• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

العبادة.. صراط السعادة

ميثم السّلمان

العبادة.. صراط السعادة
◄إنّ السعادة الحسية لا تكتمل إلا إذا جعلها الإنسان في الخط الإلهي وإلا تحولت اللذة إلى ألم وشقاء. وكذلك الحال بالنسبة للسعادة المعنوية، فإنها إذا ابتعدت عن خط الله تتحول إلى الطمع والطغيان والجبروت. وما الجبابرة والظالمين والطغاة إلا أولئك الطالبين للّذة المعنوية بالحصول على المجد والسلطة والجبروت، والتي لا تَجِّر على الإنسان وعلى مجتمعه إلا الشقاء والويل. لذا فإنّ الضابط الأساس للسعادة الحسية والمعنوية هو الشرع الإلهي الحنيف، وخير مُعين على الالتزام بهذا الشرع هو العبادة التي فرضها الله سبحانه وتعالى على الناس لتكون لهم حياة. "يا مولاي، بذكرك عاش قلبي، وبمناجاتك بردَّت ألم الخوف عني".   علاقة العبادة بالسعادة: والسعادة في تمامها تتحقق في العبادة، والعبادة يجب أن لا تكون مجرد حركات جسدية ظاهرية. العبادة يجب أن تكون إقراراً قلبياً وحركة وجدانية. فالعلماء الروحانيون يعرِّفون العبادة: بأنها التسليم المطلق والخضوع الكلي والاستسلام التام. بمعنى أنّ الإنسان يجب أن يستشعر هذه الحالة عندما يصل إلى محراب العبادة فيشعر بالاستسلام التام بين يدي الله سبحانه وتعالى بحيث يوجه تركيزه المعنوي، بوصلته القلبية ووجدانه، في اتجاه القبلة، في اتجاه واحد وحركة شمولية واحدة لا متعددة. وفي هذا السياق ينبغي التركيز على نوعين من العبادة: 1-    العبادة الظاهرية، وهي تُعنى بالشكل الظاهر للعبادة مثل الغسل والمسح في الوضوء، والركوع والسجود في الصلاة، والإحرام والطواف والسعي والرمي، في الحج، وما إلى ذلك. 2-    العبادة الباطنية، وهي تُعنى باستحضار المضامين والأبعاد المعنوية للعبادات، والأحاديث كثيرة التي تتحدث عن مضامين وأبعاد معنوية للصلاة والصيام وسائر العبادات. والعبادة الظاهرية وإن كانت ضرورية من مقدمات العبادة الباطنية، ولا تصح العبادة بدونها، إلا أنها إذا لم تقترن بالمضامين المعنوية للعبادة الباطنية، فإنها لا تؤتي ثمارها. فما لم يستشعر العابد بأنّه مسافر بقلبه إلى الله لن يستشعر – على سبيل المثال – بأنّه انتقل إلى محطة لتعبئة الوقود الوجداني والعاطفي الذي يعينه على الثبات على الصراط، وعلى الخط المستقيم. لذا ينبغي للإنسان إذا أراد أن يستشعر لذة في العبادة أن يلتفت إلى كمال العبادة. وكمال العبادة ليس في الحركات الجسدية فقط. فهناك مضامين وأبعاد معنوية ونفسية عميقة للعبادات حيث تترك إيحاءات كبيرة جدّاً على الإنسان ينبغي أن نستوعبها. لذلك دعونا نسأل أنفسنا التالي: لماذا سن الله سبحانه وتعالى الوضوء في مواضع محددة دون غيرها كالوجه واليد والرأس والرجل؟ لماذا يوجد الركوع في الصلاة؟ لماذا نسجد؟ ما الفرق بين الإقامة والآذان في الصلاة وما معنى تكبيرة الإحرام؟ لماذا يستحب عند الآذان النظر نظرة مستقيمة للأمام وعند الإقامة النظر إلى الأسفل إلى الصدر؟ لذلك علينا أن ندرك هذه الأمور وغيرها الكثير من المعاني الباطنية للعبادات إذا أردنا أن نصل إلى السعادة المعنوية المرتبطة بالعبادة.   