• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

المليونير الكبير

المليونير الكبير

المليونير الكبير الذي يموت.. جمع حوله أولاده الأربعة وراح يُملي على أكبرهم وصيته الأخيرة التي سينسخ بها جميع وصاياه السابقة .

إنه يُملي بصوت متهدج، والأولاد قد فتحوا أفواههم من الدهشة وكأنما يستمعون إلى شخص آخر غير أبيهم الذي عرفوه .

قال الرجل في صوت مهدم :

_ هناك مليون دولار ستوزع عليكم بالتساوي أما السبعة ملايين دولار الباقية، فوصيتي أن تُبنَى بها مدارس ومستشفيات وملاجيء ودار مسنين ومعهد لتعليم الحِرَف.  وعلى الأخ الأكبر إنشاء هذه المؤسسات الخيرية و إدارتها ورعايتها لتكون صدقة جارية ينتفع بها اليتيم والمريض والمحتاج .

وارتفع صوت الابن الصغير معترضاً :

_ ولكن يا أبي لا أحد منا له خبرة بهذه الأشياء .

واستمر الأب يُملي بصوته المتهدج :

_ والاثنين مليون دولار في الخزينة.. يبنى بها مسجد ومستوصف ومقرأه للقرآن .

وتلفت الأبناء كلّ واحد يتصفح وجه الآخر في استغراب، وعاد صوت الابن الأصغر ليعترض :

_ليس هذا ما تعلمنا منك خلال حياتنا معك.. لقد ربيتنا على أعمال أخرى.. والآن تفاجئنا بدور جديد لا نستطيع أن نقوم به. أنت في حياتك لم تدخل مسجداً ولم تصل ركعة ولم تفتح مصحفاً.. ولم تعط مليماً لمحتاج.. ولم تحدثنا حرفاً واحداً عن الدين أو الخير.. وكلّ ما تعلمناه منك هو كيف نستلم البضاعة من قبرص وندخل بها مُهرَّبة إلى مصر.. و كيف نوزعها على الأعوان.. وكيف نقود اللنشات السريعة وعربات النقل والمقطورات و الهليكوبتر، وكيف نستعمل البنادق السريعة الطلقات والقنابل اليدوية ومدافع الهاون عند اللزوم.. وكيف نحول المائة جنيه إلى مليون ولو قتلنا في سبيل ذلك كلّ رجال خفر السواحل.. علمتنا ألا نخاف أي شيء وألا نعبأ بحاكم ولا بمحكوم ولا بحكومة.. وأنّ كلّ الذمم يمكن شراؤها وأنّ الذمة التي لا تقبل المائة سوف تقبل الألف، والتي لا تقبل الألف سوف تقبل المليون.. وأنّه لا يوجد كبير يتكبر على المال.. وأنّ كلّ الناس حشرات يمكن اصطيادها بالعسل.. ومن لا يقع في العسل يقع في السم.. وأنّ العالم غابة لا أمان فيها.. وأنّ الشعار الوحيد الذي يصلح للتعامل في هذه الغابة.. هو.. أُقتُل قبل أن تُقْتَل .

هذا ما علمتنا إياه ولا نرى جديداً قد جد حتى تقول لنا كلاماً آخر .

_ الجديد أني أموت.. أنّ أباكم يموت.. وغداً أصبح رمة يأكلها الدود. تراباً لا يختلف كثيراً عن التراب الذي تطأونه بنعالكم .

_ هذا ليس أمراً جديداً عليك. فقد كنت ترى الموت حولك كلّ يوم يختطف أعوانك.. واحداً بعد آخر..  وكنت تمشي بنفسك في جنازاتهم، وكنت أحياناً تقتلهم. أنت الذي كنت تقتلهم بيدك.. أو تصدر الأمر بقتلهم بنفس اللسان الذي يملي علينا الآن هذا الكلام عن بناء المساجد والملاجيء ودور الأيتام والمقاريء .

