• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

العلاقة الاجتماعية من منظور قرآني

العلاقة الاجتماعية من منظور قرآني
- موقع العلاقة الاجتماعية من عناصر المجتمع: العلاقة الاجتماعية هذه هي العنصر الثالث في تركيبة عناصر المجتمع الثلاث وهي، الإنسان، الطبيعة أو الأرض، والعلاقة الاجتماعية. وقد تحدث القرآن الكريم عن هذه العناصر الضرورية لقيام المجتمع الإنساني من خلال النص القرآني الشريف الذي تحدث عن خلق الإنسان الأوّل قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) (البقرة/ 30). ففي هذه الآية الكريمة نجد أنّ الله سبحانه وتعالى يخبر الملائكة بأنّه قرّر إنشاء مجتمع على الأرض وهذا المجتمع يقوم على العناصر الثلاثة الآنفة. وبينما نجد أن جميع المجتمعات تشترك بالعنصرين الثابتين الأساسين الأول والثاني، أي الإنسان والطبيعة، فإنّ هذه المجتمعات تختلف بالعنصر الثالث المرن والمتحرك، أي في العلاقة. الاجتماعية، فكل مجتمع يبني هذه العلاقة بشكل قد يتفق وقد يختلف مع طريقة بناء المجتمع الآخر لها. والتعبير القرآني الوارد في النص عن هذه العلاقة هو الاستخلاف الذي يتضمن الأطراف التالية: المستخلف وهو الله تعالى، المستخلَف وهو الإنسان وأخوه الإنسان والمستخلف عليه وهو الأرض.   - العلاقة الاجتماعية.. ماذا تتضمن؟ العلاقة الاجتماعية تتضمن علاقتين، علاقة الإنسان مع الطبيعة، وعلاقته مع أخيه الإنسان، وهذان الخطان كل واحد منهما مستقل عن الآخر ومختلف عنه. الخط الأوّل: خط علاقة الإنسان بالطبيعة، يواجه مشكلة التناقض بين الإنسان والطبيعة، وذلك لتمرد الطبيعة وعصيانها عن الاستجابة للطلب الإنساني. والحل الموضوعي لهذا التناقض يكمن في قانون موضوعي، وهو التأثير المتبادل بين الخبرة والممارسة بشأن الطبيعة، فكلما إزداد الإنسان خبرة بلغة الطبيعة وقوانينها إزداد سيطرةً عليها، وكلما إزداد ممارسة في مجالها إزداد خبرة بقوانينها. وهذا القانون بنموه وتطبيقاته التاريخية يعطي الحلول التدريجية لهذه المشكلة. ولعل في الآية الكريمة (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا) (إبراهيم/ 34). إشارة إلى هذا القانون الموضوعي، لأنّ الآية الكريمة لا تعني السؤال اللفظي الذي هو الدعاء، لأنّها تتكلم عن الإنسان ككل الذي يؤمن ومن لا يؤمن. الخط الثاني: خط علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وهو الخط الذي يواجه مشكلة التناقض بين الإنسان وأخيه الإنسان، وهو التناقض الذي ينشىء صيغاً مختلفة ولكن له روحاً عامة، هي التناقض ما بين القوي والضعيف. والقوي قد يكون فرداً فرعوناً، قد يكون طبقه، وقد يكون شعباً أو أمة، والصراع هو نتيجة هذا التناقض لأنّ القوي يعمل على استغلال الضعيف. في نظر القرآن هذه التناقضات ناشئة عن تناقض رئيس واحد وهو ذلك الجدل الإنساني بين حفنة التراب وبين أسواق الله سبحانه، وما لم ينتصر أقل النقيضين فسوف يظل الإنسان يفرز التناقض تلو التناقض والصيغة بعد الصيغة حسب الشروط الموضوعية ومستوى الفكر والثقافة لدى الإنسان والمجتمع. والنظرة الإسلامية للمشكلة نظرة واسعة منفتحة ومعمقة، فهي لا تكتفي بالنظر إليها من زاوية واحدة بل تنفذ لتكشف روحها وحقيقتها الواحدة. من هنا يؤمن الإسلام بأنّ الرسالة الوحيدة القادرة على حل هذه المشكلة هي تلك الرسالة التي تعمل على مستويين في وقت واحد، تعمل من أجل تصفية التناقضات الاجتماعية على الساحة، وفي نفس الوقت وقبل ذلك وبعده تعمل على تجفيف منبع تلك التناقضات الاجتماعية، وإلا فإنّ العمل على تصفية التناقضات على الساحة الاجتماعية وحدها فقط يعد نصف