الأبعاد الباطنية للوضوء: رَوَىَ الشيخ الصدوق في كتاب: "من لا يحضره الفقيه"، قال: جاء نفر من اليهود إلى رسول الله (ص) فسألوه عن مسائل، فكان فيما سألوه: أخبرنا يا محمد لأي عِلَّة توضأ هذه الجوارح الأربع وهي أنظف المواضع في الجسد؟ قال النبي (ص): "لما أن وسوس الشيطان إلى آدم (ع) دنا من الشجرة فنظر إليها فذهب ماء وجهه، ثمّ قام مشى إليها وهي أول قدم مشت إلى الخطيئة، ثمّ تناول بيده منها ما عليها، فأكل فطار رأسه وبكى، فلما تاب إلى الله – عزّ وجلّ – عليه فرض الله عليه وعلى ذريته تطهير هذه الجوارح الأربع، فأمر الله – عزّ وجلّ – بغسل الوجه لما نظر إلى الشجرة، وأمر بغسل اليدين إلى المرفقين لما تناول بهما، وأمر بمسح الرأس لما وضع يده على أم رأسه، وأمر بمسح القدمين لما مشى بهما إلى الخطيئة". ولذلك شَرَّع الله سبحانه لنا الوضوء لأننا من ذرية أبينا آدم (ع). وقد ورثنا التجارب والقابليات والميول والأمزجة التي كانت تختلج وتعيش في قلبه، فآدم رفع يده للتفاحة، آدم نَكَّس رأسه، آدم مشى بقدميه إلى الشجرة، فإذا أدركنا أنّ الوضوء شُرِّع لهذه الأسباب فسوف نتوضأ الوضوء الحقيقي وسوف نصل إلى السعادة من الوضوء. مثل الإنسان الذي تطهّر ويشعر بأنّه لم يتخلص من الجراثيم الظاهرية فقط، بل تخلص من الجراثيم المعنوية التي تعيش في يده، وعلى الإنسان أن يتضجر لكل معصية ارتكبها بيده وكل معصية ارتكبها بعينه، وكل خطوة مشى بقدميه فيها إلى الشيطان أو إلى الملذات أو إلى الهوى، علينا أن نعيش هذه الحالة إذا أردنا للوضوء أن يترك حالة معنوية تجلب السعادة.   الأبعاد الباطنية للصلاة: أما الصلاة، فما أعظم أسرارها! وما أكثر الأنس الذي يعتمر قلوب من أدرك حقيقتها! فالصلاة لها لذة – بكل معنى الكلمة – لمن أقبل على وجه الله، ربما يخطئ الإنسان في الصلاة فيستغرق في التأمل باللذائذ الحسية ويقبل على وجه الحور العين فتُنسِب عبادته إلى عبادة التجار. والمفروض أن يقبل على وجه الله وليس على اللذائذ النفسانية وإن كانت مشروعة وهي نتائج طبيعية للسلوك الحسن في الآخرة ولكن على الإنسان أن يعيش الإقبال على وجه الله فقط. الآذان والإقامة: كذلك يجب أن يلتفت العابد إلى الفرق بين الآذان والإقامة؟ الآذان هو: الخطاب الظاهري للجوارح والخطاب الظاهري للناس. الخطاب: (الله أكبر) المذكِّر للجوارح الخارجية ولمن يسمع بأذنية ويرى بعينه، ولذلك يستحب أن يكون الوجه منصوباً. أما الإقامة: فهي الخطاب الموجه للقلب والجوارح. وفي "الآداب المعنوية للصلاة": "الآذان هو الخطاب للجوارح وأما الإقامة فهي الخطاب إلى الجوانح" فينبغي أن ندرك أنّ الإقامة هي الخطاب للقلب: يا قلب، الله أكبر، الله أكبر من كل شيء، يا قلب أنت مقبل الآن على وجه الله فاستعد. وعلى سبيل المثال تصوروا لو أنّ إنساناً لديه موعد مع صاحب شركة أو مديرها لنيل وظيفة ما في هذه الشركة، فمن الطبيعي له قبل أن يقبل على هذه المقابلة، أن يتهيأ ويستعد، أن يتزين وأن يتعطر، والإقامة كذلك هي تلقين القلب: يا قلب أنت مقبل على الحبيب، أنت مقبل على جلالة الملك، أنت مقبل على السلطان، فهذه التهيئة ضرورية ليكون القلب مستعداً لهذا اللقاء. فإذا لَقَّنا القلب من خلال الإقامة التلقين المبارك (الله أكبر) أدركنا معنى الله أكبر التي سنُسأل عنها في يوم القيامة يوم يأتي الملك ويسأل لماذا قلت الله أكبر في صلاتك وكان الهوى أكبر، وكان الجاه أكبر، وكانت الأموال أكبر، وكان السلطان أكبر، وكان النظام العالمي أكبر؟ لماذا لم يكن الله أكبر؟ هذا السؤال الذي سوف نُسْأل عنه في ذلك اليوم، فعلينا أن نلقن القلب، فإذا لُقِّنَ القلب بأنّ الله أكبر، وأقبل هذا القلب على الله وسوف يبتهج عندما يصلي وسوف يشعر بالسعادة المعنوية عندما يصلي، أما إذا لم نلقن القلب فلا قيمة معنوية لصلاتنا. الصلاة ليست مجرد حركات ظاهرية فقط، ولكن المسألة أن نصل إلى اتصال القلوب بالله، أن نصل إلى لب الوصال مع الله، أن نستشعر بأنّ قلوبنا محكومة ومقبوضة في يد الله. أن نصل إلى حالة التبرم والضيق الشديد عند الإبتعاد عن الله "وهيمت قلبه لإرادتك" الهيام هو العطش الشديد للإبل لأنّ القلب أصبح مرتبطاً بالله ويهيم بحبه. الدعاء لب العبادة، سواء كانت العبادة صلاة أو صوماً أو حجاً أو زكاة أو أي شيء آخر فإنّ مسك الختام في العبادة هو الدعاء والمناجاة. وإن كانت ترمي إلى الجزاء الأخروي إلا أنّ سعادة الطلب من الله والخلوة به في النهار وفي الليل مما يجلب السعادة المعنوية التي لا تضاهيها سعادة. نقرأ في مناجاة الزاهدين للإمام زين العابدين (ع): "وَاغْرِسْ في أفئِدَتِنا أشجارَ مَحَبَّتِكَ" فعلينا أن ندرك هذه الأسرار في الدعاء إذا أردنا أن نستشعر هذه اللذة. وإذا أردنا أن ننقطع عن الشواغل الحسية لكي تتولد السعادة المعنوية في قلوبنا. وإذا كبّرنا، أتعرفون ماذا تعني هذه التكبيرة؟ لماذا نرفع يدينا إلى قرب الأذنين؟ ونقول للدنيا يا دنيا ابحثي عن بديل لك، نحن الآن مقبلون على وجه الله، كأننا نرمي الدنيا وراء ظهورنا لنقبل على الحبيب لنأنس بالحبيب ولننتظر إشارة من الحبيب لنكون كما يريد ولنبتهج بلقاء الله لنأنس بدمعة صادقة تهطل على الوجنة ونحن نصلي لتحفر على خدودنا: أحبك يا الله. هذه هي الغاية وهذا هو السر في الوصول إلى السعادة المعنوية من الصلاة، والسعادة المعنوية من العبادة فالإنسان عندما يركز فقط على العبادة الظاهرية لا يعرف هذه السعادة. ويكون قلبه ميتاً وقلبه متصحراً بعيداً عن الذكر فربما يذكر الله لساناً ولكن لا يذكر الله قلباً وعقلاً. المسألة ليست في الذكر اللساني، المسألة في الذكر الوجداني والقلبي والحسي أن يكون الوجود كله لله. الإمام زين العابدين (ع) يقول في دعاء أبي حمزة الثمالي: "يا مولاي بذكرك عاش قلبي" فالإنسان الذي يريد أن يستشعر السعادة عليه أن يبعث الحياة في قلبه ليكون مصداقاً للآية الكريمة: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) (الأنعام/ 122). أما القلب المتصحر والقلب الذي يعاني من الجفاف الشديد والقلب الغافي الذي لا يبكي حتى على أبي عبدالله الحسين (ع)، هذا القلب بحاجة إلى صلاة استسقاء معنوية كي يُنْزِل الله سبحانه وتعالى عليه محبته ويروي هذا القلب بينابيع الخشوع ويروي هذا القلب بأنهار المحبة له سبحانه. "يا مولاي بذكرك عاش قلبي وبمناجاتك برَّدت ألم الخوف عني" عندما نتعامل مع المناجاة يجب أن ندرك بأنّ المناجاة علاج قلبي ويجب أن يحاسب الإنسان نفسه ويرى حصيلة الحساب في نهاية اليوم: هل يعيش الافتقار أو يشعر بالافتقار؟ فليقرأ مناجاة المفتقرين وإذا كان يريد أن يتعرف إلى قيمة ذكر الله فليرجع إلى مناجاة الذاكرين ويتعامل مع المناجاة كأنها وصفة قلبية.   علاقة اللذة العبادية بالسعادة: في بعض الأحيان يصلي الإنسان يصوم ويزكي ويجاهد ولكن لا يستشعر لذة في عبادته فهل في عبادته خلل؟ قد تكون العبادة التي ليس فيها لذة أقرب إلى الله من التي فيها لذة، نحن يجب أن نطلب الله ولا ننشغل بلذة الوصال مع الله. وفي بعض أدعية أهل البيت تذكر حُجُب النور وهي أعمال حسنة وإيجابية، ولكنها تحجب الإنسان عن النور. أما حُجُب الضلال فهي تبعات المعاصي والظلمات. فعلى الإنسان أن يدرك بأنّ المطلوب منه أن يخترق حجب النور ليصل إلى المُنَوِّر وليصل إلى الله، فاللذة في ذاتها ليست مطلوبة، فهي نتيجة حتمية لمن يُقبل على وجه الله. ولكن في بعض الأحيان قد يحدث هناك تضارب في المصالح الدينية. قد يكون تكليفي الشرعي أن آخذ رجلاً مصاباً في حادث مروي إلى المستشفى ولا توجد لذة في هذا العمل، وفي المقابل إذا أخذته إلى المستشفى لن أصل إلى المسجد ولن أحضر وقت الدعاء والمناجاة مع الله، فاللذة المعنوية هي في الذهاب إلى المسجد، ولكن تكليفي الشرعي هو في أخذ هذا الجريح من الشارع إلى قسم الطوارئ بالمستشفى. فعلينا أن ندرك أنّ اللذة لا تُطْلَب في ذاتها. حيث أنّ السعادة هي النجاح في الدنيا والفلاح في الآخرة ويجب أن لا نحصر معنى السعادة باللذة. اللذة هي من تبعات السعادة، ولكن في بعض الأحيان العبادة ليس فيها لذة. وهذا لا يعني بأن لا أقبل على العبادة فقد تكون هذه العبادة أقرب إلى الله من تلك العبادة التي أجد فيها الأنس. العبادة التي ليس بها لذة يكون فيها اضمحلال للذات ويكون فيها انتهاء للأنا وفناء للكل. بها ذوبان لله "اعبدوا الله لأنّه أهل للعبادة". أمّا تلك العبادة التي أقدم عليها بسبب اللذة فأنا كذلك أريد أن أستمتع في العبادة ويجب أن يكون الاستمتاع واللذة والسعادة المعنوية نتائج حتمية للإقبال على وجه الله فالإنسان يقبل على وجه الله. وإذا أُنزلت عليه السكينة وإذا أنزلت عليه السعادة وإذا أنزل عليه الذكر وإذا أُنزلت عليه محبة الله فهو في فضل من عند الله سبحانه وتعالى. فيجب أن يُقْبِل على وجه الله بغض النظر عن اللذة. طبعاً هناك مذهب اللذة وهو مذهب فلسفي غربي وهو قائم على اللذة الحسية كغاية للحصول على السعادة. بينما نحن عندما نتعاطى مع السعادة المعنوية وبالذات في الأمور التعبدية لا يجب أن نركز على اللذة لأنّ اللذة نتيجة وليست غاية، فلا تحولوا النتيجة إلى غاية.   