصمهم الله (ع) كان ذلك دليل الصحّة والسلامة، وإذا لم يتعهّده صاحبه بذكر الله تعالى ومراقبته، ودوام الخشية منه، فإنّ الشهوات سرعان ما تتسرّب إليه، وتبدأ بوادر المرض تغزوه بواسطة المعاصي والذنوب والمخالفات فيمرض القلب.

قال إمام المتّقين (ع): "أشدّ من مرض البدن مرض القلب، وأفضل من صحّة البدن تقوى القلوب". فالقلب يمرض كما يمرض البدن، ويصدأ كما تصدأ المرآة، وجلاؤه بالذكر كما أفاد مولانا أمير المؤمنين (ع): "إنّ الله سبحانه جعل الذكر جلاء للقلوب"، مطلق الذكر من التسبيح والتهليل والتحميد والدعاء والمناجاة وتلاوة القرآن ونحوها، فإنّ المداومة عليها توجب صفاء القلب ونوره وجلاءه، وطهارته ونقاءه من ظلمة الذنوب ورين المعاصي، فيُصبح كالمرآة المجلوّة التي ليس عليها شيء من الكدر، فيرى ببصيرته ما لا يراه الناظرون، والبصيرة هي نور القلب الذي يستبصر به كما أنّ البصر نور العين الذي به تبصر، وقال مولانا أمير المؤمنين (ع): "عليك بذكر الله، فإنّه نور القلب". وإذا لم يتدارك العبد ويُبعد قلبه عن أمراض القلوب، ويصون نور القلب من أن تطفئه ظلمة المعصية، فإنّ القلب سيُصاب بعدد من العقوبات حيث يقسو ويشتدّ ويغلف ويطمس، ويقفل ويطبع عليه ويزيغ عن الحقّ، وعندها تكون حالة موت القلب.

رأيتُ الذنوب تُميت القلوب           وقد يورث الذلّ إدمانها

وترك الذنوب حياة القلوب             وخير لنفسك عصيانها

وقد أرشدنا أمير المؤمنين لما يُمحّص الذنوب، فقال (ع): "حزن القلوب يُمحّص الذنوب".

 

معنى نور القلب ومفهومه:

"للقلب – وفقاً للاصطلاح القرآنيّ والروائيّ – بُعدان مختلفان على الأقلّ؛ البعد الإدراكيّ، والبعد المَيليّ. يقول القرآن الكريم في البعد الإدراكيّ: (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج/ 46)، ومن الواضح أنّه ليس المقصود من العمى هنا العمى الظاهريّ، وإلّا فمن المسلّم أنّ العين الظاهرية تعمى، بل يراد منه عمى القلب. إذن فالقرآن الكريم يرى أنّ العمى الحقيقيّ هو عمى القلب. واستناداً إلى هذه الآية، فالقرآن يرى أنّ للقلب عيناً، وهي تكون مفتوحة تارةً فترى الحقائق، وتكون عمياء تارةً أخرى. وبناءً على ما جاء في كتاب الله العزيز فإنّ إحدى ميّزات هذه العين هي أنّها إذا أصبحت عمياء في الدنيا فإنّ صاحبها سيُحشر أعمى في مجال عين القلب في الآخرة؛ وإنّه لأمر يدعو لشديد الأسف والحسرة أن يُحشر المرء في مجال يعلم أنّ فيه أموراً كثيرة تستحقّ الرؤية لكنّه لا يستطيع مشاهدتها بسبب العمى.

استناداً إلى ما جاء في الأحاديث الشريفة فإنّ لهذا القلب أذناً أيضاً، بل ونورانيّة وظلمة كذلك. وللنور في القرآن الكريم طيف واسع من الاستعمالات؛ فالقرآن الكريم يُعبّر عن نفسه بالنور؛ كما في قوله: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ) (المائدة/ 15)، وهو يُعرِّف الله جلّ وعلا بأنّه نور السماوات والأرض: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) (النور/ 35)، ويتحدّث في آية أخرى عن النور الذي جُعل للمؤمنين فيقول: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) (الأنعام/ 122)، وهذا النور هو من نور القلب، وإلّا فالجميع – بما فيهم المؤمنون والكفّار – يتمتّعون بالأنوار المادّية.

