تطوّر عالم التكنولوجيا وتعددت وسائله بشكل كبير جدّاً خلال السنوات القليلة الماضية، وأصبح أطفال هذا الجيل مفتونين بعالم الكمبيوتر غير المحدود والمغري، الأمر الذي يطرح تحديات كبيرة على الأهل.
من المدهش حقاً أنّه حتى الطفل الصغير الذي لا يستطيع ربط حذائه بعد، أصبح في مقدوره استخدام أي جهاز إلكتروني مهما يكن متطوراً. فهو يستطيع أن يدخل إلى برامج الألعاب في أي جهاز خليوي، وإتقان أي لعبة مدرجة ضمن برنامجه. وفي إمكانه أيضاً إدارة جهاز "I Pad" والاستماع إلى الأغاني المسجلة عليه، والتنقل بين البرامج التلفزيونية العديدة، وانتقاء ما يعجبه منها.
يرفض بعض الأهل السماح لأطفالهم الصغار بالجلوس أمام أي شاشة، سواء أكانت شاشة تلفزيون أم كمبيوتر، أم أي جهاز إلكتروني آخر، قبل أن يبلغوا سن الثلاث سنوات، وذلك تبعاً لنصيحة العلماء المتخصصين في تربية الأطفال، والذين يعتقدون أنّ الطفل لا يجني أي فائدة من الوقت الذي يقضيه أمام الشاشات.
وأظهرت دراسة أجريت حديثاً على أطفال في إحدى الدول المتقدمة، تتراوح أعمارهم بين أربع وخمس سنوات، أنّ الأطفال يقضون سبع ساعات ونصف الساعة يومياً أمام شاشات الأجهزة الإلكترونية، أي بزيادة ساعة وسبع عشرة دقيقة أكثر مما كان يفعل الأطفال في العمر نفسه قبل خمس سنوات. ومن المستغرب أكثر أنّ الدراسة نفسها أظهرت أنّ بعض الأطفال، ممن لا تزيد أعمارهم على السنتين، يقضون نحو ساعتين يومياً أمام شاشة جهاز إلكتروني. ولو أجريت مثل هذه الدراسة على أطفالنا، لربّما جاءت النتيجة مقاربة لهذه النتيجة، وخصوصاً إذا تناولت أطفال الطبقة المتوسطة. فنتيجة لانتشار هذه الأجهزة انتشاراً واسعاً بين البالغين من أفراد هذه الطبقة، تعلم الأطفال استخدامها من خلال اللعب بها. مثلاً، اكتشف والد أحد الأطفال في إحدى الدول العربية، أنّ طفله البالغ ثلاث سنوات من العمر، استطاع أن يلتقط صوراً له ولزوجته على جهازه الخليوي. ونظراً لأنّ معظم هذه الأجهزة متنقلة، أصبح من السهل على الأطفال استخدامها في أي مكان يوجدون فيه: الباص، المدرسة، الشارع، الملعب، وحتى في غرف نومهم. ففي أيامنا هذه، أصبحت الأجهزة الرقمية والإلكترونية جزءاً من حياة الأطفال.
ونظراً لإدراك الأهل أهمية أن يكون في مقدور أطفالهم استخدام أنظمة التكنولوجيا وأجهزته الرقمية، ليحققوا نجاحات كبيرة في المدرسة وفي دراستهم الجامعية مستقبلاً، فإنّهم من جهة يرغبون في أن يجيد أطفالهم التعامل مع هذه الأجهزة، لكنهم في الوقت عينه لا يستطيعون التغاضي عن الشعور بالخوف على أطفالهم من هذه الأجهزة، خصوصاً خوفهم من استخدام أطفالهم برامج المحادثة (الشات) التي تشكل خطراً حقيقياً ومؤكداً على الأطفال.
أمّا التحدي الحقيقي الذي يواجه الأهل، فهو إيجاد وسيلة لمساعدة أطفالهم على الاستفادة من التكنولوجيا المتطورة، إلى جانب ضمان أن يعيشوا طفولتهم بشكل كامل، وذلك بأن لا يتوقفوا عن اللعب وعن القياد بأنشطة ضرورية لنموهم، وعن قراءة الكتب، وعن التعلم وفق أساليب التربية التقليدية المجربة والحقيقية.