الأنس في العبادة: الآن نقف عند ثلاثة فقرات أو محطات فيما يتعلق بالعبادة والطريق للأنس في العبادة في مناجاة المريدين للإمام زين العابدين (ع): المقطع الأوّل: "وَمَلأتَ لَهُمْ ضمائِرَهُمْ مِنْ حُبِّكَ". فالضمير الذي يعيش حب الله والأنس بطلب ما يريد الله واللذة في قضاء الوقت مع الله وتذكر الله وخوف الله ومراعاة أوامر الله ونواهيه، هذا الضمير من الطبيعي أن يتجسد بالصورة المطلوبة. السلوك ما هو إلا حركة خارجية للأفكار والمعتقدات والرغبات والميول والأمزجة والانفعالات ولكل ما يحويه النظام الباطني للإنسان. فإذا أردنا تغيير السلوك فلنغير الباطن وتلقائياً يتغير الظاهر. فالسلوك ترجمة خارجية وليس باطنية وإذا وصل الضمير إلى مرتبة الهيام بحب الله فمن الطبيعي للجوارح الخارجية أن تسعى إلى مواطن عبادة الله. نقرأ في دعاء كميل "وعلى جوارِحَ سَعَتْ إلى أوْطانِ تَعَبُّدِكَ طائِعَةً"، الجوارح ناتج الإرادة، لأنّ الضمير يعيش حب الله والقلب كله يعيش حب الله، فمن الطبيعي للسلوك الخارجي أن يعكس باطن الإنسان والباطن يتمظهر بالظاهر، هذه قاعدة فإذا كان الإنسان باطنه كله حب وكله مراقبة لله فمن الطبيعي أن يعكس السلوك الخارجي هذه الحالة، وكذلك الظاهر يتبطن، فالمسلمة تقول أنا أحب الله ولكن لا أرتدي الحجاب فمن الطبيعي لهذا الظاهر أن يترك الأثر السلبي في الداخل، وإنسان يقول أنا أحب الله ولكني سوف أرتدي هذه الملابس الشاذة عن المألوف، وسوف أعيش هذه الحالة، هذا الظاهر يتبطن، ومن الطبيعي أن يترك أثراً بالغاً على الشخصية. المقطع الثاني: "فَبِكَ إلى لَذِيذِ مُناجاتِكَ وَصَلُوا". الله سبحانه وتعالى يهدي الإنسان بنور الاستبصار. والإنسان تارة يهتدي إلى طريق الله بالآثار الخارجية، وتارة يهتدي بمراقبة الله وبرؤية الله برؤية الرقابة الإلهية عليه، كما تجلت في دعاء الإمام الحسين (ع) في يوم عرفة "عَمِيَتْ عَيْنٌ لا تراكَ عليها رَقيباً". فالعين بلا شك ليست العين البصرية، بل العين هي العين الصدرية الصادرة من القلب والفؤاد المليء بحب الله. لا يستطيع أحد أن يصف لذة المناجاة إلا من تذوَّق المناجاة. فبادروا إلى المناجاة. إلى الجلوس في لحظات الخلوة مع الله، وابحثوا عن اللحظات التي تسافر فيها قلوبكم إلى الله. وابحثوا عن اللحظات التي بها لذة لا يستسيغها أهل الدنيا بل تناسب أولئك الذين ارتبطوا بنافخ الروح فارتبطوا بالله سبحانه وتعالى. المقطع الثالث: "فَيا مَن هو على المُقْبِلِينَ عليه مُقْبِلٌ" أقبِلْ على الله وهو سوف يقبل عليك. قال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ) (البقرة/ 186)، والله أقرب إليك من حبل الوريد ولكن أنت تغفل. والإنسان بدون منبهات حسية يغفل. وقد تجلس مع أحد أصدقائك ولكنه قد يدخل في عالم تصوري وخيال ذهني، بحيث يغفل عن وجودك لأنّه دخل في عالم آخر. متى ما عشت حالة الذكر الدائم لله فلن تغفل عن الله وسوف يكون الله موجوداً معك والنتيجة الحتمية هي (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) (البقرة/ 152)، أنت أقبِل والله سوف يُقبل عليك فهو أكرم الأكرمين، ولكن أقبل لكي ترى كيف تتلذذ بلذيذ مناجاته، وكيف تأنس بجواره وكيف تسعد بأنك مع