وهناك آية أخرى تقول في هذا الصدد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) (الحديد/ 28)؛ بمعنى أنّكم إذا آمنتم بالنبيّ إيماناً حقيقياً فسيجعل الله لكم نوراً يُضيء لكم دربكم. وأمثال هؤلاء لا يكونون في حيرة من أمرهم، بل يُشخّصون تكليفهم في الوقت المناسب. وهذه المباحث تُنبئ عن حقائق لابدّ أن نؤمن بها وأن نعلم بأنّ الله تعالى يُسبغ على باطن الإنسان المؤمن من البركة والمعنويات والكمال ما له حكم النور في مقابل الظلمة. فلو كان امرؤ يقود سيّارة ليس فيها مصابيح في طريق محفوفة بالمخاطر وسط ظلام حالك فإنّه لا يمضي عليه وقت طويل حتى يهلك. وكذا الطريق التي على باطن الإنسان أن يقطعها صوب الحقيقة فإنّها بحاجة إلى النور وإنّ الله يَهَب هذا النور لبعض عباده. لكنّ بعض الناس يقتل الاستعداد الكامن في داخله لانبعاث هذا النور ويُفرّط باستحقاقه للظفر به فتكون النتيجة أنّه يتيه في غياهب الظلمات.

يُعلم بالرجوع إلى الآيات الآنفة الذكر أنّ مراد الإمام أبي جعفر الباقر (ع) من نور القلب هو إمّا عين هذه الحقيقة التي تُشير إليها الآيات الشريفة المذكورة أو شيء من هذا القبيل. وإنّ من آثار نورانية القلب هو أن يتمكّن المرء من التمييز بين الحقّ والباطل، وهذه القدرة على التمييز هي غاية في النفاسة والقيمة بالنسبة للإنسان المؤمن. وهنا يُبيّن الإمام (ع) لجابر طريقاً للظفر بهذه النورانية، فيقول: "واستجلِب نور القلب بدوام الحزن"!.

 

أسئلة حول الحزن:

يقول الإمام الباقر (ع) في هذا المقطع من الحديث: "واستجلب نور القلب بدوام الحزن"!. بمعنى: إذا أردت أن يكون قلبك نورانياً فاجهد لكي تكون دائم الحزن.

ثمّة أسئلة تتبادر إلى الذهن هنا سنتعرّض للإجابة عليها بمقدار ما سيوفّقنا الله عزّ وجلّ إليه. من هذه الأسئلة ما يلي: ما هو القلب؟ وما معنى نور القلب؟ ما مراده (ع) من قوله: "واستجلب نور القلب بدوام الحزن"؟ على ماذا يكون هذا الحزن؟ وهل كلّ حزن هو مطلوب؟ هل يريد الإسلام من الناس أن يعيشوا في حزن وكآبة مستمرّين، أم يريدهم مسرورين وينعمون بالحيويّة؟ وأخيراً: ما هي العلاقة بين الحزن ونور القلب؟

 

هل الحزن مُحبَّذ أم غير محبّذ؟

هل ينبغي للمرء يا ترى أن يكون حزيناً باستمرار؟ بالطبع فإنّ الإنسان الحزين لا يتمتّع بالحيوية المطلوبة لممارسة العمل والنشاطات والمختلفة؛ إذن فهل يريد الله عزّ وجلّ أن يبني مجتمعاً يُسيطر الحزن على جميع أفراده؟ إنّ كلّ الجهود التي تُبذل في الثقافة العالمية المعاصرة تهدف إلى خلق حالة من البهجة والسرور للبشر. وإنّ العلوم الإنسانية – لا سيّما علم النفس – تؤكّد على ضرورة تنشأة إنسان مبتهج. وكأنّ وجود الحزن والغمّ والأسى في وجود الإنسان هو أمر غير نافع ومنحرف. هذا ما تذهب إليه الثقافة العالمية. فهل يتحتّم علينا أن نتّخذ في مقابل هذه الثقافة موقفاً مناهضاً فنقول: نحن لا نُحبّذ الفرح والسرور بتاتاً، فالبهجة أمر سيئ، وعلى الإنسان أن يعيش في حزن وأسىً دائمين؟!

