• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

بين اليُسر والعُسر

د. محمد يوسف موسى

بين اليُسر والعُسر

◄إنّ المؤمن الصادق في إيمانه، يعرف يقيناً أنّ الله جلّت حكمته، لا يفعل شيئاً عَبَثاً، وأنّ فعله دائماً لحكمة ومصلحة قد تخفى علينا. كما يعرف أنّه تعالى مصدر كلّ ما يصيبنا من خير أو شر.. فكلّ شيء هو بقضائه وقَدَره، سبحانه هو العليم الحكيم، وهو المستحق للعبادة والدُّعاء في كلّ حال.

وإذا كان المؤمن الصادق الإيمان يوقن بهذا وذاك، فإنّ أمره في هذه الحياة يدور بين الشكر والصبر، شكر على النعمة، وصبر على المكروه، ورضا بالله في كلّ حال، وتسليم بما يأتي به، ومن ثمّ قيل بحقّ: الإيمان صبر وشكر، وفي القرآن: (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) (آل عمران/ 144)، وفيه: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الزُّمر/ 10).

ولكنّ كثيراً من الناس ليسوا على هذا النحو، فإنّ الواحد منهم لا يتذكّر الله إلّا عند الشدّة، ولا يدعوه إلّا حين تنزل به مصيبة، أو ينال ضر في نفسه، أو ولده، أو ماله. أمّا إذا رأى أنّه في نعمة، فإنّه ينسى مَن كان يتضرّع إليه حال البؤس والضيق، فلا يتوجّه إليه بعبادة أو دعاء، وربما اعتقد أنّه أهل لما ينعم به، مستحق له، فليس ما يدعوه للشكر عليه.

والقرآن يرسُم صورة هؤلاء المفتونين الجاحدين، وذلك إذ يقول الله تعالى في سورة الزُّمر: (وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) (الزُّمر/ 8).

إنّ الواحد من هذا الضرب من الناس، تراه حين ينزل به الضر، قد ظهر أثر فِطرته السليمة، التي فطر الله الناس عليها، فهو يتوب إلى الله، ويُنيب ويرجع إليه، ويزول عنه ادّعاؤه وتكبُّره، بسبب ما كان فيه من نعمة، ويتوجّه إلى الله ليكشف عنه ما نزل به من بلاء، لأنّه لا يجد له ملاذاً ولا مَوئلاً إلّا إيّاه، فهو وحده القادر على أن يكشف السُّوء.

ولكنه – وهنا موضع الدهشة والعجب – يتبدّل حاله إذا رفع الله عنه البلاء، وأنعم عليه ببعض نعمه التي لا تُحصى، وأصبح يتقلّب في الرخاء بعد الشدّة، إنّه في هذه الحالة ينسى الله الذي تضرّع إليه والذي استجاب له تفضُّلاً منه عليه. يُعرض عنه، وينأى بجانبه، متناسياً أنّه لم يجد حين المحنة والابتلاء غير الله، ومَن غير الله يكشف عنه ما كان قد أخذ بخناقه، وجعل الدنيا تضيق عليه ربما رَحُبت.

ومن الناس مَن لا يقف به الضلال عند عدم تذكُّر الله سبحانه، ولا عند ترك عبادته ودعائه واللجوء إليه، بل إنّه ليزداد طغياناً إذا رأى نفسه قد استغنى أو إذا حيلت له نفسه المنحرفة الضالة أنّه بما نال من أسباب الخير قد استغنى، فهو يشرك بالله غيره، ويجعل له أنداداً لا تضر ولا تنفع ولا يملك أحدها من نفسه شيئاً.

وقد أكّد الله تعالى هذه الصورة البائسة الشقيّة، مع إضافة لون جديد إليها، وذلك إذ يقول في السورة نفسها: (فَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (الزُّمر/ 49).

وهذا اللون الجديد، هو زعم الإنسان المغتر بماله وجاهه، أنّه إنما نال هذا الخير عن علم منه بوجوه الكسب والثراء، وعن سعة حيلة وقدرة على حيازة الخير من وجوهه وطرقه، وذلك كما قال قارون من قبل: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) (القصص/ 78).

وقد لا ينحدر الإنسان من هذا الضرب إلى هذه الهُوّة السحيقة التي لا قرار لها، هُوّة الشِّرك الصريح بالله، بل يبقى مؤمناً بلسانه لا بعمله، يعبد ماله وهواه وشهواته، ويسخر نفسه وجهده لذلك كلّه، دون أن يؤدي شيئاً من فروض العبادة لله، وهو المصدر الحقيقي لكلّ خير ونعمة.

ومهما يكن، فإنّ هؤلاء وأمثالهم ليس لهم في الآخرة إلّا النار، وإن طال تمتُّعهم في هذه الحياة الدنيا الفانية، وما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلّا قليل.

وبعد تلك الصورة البشعة، التي لا يرضى عاقل لنفسه أن يتصف بها، أتبعها الله بالإشارة إلى صورة المؤمن الخاشع المتعبِّد لخالقه في حال النعماء أو البأساء، وذلك إذ يقول جلّ شأنه: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ) (الزُّمر/ 9).

إنّها الصورة المشرقة لمن اطمأنّ إلى الإيمان بالله وحده، وامتلأ به قلبه، وفاض على جوارحه، وصار الباعث له إلى أعماله، فهو دائم الذِّكر، فلا ينساه في سرّاء أو ضرّاء، ولا تبطره النعمة وتفتنه، ولا يدفعه الإبتلاء إلى اليأس والكفران بالله.

وهو الذي، من أجل ذلك، يعيش حياته مطمئناً إلى ما يجيء به القدر من عند الله، فإن كان نعمة يشكر عليها بقوله وعمله، وإن كان غير ذلك صبر عليه، مؤمناً بأنّ الله سيجزي الشاكرين، وأنّه تعالى يوفي الصابرين أجرهم بغير حساب.

وهو المؤمن الذي لا يغفل شيئاً مما يجب عليه لله من ضروب العبادة في النهار والليل، يحذر الآخرة، ويرجو أن يكون من السُّعداء فيها، ويتجافى جنبه عن مضجعه والناس بلذّة الكرى ناعمون، وينهض قائماً وساجداً يعبد مالك الكون من بيده الأمر كلّه، لا يلهيه عن ذلك متاع الدنيا، ولا يقعده عنه الحزن والحرمان.

وهو المؤمن الذي عرف أنّ الفضيلة العلم والمعرفة، فهو إن عرف الخير أتى به وانصرف إليه، وإن جهل أمراً أعرض عنه، حتى يقف عليه ويعلم سرّه. ومن ثمّ، يُقرِّر العليم الخبير أنّه لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وأنّه (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ) وأصحاب العقول الذين انتفعوا بما أوتوا من إدراك وعلم وعرفان.►

 

المصدر: كتاب الإسلام والحياة

ارسال التعليق

Top