• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الحياء.. قرين الإيمان والباعث على الخير كله

محمود عبدالهادي

الحياء.. قرين الإيمان والباعث على الخير كله

◄ورد أن خير من طلعت عليه شمس، وأظلته سماء، إمام القبلتين، محمد (ص) قال: "إنّ لكل دين خُلقاً، وخُلق الإسلام الحياء".

الحياء.. معناه: تأثر النفس وانفعالها مما يعيبه الدين، أو يكرهه الناس، فهو يردع النفس عن شهواتها، ويصدها عن أطماعها، ومجاوزة حدودها، وقبيح مطالبها، فيردها إلى الحق، والعدل، والإنصاف، فهو لجام النفوس، وحاجزها عن الآثام، والفسوق، والعصيان.

ولا شكّ في أن تأثير الحياء أقوى من تأثير القوانين والأحكام، لأنّه خُلقٌ يلازمُ صاحبه في السر والعلن، فيولِّد في النفس خوفاً من القبيح، وكرهاً للنقائص.

الحياء من الله عزّ وجلّ واجب، ويتمثل ذلك في إعظامه، وإجلاله، والخوف منه، واحترام حدوده، واجتناب نواهيه، قال تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) (الرحمن/ 46)، وحتى لا نكون من الذين قال الله تعالى فيهم: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا) (النساء/ 108).

ولذلك يأمرنا الرسول الكريم بالاستحياء من الله، فعن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله (ص): "استحيوا من الله حق الحياء، قلنا: إنا لنستحي من الله والحمد لله، قال: ليس كذلك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، وآثر الآخرة على الأولى، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء"، وعنه أنّه قال: "استحيوا من الله حق الحياء، فإنّ الله قسّم بينكم أخلاقكم كما قسّم أرزاقكم".

 

معاني الخير:

إنّ الحياء من شُعب الإيمان، وهو يبعث في النفس معاني الخير، ويضفي على الفؤاد نوراً يمشي به صاحبه في الناس، فلا يسقط في عثرة، ولا يقع في زلة، ولا ينحرف عن الطريق السوي إيماناً منه بأن عين الله عنه لا تغيب، وأنّه منه قريب، لذلك فهو يذكر دائماً قول ربه: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا) (الإسراء/ 36)، فلا تراه وقد وقعت عيناه على بائقة، أو اقترف لسانه فاحشة أو موبقة، أو أتى أمراً يُغضب خالقه، متأدباً في ذلك بأدب رسول الله (ص).

حياء الرسول (ص): لنا في رسول الله (ص) الأسوة الحسنة، والقدوة الطيبة في جميع أموره وأحواله، والاقتداء به في حياته مطلوب، ومرغوب، بل واجب علينا جميعاً.

والإيمان قرين الحياء فهما لا يفترقان، والتجرد من الحياء تجرد عن الدين نفسه، وإن من كسا الحياء ثوبه لم ير الناس عيبه، يقول (ص): "الحياء والإيمان قرناء جميعاً، فإذا رُفع أحدهما رُفع الآخر"، ويقول الرسول (ص) أيضاً: "إنّ ممّن أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت".

قال رسول الله (ص): "الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار".

وعنه أيضاً أنّه قال: "الإيمان بضع وسبعون شعبة أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى من الطريق، والحياء شعبة من الإيمان".

حياء المرأة: والحياء مطلوب في المرأة كذلك، وهو للمرأة سياجها، وحصنها الحصين، وحماها الذي تحمي به شرفها، وتصون به عرضها، وكرامتها، وهو من أجلّ النِّعم التي تتحلى به عقيلات الأسر، وكريمات الأصول يلتزمنه ويتخذنه سفناً، وطريقاً يمشين عليه.