الله. المعيّة مع الله تتجسد في القرآن في نوعين من المعية: المعيّة الرقابية وهي عندما يقول الله: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) (الحديد/ 4)، وهي المعية التي بها يراقب الله عباده، أنت راقب الله واعلم بأنّ عين الله تراك، إعلم بأنّ كلّ شيء مكتوب ومحسوب، والله يراقبك. المعيّة التحميدية وهي قوله (وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة/ 249)، مع المجاهدين مع المؤمنين هذه المعيّة التحميدية فإذا أردت أن تصل إلى السعادة المعنوية إبدأ بمع الرقابية، ولذلك تقرأ في كل يوم في صلاتك (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة/ 5)، الإستعانة تأتي بعد العبادة، باشر بالعبادة ومن بعدها تستطيع أن تأنس بالله وتطلب الإعانة منه في الوصول إلى بيت الله والوصول إلى حرم الله واستشعار الوجود في حضرة الله. من المؤسف أنّ البعض يقول: إذا ذهبت إلى صلاة الجماعة أو الحج أستشعر حالة القرب من الله بينما عندما أكون لوحدي لا أستشعرها. هنا يوجد خلل، لأنّ طبيعة هذا الإنسان أنّه يتحفز في تأدية العبادة الجماعية، الكل يتحفز في هيجان جمعي كما في أيام عاشوراء فيندفع وينهض ويتحرك لخدمة أبي عبدالله الحسين (ع) ولكن في اليوم الحادي عشر والثاني عشر أين من يدعون إلى الإسلام؟ أين من يحملون رسالة أبي عبدالله الحسين إلى البشرية؟ الإثارة كانت لحظية والإشارة كانت حسية، كما بيّنا بسبب التحرك الجماعي. المطلوب من الإنسان أن يصل إلى العبادة الخفية كما يصل إلى العبادة الظاهرية.   العبادة توصل إلى الله: العبادة وسيلة اتصال بمصدر الطمأنينة والأنس والسعادة الأبدية. وفي العبادة تمام الخضوع للمحبوب ومناجاة للفؤاد له وحديث القلب إليه. ولذا، فإنّ لحظات العبادة تُعد من أسعد اللحظات للعابدين الذين يتذوقون طعم العبادة الحقيقية. وهناك سعادة جلية في جميع العبادات التي تؤدى لوجه الله تعالى، شريطة أن يقصد الإنسان فعلاً وجه الله ولا يقصد الحور العين أو فواكه الجنة، إنما تكون عبادته خالصة لوجه الله خالصة من المطامع النفسانية وإن كانت مباحة. والله سبحانه يعلم صدق النوايا وما تخفي الصدور، ولذا لا نستطيع أن نتصور أي إنسان متجهاً إلى بابه يعود بالخيبة أبداً. ولكن على الإنسان ألّا يربط عباداته بالسعادة أو باللذة التي يحصل عليها منها، فأحياناً قد تؤدي العبادة وأنت في حالة قبض روحي، أي في وقت تعيش فيه ضيق الصدر وثقل العبادة. فتُطلِق حكماً مستعجلاً بأنّ الصلاة غير مقبولة إلا أنّ هذه الصلاة الخالية من جميع الأذواق المادية والمعنوية قد تنال درجة رفيعة في بنك الأعمال بحيث يفوق أجرها الصلاة التي صليتها وأنت مقبل وتعيش البسط الروحي. السبب الحقيقي للعبادة والدافع الأساس لها هو أنّها أمر الله تعالى، أي أننا نؤدي فروض العبادة لأنّ الله تعالى أمرنا بها، والسعادة والأنس المتحصل من العبادة هو فيض إلهي ينزله في قلب من يشاء ومن يحب. والحق أنّ العبادة تشبه من يطرق الباب، فإذا كان الطرق ضعيفاً فإنّه يُؤمَّل أن يصل صوته إلى من خلف الباب ثمّ ما يلبث أن يُفْتَح