• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الزمن لا يغير أحد

الزمن لا يغير أحد

نعمل في مكتب لتقديم اﻹستشارة والمساندة القانونية المجانية.. وفي يوم زارتنا سيدة في عباءة سوداء.. ضخمة الحجم طويلة وعريضة المنكبين.. وجهها أسود قبيح مخيف.. تشبه الرجال أكثر من النساء.. بدأ المحامون الرجال التسلل للخارج تجنباً ﻹستقبال شكوتها.. ومنهم من تصنع اﻹنشغال.. حتى لم يتبقى غيري ﻹستقبالها.. قد كنت قلقة في البداية من شكلها وكنت أتجنب النظر على قدر اﻹمكان وأحاول ألا أضحك على تعليقات زملائي المتخفية حتى لا أظهر العمل بشكل غير لائق.. حتى بدأت التحدث وهي مبتسمة ابتسامة قبيحة جداً.. وهذه هي حكايتها.. قالت: أنا سيدة لم أكن موفقة في الزواج طوال حياتي لنفور الرجال مني حتى وصلت ﻷربعين عام وأنا عذراء.. لم يطرق بابي رجل واحد.. ولم أكن أخشى إلا أن أموت وحيدة.. وكنت أتمنى أن يرزقني الله أطفالاً أحبهم وأرعاهم.. ولكن لم يشأ الله لي ذلك.. حتى جاءتني جارتي تعرض علي الزواج من مقاول يسكن بجوارنا.. أرمل ولديه أربعة أطفال.. بشرط أن أوافق على خدمتهم وألا يكون لي أية طلبات كزوجة.. أكون فقط خادمة.. ووافقت.. فهذه أول مرة يطلبني أحدهم.. وتزوجت.. وكنت ألاقي نفور من جميع الناس بما فيهم زوجي كما وجدت منكم هنا.. ومرت السنوات وأنا أرعى أولاده كأنهم أبنائي وغمرتهم بحبي وحناني حتى أصبحت لهم أما يحبونها ويقدرونها.. ورزق الله زوجي رزقاً واسعاً.. وأحبني كما أحبني أولاده.. وبدأ يعاملني كزوجة أخيراً بعد عدة سنوات وودعت العذرية.. أنا هنا ﻷن زوجي توفاه الله منذ عدة أيام وفوجئت بأنه كتب لي من أملاكه عدد من العقارات التي تقدر بالملايين.. ولم يعترض أولاده أبداً ولكنني أريد أن أعيد إليهم كلّ ما كتب لي.. وأريدكم أن ترشدوني لاتخاذ اﻹجراءات اللازمة. ثم أخرجت لي اﻷوراق والعقود التي تثبت صحة كلامها!! وتعجبت كيف لشخص أن يرفظ كلّ هذه الملايين بعيداً بجرة قلم ؟؟.. فسألتها وأنا أشعر بالخجل من نفسي وقد شعرت أنني أحبها اﻵن فإبتسامتها زادت جمالاً: ألا تودين اﻹحتفاظ بأي شئ.. عقار واحد على اﻷقل لو مرضت أو لو قسي عليكي أولاده أو الزمن؟ قالت: لا أريد أن أنقل كلّ شئ فهذه في النهاية أموالهم وليس لي حق في شئ.. وأنا يكفيني حبهم فهذا هو كلّ الرزق الذي اتمناه.. الذي رزقني الحب بعد مرارة المنع سيرزقني الستر في زمن الغدر. قمت بإتخاذ اﻹجراءات القانونية وتم نقل اﻷملاك إليهم بالفعل.. دون أن يبقى لها شئ على اﻹطلاق. كنت أفعل وأنا في حسرة على حالنا..

نعيب في الناس والعيب فينا..

حتى أهملنا من نحن من الداخل.. قد يكون خارجها قبيح ولكنه ليس أكثر قبحاّ من حكمنا عليها.. فكم من لألئ مدفونة في بيوت مهجورة ونحن لا نعلم.. هذه حكاية قناعة وحب ورضي..

هذا هو قلب سيدة ظلمنا أنفسنا بحكمنا على مظهرها.. ودفعت هي حياتها عطاءً رغم الرفض والقسوة.. وتنهيها عطاء رغم ما في الدنيا من غدر. لك سيدتي مني إعتذار على قسوتنا جميعاً.. على كبر أعمى أعيننا عن ما فيك من جمال وحب فقده كثير منا.

ارسال التعليق

Top