العلوم الإنسانية المتوفّرة حالياً، ونخصّ بالذكر منها علم النفس، هي بقايا لعلم النفس السلوكي الأمريكي والغربي. فجميع هذه العلوم مبنية على الأصول والمبادئ المادّية، وإنّها مبنية على الأسس المناهضة للإسلام وليس الأسس غير الإسلامية، فإنْ قُلنا: إنّ الإسلام يدعو إلى الفرح، قالوا: إنّكم إذن تذهبون إلى ما نذهب إليه نحن. وإذا قلنا: الإسلام يُثني على الحزن ويتعيّن على الإنسان أن يكون دائم الحزن، فهذا خلاف الفطرة تماماً. فهل خُلِقنا لنكون حزينين يا ترى؟!

إذن لابدّ من أجل حلّ هذه المسألة أن نبدأ من جذورها، فنقول: ما هو الحزن أساساً، وكم هو عدد أنواعه؟ كيف ينشأ الحزن؟ وهل كلّ حزن هو محبَّذ؟ أم إنّ كلّ حزن هو غير محبَّذ؟ ما هو الحزن الذي تمتدحه هذه الرواية وتعدّه من عوامل نورانية القلب؟ وهل يتنافى هذا الحزن مع أشكال السرور الأخرى؟".

 

فعل الله لا تنقصه الحكمة:

أوّلاً استناداً إلى الرؤية الإلهية والتوحيدية فإنّه ما من شيء إطلاقاً أودعه الله في وجود الإنسان بحيث يكون لغواً بل لابدّ أنّه ينطوي على حكمة. فقد خلق الله للإنسان الضحك كما خلق له البكاء وإنّ كلاً منهما مطلوب في محلّه المناسب وضروري ومفيد أيضاً للإنسان. وجلّ المشكلة يكمن في أنّه: ما هو محلهما المناسب؟ فالشهوة – على سبيل المثال – تدفع بالإنسان في الظروف العادية إلى حدّ الحيوانية، غير أنّها إذا انعدمت انقرض النسل البشري بالكامل. لذا فإنّ وجود الشهوة نعمة ولا بدّ أن تُستعمل في محلّها المناسب ولا ينبغي استخدامها بشكل غير مناسب. إذن فوجود الحالات المتضادّة في الإنسان مفيد وضروري ويتعيّن عليه استخدامها في سبيل تكامله. فالقرآن الكريم يستخدم أسلوب الوعد والوعيد لدعوة الإنسان إلى الصالحات؛ فيقول مثلاً: (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ) (الأنبياء/ 103)؛ أي: إنّ الذين يمتثلون لأوامر الله تعالى سوف لن يُبتلوا بالحزن في يوم القيامة. ويُعلم من هذه الآية ونظائرها أنّ حالة الحزن ليست مطلوبة ومحبّذة دائماً. وفي المقابل فإنّ إدخال السرور إلى قلب المؤمن قد عُدّ أمراً حسناً ومحبّذاً؛ ممّا يُفهم منه أنّ السرور والفرح للمؤمن هو أمر مطلوب حتى في الدنيا".

 

اختلاف الرؤية الإلهية عن الرؤية المادّية:

"إذن كيف لنا – بالالتفات إلى ما مرّ – أن نجمع بين هذا المبحث والأحاديث التي تمتدح الحزن؟ طبقاً للمدارس غير التوحيدية فإنّ أهداف الحياة تنحصر في النتائج الدنيوية دائماً وإنّ الأشياء المُرضية للإنسان هي التي تُشكّل الغاية من العيش. وانطلاقاً من هذه الرؤية فإنّ غاية ما يوصي به علماء النفس كمنهج للحياة هو أن يكون المرء في بهجة مستمرّة وأن يعرف جيداً كيف يوفّر أسباب السعادة لنفسه. والقرآن الكريم يقول على لسان هؤلاء: (إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا) (الأنعام/ 29)، ومن البديهي أنّ المرء عندما لا يُفكّر إلّا بالحياة الدنيا فإنّه لن يطلب من أمور الدنيا ما يجلب له الهمّ والحزن، لأنّ ضالّته فيها هي السعادة والراحة.

