• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الخيال والتخيل عند الأطفال

إشراف: د. توفيق الواعي

الخيال والتخيل عند الأطفال
◄إنّ عقل الطفل لم ينضج بعد ذلك فيغلب الخيال على تفكيره وهو ما يسمى بأحلام اليقظة عند الكبار – خاصة المراهقين والمراهقات – فهو تفكير في غير الواقع، فلا تنزعج عندما تجد الطفل جالساً يفكر في شيء ما. فعندما نحدثه عن الجنة نقول: "فيها كل ما تحبه"، ونتركه يفكر فيها كيفما يشاء، وكذلك نقول له: "ربنا كبير وقوي جدّاً" ونتركه يسبح بخياله كيفما يشاء حتى يكبر وينضج عقله. ونضوج العقل، يسير في طريق معيّن ولابدّ من المرور بمراحل معينة منها عامل الزمن، وكثرة التجارب، والقدرة على استيعاب الأشياء ومعرفة جوانبها المختلفة... إلخ، ولهذا ترى الصبي في مراحل معينة يترك العنان لخياله ليسبح في بحور من الأوهام والتصورات الوردية أحياناً والغائمة أحياناً أخرى، وتستمر هذه المرحلة على هذا الاختبار أو ذاك، كما لا يستطيعون أيضاً أن يوفقوا بين سلوكهم وقدراتهم لأنّهم لا يستطيعون أن يقدّروا ما عندهم من استعدادات، ولأن قدرات الإنسان في هذه المرحلة في نمو مستمر إذ إنها لا تكتمل إلا بعد مرحلة المراهقة. إذاً فالدافع إلى هذا الإغراق في الخيال، عدم معرفة ما ينبغي وما لا ينبغي وعدم إدراكه الكامل للممكن وغير الممكن، وعدم ارتباط الأشياء بمسبباتها الحقيقية، فهو على هذا لا يقدّر الأشياء قدرها الحقيقي فيسبح بخياله الشارد في إتجاهات هلامية. كان يظن أن أباه يقدر على كل شيء حتى فعل المستحيلات، وكان يظن أن بلده ليس هناك مثلها، ويتوهم أنها تفعل الأعاجيب... إلى غير ذلك. وهذه الفترة تبدأ في الزوال شيئاً فشيئاً كلما أدرك الأشياء على حقيقتها. يكون خيال الطفل في سن ما قبل المدرسة واسعاً، ويؤثر الخيال على نمو شخصية الطفل، ويحرك نشاطه ويعطيه القدرة على الخلق والإبداع في اللعب والرسم وبناء المكعبات. وللخيال علاقة وطيدة بالملاحظة. فإذا أراد تلميذ أن يتخيل زهرة من نوع معيّن، فإنّه يجب عليه أوّلاً أن يلاحظ أنواعاً مختلفة من الزهور، حتى يمكنه أن يفرق بين هذه الزهرة وغيرها. وليس بوسع كل التلاميذ الصغار أن يتخيلوا، فالتخيل يحتاج إلى الملاحظة المتجددة والاستنتاج. ويشير الخيال إلى خواص نشاط الطفل وتفكيره. فالتلميذ المبتدئ مثلاً يختلق القصص الخيالية من وحي نشاطه وخبراته. والرغم في فهم مادة ما تُحرك الخيال والتحليل الذهني. وبدون الخيال لا يكتسب المرء القدرة على الخلق. ويتطلب الدرس العمل الذهني المركّز، كما يتطلب أيضاً نمو الخيال. ونمو الخيال مرتبط بالخبرة والذاكرة والمعرفة. وتبعث الطبيعة على الخيال، والخيال الابداعي يعمل على تحقيق الصورة التي يتمناها الإنسان للحياة. وقد أشار "ماكارنكو" إلى السعادة التي سيحظى بها إنسان المستقبل نتيجة لتحقيق تخيلاته. وعلينا أن نلقي الضوء الآن على نمو الخيال. يمر خيال الطفل بمرحلتين: 1-    الخيال الإيهامي: وبه يحقق الطفل الصغير رغباته التي لا يمكنه تحقيقها في الواقع. 2-    الخيال الإبداعي: ويكون نتيجة للنضج العقلي لطفل المدرسة. وهنا يوجّه الخيال إلى غاية علمية، ولا يقوم على الوهم. إنّ خيال الطفل في أوائل المرحلة الابتدائية، لا يكون أكثر من أوهام، فالأشياء التي لا يستوعبها التلميذ الصغير يسويها بالخيال. وهذه مرحلة من مراحل النمو العقلي. ويلعب الخيال في عملية المعرفة وفي السلوك دوراً كبيراً. ويجب علينا أن نعطي الخيال الحيوية اللازمة، وذلك لخدمة العملية التربوية. وفي المدارس الإعدادية يؤثر نمو التفكير على الخيال، ويقحم التلميذ نفسه في الواقع ويصبح منضبطاً، وهنا تتقهقر التخيلات الوهمية، وتتقدم التخيلات الهادفة التي لها مغزى ونحصل من ورائها على نتائج، فيرفض التلميذ المؤلفات الخرافية تدريجياً، بينما تأخذ المغامرات الموضوعية مكاناً متقدماً، ويستوعب التلميذ المغامرات معتمداً على المعرفة. ويجب أن نعرف أنّ الخيال مرتبط بالواقع، وهذا هو أساس الخلق والإبداع.   