_ لأنّ هذه المرة أنا الذي أموت.. أنا الذي دوَّخ أجهزة الأمن في مصر والشام والعراق وتونس والجزائر وإيطاليا وألمانيا واليونان.. أنا الشبح الذي لم يكن أحد يستطيع أن يضع يده عليه.. أنا اليوم معتقل بالشلل والعمى وبكرسي لا أستطيع أن أبارحه.. وأنا أنزف الدم من أمعائي وأموت ببطء.. وأصحو وأعود إلى الغيبوبة .

والدقائق التي تبقت لي قليلة معدودة. لقد كنت أصنع الموت للألوف.. هذا صحيح. ولكن رؤية الموت تختلف كثيراً عن تذوقه .

الفارق كبير.. وأنا لا أريدكم أن تذوقوه كما أذوقه.. لابد أن يتغير كلّ شيء.. لقد أخطأت يا أولادي.. أخطأت بفظاعة ربما اكتشفت خطئي بعد فوات الأوان.. ولكن هذا لا يغير شيئاً من النهاية.. إنّ الخطأ هو الخطأ.. اسمعوا.. هذه الوصية الجديدة هي التي يجب أن تنفَّذ.. هذا أمر .

وحاول أن يخرِج الطبنجة من جيبه. فلم يستطع.. وطلب من ابنه الكبير أن يناوله الطبنجة .

ومد الابن الكبير يده في جيب أبيه وأخرج الطبنجة وناولها له.. فأمسكها الأب في إعزاز وراح يلوح بها وأصابعه على الزناد، ثم ناولها لابنه الكبير قائلاً :

_ من يخالف هذه الوصية أطلق عليه النار ولو كان أخاك.. هذا آخر أمر.. هذا آخر أمر لي في هذه الدنيا. اقتل. اقتل.. بلا تردد أي إرادة تقف في سبيل هذه الوصية.. هذه الأموال في البنوك وفي الخزائن ليست ملكي لترثوها.. إنها سرقات.. لا تكفير لها إلا أن تبني كما هدمت وتصنع من الحياة بقدر ما أعدمت .

_ والعمارات :

قالها الابن الأصغر بصوت مرتجف .

_ تباع في مزادات ويصنع بثمنها نفس الشيء.

_ وكازينو القمار .. وأوبرج ميلانو.. وشركات بيع السلاح في لندن.. وشقة باريس وفيللا جنيف.. وشاليهات فلوريدا .

_ تباع كلها . لا نصيب لأحد فيها.. ولا يد لأحد عليها.. ولا تؤول لأحد منكم.. إنها ملكي وحدي وأنا وهبتها لنفس الأغراض.. وثمنها يكفي لإنشاء جامعة .

_ ونحن ماذا يبقى لنا وكيف نعيش؟!

_ إنّ المليون دولار التي ستقسمونها بينكم. تساوي أربعة ملايين جنيه مصري.. أي مليون جنيه مصري لكلّ واحد فيكم.. وهي بداية تكفي لأن يبدأ كلّ منكم حياة شريفة..

وبدت كلمة الشرف غريبة وهي تخرج من فم " المليونير " صصاحب أكبر عصابة مخدرات في الشرق الأوسط، وبدا لها رنين غريب في جو الصمت والرهبة مما جعل كل ابن يتلفت في وجه أخيه ويقلب شفتيه، في انتظار معجزة .

وكانت المفاجأة مرعبة.. فقد سحب المليونير الطبنجة من يد الابن الكبير ولوح بها في وجوههم وأطلق الرصاص في الهواء.. وفي كلّ اتجاه.. مما جعلهم يتقافزون في رعب ويلتصقون بالجدران بينما تهدج صوت الرجُل وهو ينطق :

_ هذا آخر أمر.. آخر أمر لي قبل أن أموت ولابد أن ينفذ .

واختنق صوته وانطلق يلهث .

ثم سكن فجأة وسقط رأسه على صدره ولفظ آخر أنفاسه في صمت .