تأمل معي قصة كليم الله موسى، وابنة نبي الله شعيب، حينما توجّه تلقاء "مدين" وهي مكان بين الحجاز والشام، وقد سار حافياً حتى تساقطت جلود قدميه، ووجد حشداً من الناس قد زاحموا على مورد الماء معتمداً – كلٌ منهم – على قدرته وقوته، ثمّ يرى من دونهم امرأتين تقفان في ضعف وذلة حتى ينصرف الجمع فتتقدما للسقيا: (لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ) (القصص/ 23).

فسقى لهما موسى ثمّ تولى إلى الظل يسأل ربه الرحمة، وعادت الفتاتان إلى أبيهما سريعاً على غير العادة فسألهما الخبر فقصتا عليه القصة، فأرسل الشيخ في طلب موسى..

انظر إلى حياء الفتاة كما جاء في قول الحق تبارك وتعالى: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا) (القصص/ 25)، بل انظر كذلك إلى حياء موسى الذي سار أمام الفتاة ولم يسر خلفها حتى لا يُمعن النظر فيها فيكون من الخائنين.. حتى وصل الجمع إلى الشيخ فإذا به نبيّ الله شعيب، فقص موسى عليه قصته فقال له: (لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ) (القصص/ 25-26).

وهنا يطلب نبيّ الله شعيب من موسى أن يتزوج إحدى ابنتيه: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) (القصص/ 27).

وما كان ذلك إلا لحياء موسى وأمانته.

علينا أن نعلم جميعاً أنّه ليس من الحياء أن يكتم الإنسان سؤالاً ينفعه في دينه، فإنّه "لا حياء في الدين"، فلنسأل عن حكم الجنابة، وآداب النكاح، وحكم المني، والاحتلام، وغيره من الأمور التي قد يجد البعض حرجاً في السؤال عنها.

كذلك.. ليس من الحياء أن تسكت على منكر.. لأنّ الحياء في حقيقته أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وإلا كان هذا ضعفاً منك وعجزاً لا يقره الدين، وقد استعاذ منه الرسول الأمين، فصاحب الحياء لا يظلم، ولا يسرق، ولا ينهب، ولا يزني، ولا يؤذي، ولا يفعل شيئاً يغضب الرحمن.

فإذا رأيت الغني يتجاهل حق الفقير، ويبخل عليه بماله، فاعلم أنّه ذهب الحياء، وإذا رأيت القوي لا يأخذ بيد الضعيف بل يعتدي عليه، فاعلم أنّه ذهب الحياء، وإذا رأيت المرأة تخرج سافرة دون إذن زوجها، فاعلم أنّه ذهب الحياء، وإذا رأيت التجار يتلاعبون في الأسعار، ويغشون في الكيل والميزان، فاعلم أنّه ذهب الحياء، وإذا رأيت الطلاب يلعبون ولدروسهم لا يستذكرون، فاعلم أنّه ذهب الحياء، وإذا رأيت الصغير لا يوقر الكبير، والكبير لا يعطف على الصغير، فاعلم أنّه ذهب الحياء، وإذا كان الحياء هو خُلق الإسلام، فما أجمل أن نتخلّق به، وما أجمل أن يكون لنا من الحياء السياج الذي يحفظ على المسلم نور الإيمان، ويلبسه ثوب التقى، والطهر، والعفاف، ويكون مبعث نور، ومصدر بر، ومنار هدى، تتميز به شخصيته، وتظهر من خلاله ملامح عزته وكرامته.

فالحياء.. في النعمة شكر، وفي المحنة تسليم وصبر، وفي القضاء إنصاف وعدل، وفي معاملة الضعفاء والأرامل والأيتام عطف ورحمة ورفق، ومع الوالدين والأرحام صلة وبر، وفي الودائع أمانة ورعاية، وفي الرجال جمال وزينة، وفي النساء عفة وطهارة، وفي حفظ الأعراض غيرة ونخوة.

نسأل الله تعالى أن يرزقنا الحياء مادمنا أحياء لتهب علينا نسمات الرضا والقبول من رب الأرض والسماء.. اللّهمّ آمين.►

ارسال التعليق

Top