الخيال والتخيل: الخيال هو مستودع الآثار التي وصلت إلى العقل عن طريق الحواس. فهو الخزانة التي تخزن فيها صور المعلومات؛ بمعنى أنّها حافظة مصورة تمتاز عن حافظة اللفظ. والتخيل هو القدرة على استحضار تلك الصورة المفردة المخزونة بدون أن يكون للحواس دخل في ذلك. والقدرة كذلك على تكوين صور ذهنية مبتكرة. وهنا يمكن أن نفرق بين التخيل والتصور الذي هو عبارة عن استحضار صورة ذهنية سبق أن مرت على الشخص. والتخيل نوعان: حضوري واختراعي. فإذا استحضرت الصور المفردة كما علقها الطفل وبترتيبها الزماني والمكاني كان التخيل حضورياً. أما إذا انصرف العقل وابتدع صوراً جديدة مؤلفة من الصور المجردة المختلفة المخزونة في الخيال على مثال لا وجود له في الخارج كان التخيل اختراعياً، وهو التخيل الحقيقي.   خيال الأطفال والنشاط العقلي: التخيل عند الأطفال يشغل حيزاً كبيراً من النشاط العقلي للأطفال، مما يجعل التمييز بين الوهم والواقع أمراً صعباً على الطفل في الثالثة أو الرابعة. فقد يقص مشاهد أحلامه كما لو كانت حدثت له بالفعل. وقد يستغرق في أحلام اليقظة ذلك العالم الرحب الفسيح الذي يتحقق فيه كل رغبات الطفل حيث يعز تحقيقها في العالم الواقع. فقد يحكي كيف قتل ذئباً مفترساً، وكيف حمل بندقيته وطارد بها اللصوص. وهذا يبين لنا أن جزءاً كبيراً من أكاذيب الطفل في كثير من الأحيان حقائق واقعة، ويبين لنا – فضلاً عن ذلك – لماذا كان اللعب الإيهامي غالباً على نشاط الطفل. إنّ تخيل الطفل في هذه المرحلة تخيل جامح غير مقيد بقيود الواقع، غير خاضع لقوانين المنطق. والطفل يتخيل نفسه ممتطياً جواداً أو راكباً طائرة يقودها فيرى خلالها الأماكن التي يتشوق إلى زيارتها، فهو يخلق لنفسه عالماً وهمياً يتحقق فيه جميع رغباته التي لا سبيل إلى تحقيقها في عالم الواقع. وقد يستغرق في أحلامه هذه جزءاً كبيراً من حياته، فهذه البوصة حصان رائع، وهذا الخيط لجام متين، والكراسي المصفوفة عربات قطار ينقله من بلد إلى آخر، وهو قائد وأخوه الثاني عامل تذاكر وإخوته الآخرون ركاب القطار. وقد تقوم فيما بينهم منازعات بسبب منصب من هذه المناصب. هذا التخيل الحر وإن كان قليل الجدوى للتفكير المنطقي إلا أنّه أمر حيوي لحياة الطفل في هذه الفترة. وهو بمثابة صمام الأمن لصحته النفسية. ففي أحلام اليقظة إرضاء وهمي لحاجات نفسية لم تحظ بالإرضاء في عالم الواقع وتحقيق لرغبات متطرفة لا يمكن تحقيقها في هذا العالم، وتعبير عن رغبات عدوانية مكبوتة، وتلطيف بمشاعر النقص والإثم، وتخفيف من حدة المخاوف التي تزخر بها حياة الطفل في هذه الفترة.   القصص: يميل الأطفال بطبيعتهم إلى سماع القصص المختلفة. فالقصص وسيلة للتسلية وجلب السرور إلى النفس، وهي قالب يمكن أن يصاغ فيه كثير من حقائق العلوم المختلفة، هي وسيلة غير مباشرة لبث روح الفضيلة والتنفير من الرذيلة، وفيها كثير من المثل العليا الصالحة. ولا شك أنّ القصة من خير وسائل التربية، فهي تجسم الفضائل وأعمال البطولة وتجعلها في متناول إدراك الطفل. والقصة النافعة تستلزم شروطاً أهمها: 1-    أن تكون مناسبة لعقلية الأطفال. 