لكنّه وفقاً للرؤية التوحيدية فإنّ كلّ ما في الدنيا يُنظَر له كأداة ولا يكون هدفاً بذاته. فحُسن وقبح الأمور الدينية يرتبط بما تتركه من أثر على الحياة الأبديّة. وإنّ كلّ الأمور الدنيوية لها أثر – بشكل أو بآخر – في سعادة المرء الأبدية وليس منها ما هو لغوٌ على الإطلاق، بشرط أن تُستخدم في موضعها المناسب. فإذا شعرنا بالسرور أو أحسسنا بالحزن في المحل المناسب، فسيؤثر ذلك على سعادتنا الأبدية. إذن فكلّ واحد من السرور والحزن محبّذ بشرط أن يكون في الموضع المناسب؛ فلا حزن هذه الدنيا غير محبّذ ذاتاً ولا بهجتها. ومن هنا يقول القرآن الكريم بخصوص من يجعل من سرور هذه الدنيا هدفاً ويعدّه أصلاً: (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) (القصص/ 76)؛ أي إنّ الله لا يُحبّ الذين لا يُفكّرون إلّا بالفرح والسرور الدنيويّين. ومن هنا فإن وُجد نوع من البهجة بحيث يكون وسطاً بين الحالتين ولا يؤثّر على سعادتنا لا بالسلب ولا بالإيجاب، فهي بهجة مباحة. أمّا إذا كان السرور أو الحزن مؤثّراً في سعادتنا الأبدية ومن النوع الذي يُقرّبنا إلى رضا الله فهو مطلوب ومُستحبّ".

 

الحزن على الدنيا أم على الآخرة؟

الحزن الناجم عن ضياع اللذائذ الدنيوية ليس محبّذاً بتاتاً ولا يؤدّي إلى سعادة الإنسان، بل يقف حجر عثرة في طريق سعادته. فالإنسان الحزين يفتقر إلى القوّة على ممارسة أيّ عمل أو نشاط ولا تحصل له حالة حضور القلب أثناء العبادة. ولا ريب أنّ حزناً كهذا لا يطلبه الإسلام ولم يوصِ به أبداً. لكن ما حكم الحزن على الآخرة؟

هناك عوامل مختلفة من شأنها أن تورث الحزن من أجل الآخرة؛ فتفكير المرء بمضيّ عمره وتفريطه بالفُرَص، وتفكيره بأضرار المعاصي على آخرته، وبالحرمان من مقامات أولياء الله الرفيعة يجعله في حزن عميق. هذا النمط من الحزن يدفع الإنسان إلى تجنيد طاقاته للإفادة ممّا تبقّى من الفرص ومعرفة قدر عمره والعمل للآخرة أفضل من ذي قبل. فهل يُمكننا أن نقول إنّ حزناً كهذا ليس مطلوباً؟ فاغتنام الإنسان بسبب ذنوبه وعقوباتها سيدفعه إلى بذل قصارى جهده للتفكير عنها وتركها. فمثل هذا الحزن محبّذ لأنّه يقود إلى عمل أكثر ونشاط أكبر، وهو لا يُشبه الحزن على الأمور الدنيوية الذي يورث الاكتئاب والتعاسة، بل إنّه يُشكّل عاملاً لرقيّ الإنسان وسموّه.

فإذا حزن المرء اليوم على تفويت فرصة فسيدفعه حزنه هذا غداً إلى الإفادة بشكل أفضل من عمره. فإن تكرّر هذا الحزن في يوم غد أيضاً فسيكون سبباً لاستعداده في اليوم الذي يليه. فإذا استمرّ هذا الحزن ما دام المرء على قيد الحياة فسيكون مدعاةً لأن يستفيد أكثر من كلّ يوم من عمره وينال المزيد من الكمالات. لهذا فكلّما زاد حزن الإنسان على ماضيه ازداد نشاطه ورقيّه وتكامله. إذن فالمقصود من "دوام الحزن" هو هذا الحزن. بطبيعة الحال إذا رحل المؤمن عن هذه الدنيا فلن ينتابه أيّ حزن؛ إذ يقول عزّ من قائل: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (فصّلت/ 30)؛ فالملائكة تتنزّل على أمثال هؤلاء في ساعة الموت أو لربّما قبل هذه الساعة قائلة لهم ذلك وأنّكم من الآن فصاعداً ستكونون في سرور تامّ وطمأنينة كاملة. فالمؤمن لا يغتمّ على ترك الدنيا، لأنّه يرى نعماً أعظم قد هيّأها الله تعالى له.