لقد قارن التربيون بين تأثير سماع الطفل قصصاً يقرؤها له الأهل، وتأثير سماع القصص نفسها مسجلة على شريط فيديو أو على "الكتاب الذكي" (وهو كمبيوتر صغير مسجل عليه قصص قصيرة يستطيع الطفل الاستماع لها بنقرة صغيرة على الشاشة بقلم خاص). فلاحظوا أنّ الجزء من دماغه المتعلق بالأحاسيس وبحل المسائل، ينمو بشكل أسرع في الحالة الأولى مما في الحالة الثانية، وأنّ قدرته على التركيز والاستيعاب تزداد أيضاً. من هنا ضرورة أن لا يصبح استخدام الطفل التكنولوجيا بديلاً عن الأنشطة الأخرى الضرورية لنموه. وإذا استخدم الأهل التكنولوجيا المناسبة لسن طفلهم، فسيتعلّم أنّ هذه التكنولوجيا يمكن أن تكون أداة تساعده على التعلم. ولتحقيق هذا الهدف، يمكنهم حفز ذهنه، وذلك عن طريق توقيف جهاز الفيديو أو برنامج اللعب، وسؤاله مثلاً: "ما الذي سيحصل في اعتقادك؟"، أو الإشارة إلى شيء ما على الشاشة والطلب منه التركيز عليه لفترة محدودة، ثمّ تغطيته وطرح أسئلة عليه تتعلق بهذا الشيء.
- وجهات نظر:
وعلى الرغم من النتائج حول التأثير السلبي لاستخدام التكنولوجيا دون الأنشطة الأخرى في نمو الطفل، لايزال بعض الأطفال المغرمين جدّاً بالتكنولوجيا المتطورة يعتقدون أنّ السماح لأطفالهم الصغار بدخول هذا العالم هو بمثابة استثمار في مستقبلهم، لذا يقومون بشراء جهاز إلكتروني لطفلهم بعد عيد ميلاده الأوّل، ولا يبالون إن أمضى الطفل جُل وقته في اللعب على الجهاز.
ليس هناك اتفاق بين المختصين بشؤون الطفولة حول تأثير التكنولوجيا الإلكترونية في صحّة الطفل ونموه العقلي. فالبعض منهم، ممن يبدون قلقهم من انغماس الأطفال وانجذابهم نحو الأجهزة التقنية، يربط بين الوقت الذي يقضيه هؤلاء الأطفال أمام الشاشات، وبعض الظواهر الصحّية والسلوكية لديهم، مثل البدانة المفرطة، والصعوبة في التركيز والانتباه، والأداء العلمي الضعيف، والعدائية الزائدة. والأهم من هذا، يعتقد هؤلاء أنّ التكنولوجيا والأجهزة الرقمية تسرق الأطفال من حاجتهم إلى النشاط الخلّاق، كحاجة أساسية وضرورية جدّاً لنموهم. ومن جهة أخرى، هناك مَن يعتقد، من خبراء تربية الأطفال أنّ التكنولوجيا تجعل التعليم مسلياً وممتعاً للأطفال، وتفسح المجال لهم للاستكشاف ولحل أي مسألة صعبة، من دون محاولة استخدام عقولهم.
وبشكل عام، ينصح التربويون الأهل بأن يحددوا الوقت الذي يمضيه طفلهم أمام الشاشات، إلى جانب اهتمامهم بنوعية البرامج التي يشاهدها. فقد أظهرت دراسة تابعت نمو الأطفال من عمر ثلاث سنوات حتى سن المراهقة، أنّ الأطفال الذين شاهدوا برامج تلفزيونية ثقافية لفترات قصيرة ومحددة وهم في عمر أربع سنوات حصلوا على علامات أعلى عندما أصبحوا في سن المراهقة، وأولوا أهمية أكبر للتحصيل ولقراءة المزيد من الكتب، من الأطفال الذين كانوا يشاهدون برامج تلفزيونية ترفيهية فقط عندما كانوا في العمر نفسه. فمحتوى برامج الكمبيوتر، أو التلفزيون، هو الذي يجعل من التكنولوجيا أداة تثقيفية. فالبرامج المدروسة جيِّداً، والمخططة بطريقة علمية، يمكن أن تُحسّن مهارات الطفل الأدبية والحسابية، وترفع من درجة استعداده للتعلم.