العمل، علينا أن نؤمن بجهادين؛ (الجهاد الأكبر)، جهاد النفس الذي سماه الإسلام لتصفية التناقض الناشىء عن الجدل الداخلي، وجهاد في وجه كل صيغ الإستئثار والسيطرة. وهذا خلافاً للنظرة المادية الضيقة التي فسرت بها المادية وفسر بها الثوار الماديون التناقض الحاصل في المجتمع، فماركس على رغم ذكائه لم يستطع تجاوز النظرة التقليدية الأوروبية، التي ترى أنّ العالم ينتهي حيث تنتهي الساحة الأوروبية، كما لم يتخلص من هيمنة العامل الطبقي الذي لعب دوراً في أفكار المادية التاريخية ولذا ردّ كل التناقضات إلى هذا التناقض الطبقي الحاصل بين طبقة تملك وسائل الانتاج وطبقة لا تملك شيئاً وإنما تعمل من أجل مصالح الطبقة الأولى، فإذا أزيل التناقض الطبقي زالت كل التناقضات الفرعية والثانوية. إنّ خط علاقات الإنسان مع الطبيعة مختلف إذن مشكلة وقانوناً عن خط علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان، ولكن هناك تأثير متبادل بين هذين الخطين يمكن إبرازه ضمن علاقتين قرآنيتين بين هذين الخطين. العلاقة الأولى: التي تبرز تأثير علاقات الإنسان مع الطبيعة على الخط الآخر، ومؤداها، هو أنّه كلما نمت قدرة الإنسان على الطبيعة وسيطرته على وسائل إنتاجها، تحققت بذلك إمكانية أكبر للإستغلال على خط علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة.. (كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (العلق/ 6-7). ففي حياة الإنسان البدائية عندما كانت أداة الإنتاج هي اليد والحجارة، هذا المجتمع لا يمكن أن يقوم فيه استغلال، ولكن في المجتمع الجديد حيث صنع الإنسان الآلة البخارية والكهربائية المعقدة أصبحت لدى الإنسان أداة الإستغلال لأخيه الإنسان، فالإنسان هو الذي يفرز النظام الرأسمالي المستغل والآلة فقط تهيء له الفرصة وتفتح شهيته، وهذا هو الفرق بيننا وبين المادية التاريخية التي اعتقدت بأنّ الآلة هي التي تصنع الاستغلال وتضع النظام المتناسب لها. إنّ دورها هو دور الإمكانية والقابلية والإنسان وفقاً لمحتواه الداخلي، لمثله الأعلى هو الذين يضع النظام. وأمّا العلاقة القرآنية الثانية: التي تمثل وتجسد تأثير علاقات الإنسان مع الطبيعة، فمؤداها أنّه كلما جسّدت علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان العدالة وقيمها، كلما ازدهرت علاقات الإنسان مع الطبيعة، فأظهرت كنوزها وثرواتها. وهذا ما شرحته نصوص قرآنية متعددة.. (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) (الجن/ 16). (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) (المائدة/ 66). (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأعراف/ 96). من هنا نفهم بأنّه كلما ازدهرت العدالة وتحكمت في علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان، ازدهرت علاقاته بالطبيعة والعكس صحيح. وهذه العلاقة ليست ذات محتوى غيبي فقط كما نؤمن به ولكنها سنة من سنن التاريخ بحسب مفهوم القرآن الكريم. فمجتمع الفراعنة – أي مجتمع الظلم والاستعباد والاستئثار – على مرّ التاريخ مجتمع ممزق مشتت، طاقاته ممزقة لذلك لا يستطيع حشد قواه الحقيقية للسيطرة على الطبيعة، وهذا هو الفرق بين المثل العليا الفرعونية المنخفضة وبين مثل التوحيد لله سبحانه الذي يوحد البشرية ويصهرها في وحدة متكافئة، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة. (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء/ 92). مقابل هذا، أنظر كيف يصور القرآن الكريم أصحاب المثل الفرعونية المنخفضة: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا) (القصص/ 4).

ارسال التعليق

Top