يقول العليّ القدير: إنّ الحكمة من تذكيرنا إيّاكم بوجود القضاء والقدر وقولنا: كلّ ما يقع إنّما هو مكتوب في كتاب: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا) (الحديد/ 22)، الحكمة من ذلك هي: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) (الحديد/ 23). نفهم من ذلك أنّه لا قيمة لفرح الدنيا وحزنها، إلّا أن يكون وسيلة لسعادة الإنسان في الآخرة.

 

الجميع بين الحزن والفرح:

"الحزن من أجل الآخرة لا يتنافى بتاتاً مع باقي المسرّات. فإنّ من ميزات الإنسان أنّه خُلق بهذه الصورة بحيث من الممكن أن يكون حزيناً وفرحاً في آن واحد، وهو أمر عجيب. فمن حيث إنّ الإمام الحسين (ع) قد بلغ أعلى المقامات بشهادته فنحن فرحون، لكنّ ذلك لا يتنافى مع حزننا ولطمنا على رؤوسنا وصدورنا على ما نزل به وبأهل بيته (عليهم السلام) من المصائب. بل وإنّنا مسرورون من بكائنا علهيم أيضاً. وهذا الأمر ليدعو إلى العجب حقّاً؛ وهو أن يبكي الإنسان ثمّ يفرح لبكائه؛ فهو فرِح لأنّ الله سبحانه قد وفّقه لإحياء عزاء أبي عبد الله الحسين (ع).

فالحزن من أجل الآخرة لا يتنافى على الإطلاق مع المسرّات التي يرضاها الله جلّ وعلا، فالذي يُنجز تكاليفه الدنيوية، فإنّه سيشعر في أعماق قلبه بالحزن حتى في المواقف التي تستلزم السرور والبهجة واللذّة الدنيوية، وحزنه هذا نابع من حرمانه من التمتّع بالمزيد من الكمالات الأخروية التي نالها أولياء الله".

 

العلاقة بين دوام الحزن ونور القلب:

"أمّا السؤال الأخير فهو: ما العلاقة التي تربط دوام الحزن بنور القلب؟ لقد علمنا بأنّ البُعد الإدراكيّ لقلب الإنسان قد تُصيبه العتمة أحياناً، وقد يصل إعتامه إلى درجة عمى القلب أيضاً. والعلّة من وراء هذه العتمة والظلمة هي ارتكاب المعاصي والغفلة، وإنّ روح جميع هذه الأمور تكمن في حبّ الدنيا. أمّا إذا كان الإنسان ذاكراً للموت وحزيناً بسبب تفريطه بالفرصة تلو الفرصة فإنّ هذه الحالة ستُغلق الباب أمام وساوس الشيطان وتفتح عين قلبه وأذنه وتجعل قلبه نورانياً. فآفّة نور القلب هي حبّ الدنيا والتدنُّس بالآثام واللذائذ الدنيوية. والمراد من الدنيا هنا هو كلّ ما لا يُحبّه الله عزّ وجلّ؛ وإلّا فإنّ من لذائذ الدنيا ما هو واجب ويُثاب المرء عليه أيضاً.

إذن فدوام الحزن إنّما يزيد من نورانيّة القلب من جهة أنّه يحفظ الإنسان من وساوس الشيطان".

وفّقنا الله وإيّاكم لمراضيه، وجنّبنا الله وإيّاكم معاصيه، وصلى الله على سيدنا محمّد وآله الطاهرين.

 

المصدر: كتاب المُهتدون (من وصايا الإمام الباقر (ع) لتلميذه جابر)/ سلسلة الحياة الطيِّبة

ارسال التعليق

Top