الباب، فكيف إذا كان المقصود هو الله والذي لا تخفى عليه خافية ولا يضيّعْ مثقال ذرة، لذا، قيل، إنّ الإلحاح في الطلب لا يلبث أن يدرك الإجابة وجاء في الدعاء عن الإمام زين العابدين (ع): "فَوَ عزَّتِكَ يا سيِّدِي لَوِ انْتِهِرْتِنِي ما بَرِحْتُ مِن بابِكَ ولا كِففْتُ عن تَمَلُّقِكَ". إنّ على الإنسان أن يؤدي صلاته حتى وهو في حالة انقباض روحي، أي وهو محروم من جميع الفيوضات المادية والمعنوية. حتى أنّ بكاء الإنسان وأنينه كما يمكن أن يكون وسيلة للفيض والبركة، قد يكون أحياناً وسيلة للابتلاء والامتحان. فلا يمكن إعطاء حكم قاطع في هذا الخصوص.   العبادة الخفية: من الطبيعي لأجواء العبادة الجماعية أن تحفز المؤمنين على العبادة وعلى التنمذج الجمعي بنموذج واحد في العبادة. فنلاحظ أنّ البعض أثناء موسم الحج، أثناء صلاة الجماعة وغيرها من مواطن العبادة الجماعية يعيش التحفز الذاتي للقيام بين يدي الله، ولكن هذه الحالة سرعان ما تزول إذا خلا لوحده في العبادة. وهذا مؤشر على أنّ هذا الإنسان لم يتذوق حلاوة العبادة ولم يستشعر السعادة المترتبة على العبادة. والعبادة الخفية هي التي تتجلى في كلام الإمام السجاد (ع) عندما يقول في مناجاة الذاكرين "إلهي فألهمنا ذكرك في الخلاء" عندما تجلس في الخلاء، اذكر الله وارتبط بالله. وإذا أردت أن تعرف بأنك قريب من الله فانظر إلى لحظات الخلوة، هل تتذكر الله أم هل تبحث عن قنوات الشيطان، وتبحث عن مواطن الرذيلة لا مواقف الفضيلة؟ الإنسان المؤمن هو الذي يعيش الذكر الدائم ويعيش العبادة الخفية ويعيش الذكر الحسي والعقلي ليأنس بالسعادة المعنوية، ولكي تترتب على العبادة آثارها الإيجابية، وهذا هو الذي يحفز زينب (ع) للصلاة يومياً بالصلاة الكاملة والتامة، بل ينقل أرباب المقاتل عن الإمام زين العابدين (ع) أنّ زينب (ع) لم تصلِّ من جلوس إلا في ليلة الحادي عشر، إذ كانت دائماً قائمة وكانت دائماً تلتذ بالصلاة وكانت دائماً تنظر إلى وجه الله، ولذلك فإنّ طريق أبي عبدالله الحسين الذي واجه التحديات وهزمها ليصارع الحياة وليصنع الحضارة الإنسانية. هذه الحضارة الإنسانية التي كانت تتجلى في صبر أبي عبدالله وصموده عندما تنزلت عليه المحن "هوَّن عليَّ ما نزل بين أنّه بعين الله" ما دمت ترى يا الله فخذ حتى ترضى عني. أنا أريد أن أبرهن عن حبي لك، أنا خادم لك فاستخدمني في طاعتك. لذا نقرأ في مناجاة الذاكرين للإمام زين العابدين (ع): "إلهي فألهمنا ذكرك في الخلاء والملأ.. وآنسنا بالذكر الخفي". الذكر الخفي هو التذكر الدائم لله وأن نذكر الله بقلوبنا وليس بألسنتنا فقط. هو أن يكون الله حاضراً في قلوبنا ونعيش الأنس معه سواء كنا بين ألوف في مسجد أو لوحدنا في زنزانة. الذكر الخفي هو أن يكون الله في قلوبنا وعقولنا وأهدافنا ومشاريعنا وآمالنا وطموحاتنا. فيا إلهي ويا سيدي ويا مولاي ويا مؤملي ويا منتهى سؤلي قلبي تَصَحَّر ولن يُسقى إلا بحبك فوفقني لعبادة تروي صدري بينابيع الخشوع كي أعيش سعادة ولذة مكنتها لصالح عبادك وبريتك.►   المصدر: كتاب صناعة السعادة

ارسال التعليق

Top