وأطبقت لحظة ثلجية من الذهول والرعب على الجميع.. لا حركة.. ولا صوت.. ولا شيء سوى أنفاس مرتجفة ونبضات مضطربة ونظرات زائغة، ثم بدأ الابن الأصغر يتحرك ويسعل ويلوح بيديه في الهواء ولا يجد كلاماً، ثم ما لبث أن جمع أشتات نفسه ثم انفجر قائلاً :

_ لقد فعل كلّ شيء، لم يترك جريمة لم يرتكبها، لم يدع لذة لم ينتهبها، لم يدع شراً لم يقارفه، لم يدع رذيلة لم يلهث خلفها.. والآن وفي آخر لحظة حينما فقد القوة على عمل أي شيء، وحينما فقد الأمل في أي متعة وفقد القدرة على أي لذة.. الآن فقط يقرر أن يبعثر كلّ أمواله ويحرمنا منها لأنه أصبح ولياً من أولياء الله شغله الشاغل بناء المساجد  ومقارئ القرآن والملاجئ وبيوت الأيتام، شيء غير مفهوم .

_ الدكتور الذي كشف عليه بالأمس قال أنه قد أصابه ضمور في المخ .

_ هي أعراض هذيان بلا شك .

_ إنه يخرج من غيبوبة ليعود إلى غيبوبة. ولا يمكن أن يؤخذ كلامه مأخذ الجد .

قال الابن الكبير في هدوء مريب :

_ ولماذا لا يؤخذ كلامه على أنه توبة حقيقية؟!

فأجاب الابن الأصغر في عصبية :

_ توبة رجل مشلول فقد القدرة على كلِّ شيء.. لا يمكن أن تكون توبة حقيقية .

قال الابن الأوسط مؤيداً :

_ فعلاً. التوبة عن الذنب لا تكون مفهومة إلا من رجل قادر على الذنب.. فهو يقلع عن ذنبه بإرادته واختياره.. أما فاقد الإرادة وفاقد الاختيار وفاقد القدرة.. فهو كذاب إذا ادعى فضيلة.. و إذا ادعى توبة .

قال الابن الكبير بنفس النبرة الهادئة :

_ التوبة مسألة نية. ولا يحكم على صدق النيات إلا الله.. وليس من حقنا أن نكذب الرجل فلا أحد منا يطلع على قلبه .

_ إنّ قلبه بلون القطران. حياته كلها تقول هذا.

قال الابن الأصغر :

_ إنّ حالته مثل حالة رجل تاب عن نزول البحر حينما فقد القدرة على السباحة.

فأجاب الابن الأكبر :

_ لا يمكن أن تتهمه بالكذب إلا إذا استعاد قدرته على السباحة ولم ينفذ وعده.. ونفس الشيء.. لا يمكن أن نتهم أبانا بالكذب إلا إذا استعاد حياته واستعاد صحته.. ثم عاود جرائمه.. ولم ينفذ وعده.. وهو مالا سبيل إلى معرفته .

_ ماذا تعني؟

_ أعني أنّ الوصية واجبة.. ولا سبيل إلى الطعن عليها.. وسوف أحرص على تنفيذها: وأخرج طبنجته ووضعها على المائدة مُردِفاً :

_ وعلى من يقف في وجه إرادة الميت.. أن يستعد ليلحق به .

وقفز الابن الأصغر مرتاعاً وهو يردد في دهشة :

_ هل جننت.. هل فقدت عقلك.. هل صدقت هذا المعتوه؟!

وخرجت من الأخوين الآخرين تمتمات مرتعشة :

_ هل نحرم أنفسنا من مائة مليون جنيه لمجرد نزوة توبة خرجت من دماغ مشلول .

ونظر إليه الابن الأكبر نظرة ثلجية وأجاب في بطء ثقيل :

_ ومنذ متى كنا نلجأ إلى القضاء أو نحتكم إلى القانون أو نأخذ برأي العدل .

_ لم تعد هناك وصية.. انتهى كلّ شيء .