2-    أن تلقى بصورة جذّابة حية. 3-    أن ترتب حوادث القصة ترتيباً تاريخياً حتى يسهل على الأطفال إدراك تطورها وربط الأسباب بالنتائج، وإبداء الحكم السليم على وقائعها. 4-    أن تكون حوادث القصة صحيحة، متفقة مع الواقع حتى لا تقود الأطفال إلى أعمال خيالية، وقد تضرُّ بهم كما تفعل القصص البوليسية التي تُعرض في دور السينما. 5-    أن تكون للقصة غايات تربوية محددة كالغايات العقلية أو الخلقية أو الاجتماعية أو الوطنية أو الجسمية. 6-    إن كان الغرض من القصة غرضاً خلقياً فيجب أن يختار من القصص ما يتمثل فيه أنبل الخصال، كالقصص الدينية. وإن كان الغرض اجتماعياً فيجب أن يكون بطل القصة ممن يتجسم فيهم الحب للحق ومعرفة الواجب.. وهكذا. 7-    لكي يشترك الأطفال اشتراكاً إيجابياً في القصة يستحسن أن يقوموا هم بتمثيل الحوادث ومحاوراتها...   التمثيل: يجد الأطفال في التمثيل – كما يجدون في القصص ما يرضي نزعة من نزعات الطفولة، وما يشبع ميلاً من ميولها. والطفل يشعر أثناء قيامه بالتمثيل بأنّه شخصية خاصة ليست شخصية الطفل الصغير الذي يتسلط عليه غيره، ويوجهه في كل خطوة يخطوها، بل هو شخصية ذلك البطل الذي يقوم بما قام به من أعمال.. ويلاحظ أنّ الميل إلى التمثيل ظاهر الأثر في كل مرحلة من مراحل الحياة، وليس مقصوراً على مرحلة معينة منها... والتمثيل وسيلة بديعة لتشويق التلاميذ لأداء واجباتهم المدرسية. وتتوقف الإفادة على مبلغ الحكمة في استخدامه، فهناك مدارس لا تعطي التمثيل حقه من العناية، والأخرى تسرف في استخدامه أو تقصر في تنظيمه، فلا تجني منه ما يرجى من فائدة.   فوائد التمثيل: 1-    إن ميل الطفل الطبيعي إلى التعبير بجسمه سبيل إلى جعل الحياة المدرسية، وما يوجد بها من أعمال جافة أو شاقة، أقل عسراً، وأكثر تشويقاً. 2-    عن طريق التمثيل تكون الحقائق والمعلومات أعمق وأبقى في عقول التلاميذ، لهذا كله أثره النافع في عملية التعلم. 3-    التمثيل حافز قوي يحمل التلميذ على العناية وحسن الإعداد ويظهر هذا في القطعة من التاريخ أو الأدب أو الحياة الاجتماعية التي يعدها التلاميذ في مسرحية. فالتلميذ لا يعمل في هذه الحال إرضاء لمدرسة أو طمعاً في درجة جيدة، وإنما بحثاً وراء تقدير زملائه واستحسانهم لتمثيله. وفي هذا ما يضفي الحياة على أعمال المدرسة. ولا يفكر أحد فيما للتمثيل من فضل في تدريس التاريخ في الفرق الأولى من المرحلة الأولى للتعليم، وذلك عن طريق الحركة والنشاط الجسمي للأطفال، ومحاولتهم التعبير عما يدرسون من التاريخ بقيامهم به عملياً كصنع الأهرامات والمقابر وملابس وأدوات قدماء المصريين.. إلخ. ومن الخير أنّه حين يرغب التلاميذ في تمثيل رواية تاريخية أن يقوموا هم أنفسهم بكتابتها أو وضع عناصرها وتأليف حوادثها من قراءتهم، حتى يكون لديهم الحافز للقراءة، وتفهّم كل ما يتصل بهذه الحوادث والعناصر من مكملات للتاريخ كزي الناس ومبانيهم وأدوات الحياة عندهم ونظام الحكم.. إلخ.   التمثيل للتسلية والسمر: مما يخلع على أعمال المدرسة روحاً جديداً وطابعاً طريفاً إعداد قطع للتمثيل يقوم بها التلاميذ أمام الآباء والمدرسين في المناسبات المختلفة. ولهذا الاتجاه أثر بليغ في نفوس الآباء والتلاميذ جميعاً، فضلاً عن أنّه يثير اهتمام التلاميذ بأعمالهم المدرسية، ويشجع الهيّاب على الظهور أمام الناس، ويبعث الجرأة في نفس الخجول ويضطر المندفع إلى شيء من ضبط نفسه، كما نرى فيه وسيلة لزيادة اهتمام الآباء بالمدرسة.►   المصدر: كتاب الإبداع في تربية الأولاد/ موسوعة الأسرة المسلمة (2)

ارسال التعليق

Top