أمّا بالنسبة إلى الأطفال الذين لا يزالون في عمر السنتين، فالجدل لا يزال قائماً حول تأثير التكنولوجيا الإلكترونية فيهم وفي الأطفال الذين تزيد أعمارهم قليلاً عنهم. فقد يتعلّم الطفل في هذا العمر حرفاً يراه على الجهاز الخليوي، تماماً كما يتعلمه لو كان مكتوباً على ورقة. ومع ذلك، لم يتوصل التربويون بعدُ إلى توافق حول ما إذا كان الأطفال الصغار يتعلّمون أشياء أخرى عن طريق الأجهزة الإلكترونية لا يستطيعون تعلمها من مصادر أخرى، وما هي النتائج بعيدة المدى لأسلوب التعلم باستخدام التكنولوجيا في هذه السن المبكرة.
- ضرورة التنظيم:
المهم ليس التكنولوجيا، إذ إنّها في حد ذاتها ليست هي المشكلة، بل المهم هو كيف نستخدمها، وكيف ننظم طريقة وأوقات استخدامها؟ فكما تنظم الأُم وجبات طعام طفلها وتحدد نوعيته بحسب فترات نموه، عليها أن تقدم له، عندما يصبح في العمر المناسب، نوعية مختارة من الوسائل التقنية تتناسب وسنه، وأن تساعده على التفكير في ما رآه وسمع، وأن تحرص على أن لا يكون ذلك على حساب واجبه المدرسي أو نشاطه الجسدي أو علاقته بالعائلة أو بالأصدقاء، لا على حساب تنمية مهاراته الاجتماعية. وإذا كان الطفل صغيراً، يفضّل أن تلعب الأُم، أو تشاهد مع طفلها، ما تنتقيه من برامج، ثمّ تناقشه في ما يراه. فهناك كمبيوترات صغيرة مخصصة للأطفال، بسيطة ومسلية، يمكنها أن تستعملها مع طفلها عندما يكون جالساً في حضنها، حيث يستطيع الطفل ممارسة كتابة أحرف أو أرقام، ورسم بعض الصور، فتستمع هي وطفلها بالوقت الذي يمضيانه معاً.
بالطبع، من الحكمة أن تحمي الأُم طفلها من البرامج التي تتضمن مشاهد مخيفة وعنيفة، ومن البرامج التجارية المفرطة في إعلاناتها. فالأطفال، تحت سن الثامنة، لا يستطيعون التمييز دائماً بين ما هو خيالي وواقعي. والأطفال الصغار يتعلمون مما يرون ويقلّدونه. لذا، إذا رأى الطفل أحداً يضرب أحداً آخر على رأسه، فلا تستغرب الأُم إن رأت طفلها يوماً ما يقوم بالتصرف نفسه مع شقيقه أو شقيقته أو أي طفل آخر، أو حتى معها في نفسها. وبشكل عام، يجب أن تكون برامج الكمبيوتر والتلفزيون مفصلة بما يتناسب مع مراحل نمو الطفل وتطوره، وأن تتضمن قصة بسيطة خالية من التعقيدات، وأن تتناسب شخصيات القصة مع قدرات الطفل الاستيعابية، بحيث يستطيع التواصل معها، وأن تتضمن الكثير من التكرار، بحيث تترسخ في ذهن الطفل ويتفاعل معها.
- الاستخدام الآمن للتكنولوجيا:
يدرك الخبراء فائدة استخدام الطفل أجهزة التكنولوجيا المتطورة، وقيمتها فنموه الذهني والنفسي. فمجرد معرفة الطفل كيفية استخدام الكمبيوتر يكسبه ثقة بقدراته. فبرامج الكمبيوتر المعلوماتية، والوسائل التقنية الأخرى المتعددة، تفتح آفاقاً أمام الأطفال لم تكن متوافرة من قبل، إذ أصبح في مقدور الطفل، وبنقرة إصبع، أن يرى كيف يخرج النحل من الشرنقة، وكيف تتفتح الأزهار، وكيف تُحلب البقرة، وكيف ترضع صغار الحيوانات من أُمّهاتها. كما أنّ في إمكانه أن يتعرّف إلى أنماط عيش أخرى لأطفال من سنه، وعلى أسلوب حياتهم. وبنقرتين على الشاشة، يمكنه أن يدخل أيّ متحف ويشاهد روائع الماضي وآثاره.
