• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

المعنى اللغوي للصَّبْر

المعنى اللغوي للصَّبْر
◄قال السالكون التَّصَبُّر هو حَمْلُ النفس على المكارِه وتجرُّعِ المرارة. يعني إنْ لم يكنْ المرءُ مالكَ الصَّبْرِ فينبغي أن يجتهدَ ويُكَلِّفَ نفسه الصَّبْر. والصَّبْرُ هو ترك الشكوى إلى غير الله. وقال سهل: الصَّبْر انتظارُ الفرج من الله وهو أفضل الخدمة وأعلاها. وقال غيره: الصَّبْر أن تصبرَ في الصَّبْر معناه أن لا تطالع فيه الفرج. يعني: أنْ لا يرى الخروج من المِحَنِ والشَّدائد. وقالوا: الصبر: هو أنّ العبد إذا أصابه البلاء لا يتأوَّه. والرّضا: هو أنَّ العبد إذا أصابه البلاء لا يصير متبرِّماً. فلله ما أعطى ولله ما أخذ فمن أنت في البين. ويقول بعضهم: إنّ أهل الصبر على ثلاث درجات: الأولى: عدم الشكوى: وهذه درجة التّائبين. الثانية: الرّضا بالمقدور وهذه درجة الزّهاد. الثالثة: المحبَّة لكلِّ ما يفعله المولى بعبده وهذه درجة الصِّدِّقين. وهذا التقسيم للصَّبر باعتبار حلول المصائب البلاء. وأمّا حكم الصبر فاعلم بأنّه ينقسم إلى فرض ونفلٍ ومكروه وحرام. فالصَّبر عن المحظور فرض وهو عن المكروهات نفل، والصّبر على ما يصيبه من ألم لترك المحظور كما لو قصد شهوةً محرّمة وقد بلغ درجة الهَيَجان، فيكظم شهوته ويصبر. وكذلك الصّبر على ما يصيبه من مصائب في أهله. وأمّا الصّبر المكروه فهو صبره على ما كره فعله في الشرع. وعليه فالمعيار هو الشرع وهو المحكّ الحقيقي للصبر. كذا في مجمع السلوك. وقيل الصَّبْر هو ترك الشكوى من ألَمِ البَلْوى إلى غير الله لا إلى الله، لأنّ الله تعالى أثنى على أيوب (ع) بالصبر بقوله: (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا) (ص/ 44)، مع دعائه في دفع الضُّرِّ عنه بقوله: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (الأنبياء/ 83)، فعلمنا أنّ العبد إذا دعا الله تعالى في كشف الضُّرِّ عنه لا يقدِحُ في صبره، ولئِلا يكونَ كالمقاوَمَةِ مع الله تعالى ودعوى التحمُّلِ بمشاقه. قال الله تعالى: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ) (المؤمنون/ 86)، فإنّ الرضاء بالقضاء لا يقدِحُ فيه الشكوى إلى الله ولا إلى غيره وإنما يقدحُ بالرضا في المقضي، ونحن ما خوطِبْنا بالرضا بالمقضي، والضُّرُّ هو المقضي به وهو مقتضى عين العبد سواءٌ رَضِيَ به أوْ لمْ يرضَ، كما قال (ص): "من وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومَنَّ إلا نفسه". كذا في الجرجاني. وفي التفسير الكبير في تفسير قوله تعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة/ 155). الصَّبْرُ ضربان: أحدهما بَدَني لتحمُّلِ المَشاق بالبدن والثبات عليه وهو إما بالعقل كتعاطي الأعمال الشّاقة أو بالاحتمال كالصَّبْر على الضَّرْب الشديد والألم العظيم. وثانيهما هو الصَّبْر النفساني وهو منعُ النفس عن مقتضيات الشَّهوة ومشتَهيات الطّبْع. ثمّ هذا الضَّربُ إن كان صَبْراً عن شهوة البَطْن والفَرْج يُسَّمى عِفَّة، وإن كان على احتمالِ مكروهٍ الذي يدلُّ عليه الصَّبْر، فإنْ كان في مُصيبةٍ اقتصر عليه اسم الصَّبْر ويضادُّه حالة تُسَّمى الجَزَع والهَلَع وهو إطلاقُ داعي الهوى في رفع الصَّوْت وضَرْب الخَدّ وشَقِّ الجيوب وغيرها. وإن كان في حال الغنى يُسَّمى ضبط النفس وتُضادُّه حالةٌ تُسَّمى البَطَر، وإن كان في حَرْبٍ ومُقاتَلة يُسَّمى شجاعة ويضادُّه الجُبْن. وإن كان في كَظْمِ الغَيْظِ والغضب يسمَّى حِلماً ويضادُّه البرق. وإن كان في نائبةٍ من نوائب الزمان مُضْجِرَة يسَّمى سَعَةَ الصَّدر ويضادُّه الضَّجَر والنَّدم وضيقُ النفس. وإن كان في إخفاء كلام يُسمَّى كتمان النفس ويسمّى صاحبه كَتوماً. وإن كان في فَضول العيش يُسمَّى زُهْداً ويضادُّه الحِرْصُ. وإن كان على قَدْرٍ يسيرٍ من المال يسمَّى القناعة ويضادُّه الشَّرَه. وقد جمع الله أقسام ذلك وسمَّى الكُلَّ صَبراً فقال: (الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ) (البقرة/ 177)، أي الفقر، وحين البأسِ أي المحارَبة. قال القفال: ليس الصَّبْرُ هو حملُ النَّفْس على تلك إظهار الجَزَع، فإذا كَظَمَ الحُزْنَ وكَفّ النَّفْس عن إبراز آثاره كان صاحبه صابِراً وإنْ ظهر دمعُ عينٍ أو تغيَّر لون. وقال عليه السلام: "الصَّبْرُ عند الصَّدْمة الأولى"، وهو كذلك لأنَّ مَنْ ظهر منه في الابتداء ما لا يُعَدُّ معه من الصابرين ثمّ ظهر فذلك يسمَّى سَلْواً، وهو مما لابُدَّ منه. قال الحَسَن: لو كُلِّفِ الناسُ إدامةَ الجَزَعِ لم يقدروا عليه.   فائدة: قال الغزالي: الصَّبْرُ من خواص الإنسان ولا يُتصوَّر في البهائم لأنَّها سُلِّطت عليهم الشَّهَوات وليس لهم عقل يعارضها، وكذا لا يتصوَّر في الملائكة لأنَّهم جُرِّدوا للشَّوْق إلى الحضرة الربوبية والابتهاج بدرجة القرب ولم يُسلِّطْ عليهم شهوة صارِفة عنها حتى يحتاج إلى مصادَمة ما يصرفها عن حضرة الجَلال بجهد آخر. وأمّا الإنسان فإنّه خلق في الابتداء ناقصاً مثل البهيمة ثمّ يظهر فيه شهوةُ اللَّعِب ثمّ شهوة النكاح إذا بلغ، ففيه شهوةٌ تدعوه إلى طلب اللذات العاجِلة والإعراض عن الدار الآخرة، وعقلٌ يدعوه إلى الإعراض عنها وطلبِ اللذات الروحانية الباقية. فإذا عرف العارف أنّ الاشتغال عنها يمنعه عن الوصول إلى اللذات صارت صادَّةً ومانعة لداعية الشهوة من العمل فيُسمَّى ذلك الصَّدّ والمنعُ صبراً، انتهى ما في التفسير الكبير.►

ارسال التعليق

Top