فأردف الابن الأكبر في نبرة كرنين الفولاذ :

_ أنا الوصية.. وأنا القانون.. وأنا العدل .

وفجأة وفي حركة غير محسوبة، أخرج الابن الأصغر مسدسه وأطلق رصاصة على أخيه الأكبر أصابت كتفه. وجاء الرد فورياً من الطبنجة في يد الأخ الأكبر سيلاً من الطلقات.. وانبطح الأخوة أرضاً يتبادلون الرصاص .

وأسفرت المذبحة عن ثلاثة قتلى وأفلت الأخ الأصغر من الموت.. ليسرع الخطى إلى الخزينة.. وإلى مخبأ الدولارات في الجدران.. يفرغ كلّ شيء في حقيبة كبيرة وليقفز بها إلى عربته المرسيدس وليدوس على البنزين بأقصى سرعة وقد بسط أمامه خريطة كبيرة.. وراح ينظر فيها.. باحثاً عن خط سير مأمون إلى الصحراء، ولم يتردد .

وأطلق لسيارته العنان وقد راوده الشعور بالأمن لأول مرة بعد ليلة عاصفة.. لم يكن يفكر في أي شيء.. ولم يكن نادماً على أي شيء، كان يشعر بنفسه فقط .

وهكذا عاش دائماً لا يفكر إلا في نفسه وفي لحظته .

وكان يؤمن بالحكمة التي علمها له أبوه.. أنّ كلّ الناس حشرات يمكن اصطيادها بالعسل.  ومن لا يقع منها في العسل يقع في السم .

ولم يحدث أن شعر مرة واحده بروابط العائلة أو صلة الدم .. وما كان أبوه واخوته إلا مجرد وسائل للثراء السريع وجمع الدولارات.. مجرد أعضاء عصابة يجتمعون وينفضون على خطط القتل والإجرام.. ويعود كلّ واحد آخر الليل إلى بيته لينام بلا ذرة ندم .

الشمس تغرب وساعات أخرى بطيئة ثقيلة ومؤشر البنزين يقترب من الصفر واللمبة الحمراء تضيء .

الخريطة تقول أنّ ما تبقى لبلوغ الحدود قليل، ربما عشرة كيلومترات.. فإنه يستطيع أن يحمل حقيبته ويمشي الباقي على قدميه.. وساعات أخرى قلقة متوترة .

وتتوقف العربة كخنزير أسود في صحراء حالكة الظلمة .

ويحمل حقيبته وينزل.. ليمشي وقد وضع الخريطة في جيبه .

ساعة أخرى.. ساعتان.. ثلاث ساعات.. وتتهاوى ساقاه ويتكوم فينام على تل من الرمال الناعمة.. فاقد الوعي تماماً .

وما تكاد تمر دقائق حتى ينتفض من لدغة تلسعه كالنار .

بطرف عينيه يرى ثعبان الطريشة يعود أدراجه ليغوص في الرمل بعد أن فعل فعلته .

إنه يعلم ماذا ستفعل به لدغة الطريشة من ثعبان بهذا الحجم الذي رآه .

لا أمل انتهى كلّ شيء .

وزحف على بطنه ليفتح الحقيبة ويلقي نظرة أخيرة على ملايين الدولارات المكدسة. وبدأ السم يسري في دمه ليصل إلى مركز التنفس ويصيب عضلات التنفس بالشلل .

وبدأ صوته يتحشرج ويحتضر ويسلم الروح .

وهبت دوامة عاتية من الرمال بعثرت محتويات الحقيبة لتنتشر على مساحة شاسعة من الصحراء وتبعثر أكوام الدولارات إلى هباء.. أمام عينين تخمدان .

ومات آخر أبناء عائلة المليونير .

وعرف أخـيراً الفرق بيـن.. رؤيـــة المـــوت وبيـن تـذوقــه ..

وكـم كـان الفــارق كبيـــراً...

*مصطفى محمود

ارسال التعليق

Top