إنّ من مسؤولية الأهل تعليم طفلهم دخول عالم التكنولوجيا بفاعلية وأمان، ومساعدته على تعلم الاستفادة من هذا العالم. وعندما يجلس الطفل أمام جهاز الكمبيوتر، عليهم الحرص على أن يكون أحد من البالغين منهم إلى جانبه، ليراقب ما يراه، ويوجهه نحو البرامج ذات القيمة العالية. والأهم من هذا، أن يقوموا بإلغاء برامج المحادثة، نظراً لخطورتها على الطفل. وعلى الوالدين أن يختارا لطفلهما برامج الألعاب الخالية من العنف والإعلانات التجارية. وعندما يصبح الطفل في عمر السبع سنوات، يبدأ في فهم أنّ الإعلانات التجارية تحاول إغراءه وزيادة رغبته في الإقبال على شراء ما يراه معروضاً لذا عليهم أن يعلّماه أن لا يجري وراء كلّ ما يُعرض على الشاشة.
· القواعد التي يجب أن تتبعها الأُم:
من السهل على الأُم وضع حدود لاستخدام طفلها هذه الأجهزة عندما يكون في عمر السنتين، أكثر مما عندما يصبح في عمر 12 سنة. وللوصول إلى هذا الغرض، عليها اتباع هذه الخطوات حال بلوغ طفلها السنتين من عمره:
- إغلاق الأجهزة: يُبقي الكثير من الناس التلفزيون مفتوحاً طوال اليوم، حتى لو لم يكن هناك أحد يشاهده، وقد يحمل البعض منهم جهاز التليفون أينما حل، حتى إلى مائدة الطعام. إنّ الإسراف في استخدام التكنولوجيا لا يترك مجالاً للتواصل بين أفراد الأسرة الواحدة. ولتعليم الطفل الموازنة بين استخدام التكنولوجيا والأنشطة التعليمية الأخرى، على الأُم أن تكون مثالاً جيِّداً لطفلها، بإغلاق جميع الأجهزة وبتخصيص بعض من وقت انشغالها بالتكنولوجيا للقراءة أو للقيام ببعض الأنشطة مع طفلها أو مع العائلة مجتمعة.
- الاستغناء عن المربية الإلكترونية: يَعتبر بعض الأهل أجهزة التكنولوجيا الحديثة بمثابة مربية للأطفال. فما إن يبدأ الطفل في التململ حتى يضعوه أمام التلفزيون ليشاهد أفلام الكرتون. ومن المؤكد أنّ من الصعب على الأُم أن تكون مستعدة دائماً للترويح عن طفلها بالقراءة واللعب معه طوال الوقت. وبما أنّ الطفل في حاجة إلى التسلية الدائمة، يمكنها أن تشرك طفلها في أي نشاط ترغب هي في القيادة به، أو أن تقوم بنشاط يمكن أن يثير اهتمام طفلها. فمثلاً، يمكنها أن تترك طفلها يلعب بالقرب منها أثناء قراءتها بريدها الإلكتروني، ما قد يثير فضوله فيأخذ في مراقبتها.
- تطوير عادات تكنولوجية صحّية في وقت مبكر: قد يشعر الأهل بالفخر من قدرات طفلهم على إجادته اللعب على جهاز الكمبيوتر لساعات عدة. وقد تشعر الأُم بالراحة لأنّ طفلها يمضي ساعتين وهو يلعب بجهازه الخليوي ولا يتململ من وجوده معه في السيارة. إنّ تمضية الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين سنتين وست سنوات، أوقاتاً طويلة في اللعب على الأجهزة الإلكترونية، قد تؤدي إلى إدمانهم هذه الأجهزة، ولا تترك لهم الوقت للاستمتاع بأنشطة أخرى ضرورية لنموهم الذهني والجسدي والاجتماعي. من هنا، على الأُم أن تحدد الوقت المسموح بأن يقضيه طفلها مع هذه الأجهزة. فمدة عشرين إلى ثلاثين دقيقة، مرّتين في اليوم، تُعتبر كافية جدّاً.
- تعليم الطفل كيف تساعد التكنولوجيا على التعلم: حل برنامج "غوغل" اليوم محل ما كان يمثله الكتاب من أهمية بالنسبة إلى الأجيال السابقة. ومع ذلك، لايزال التربويون قلقين بهذا الشأن، لأنّ من السهل الحصول على المعلومة، وبسرعة، عن طريق "غوغل"، دون الحاجة إلى التوصل إليها عن طريق التفكير والإبداع. في جميع الأحوال، هناك حاجة إلى أن نعلّم أطفالنا الاستفادة من "غوغل"، ولكن علينا أن نعلّمهم أيضاً أهمية مهارات التفكير البارعة.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق