وعندما يخاطبه يخاطب جهة لها كرامة، وعزة، وقيمة كُبرى.
قال الله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا) (الإسراء/ 70).
هذا الكائن امتاز بالعقل والإرادة، وجُعل خليفة يحمل أمانة في عُنقه إلى أن يلقى ربه، فاستحق بهذا التكريم الإلهي أن يُخاطب بالوحي، وأن تلقى إليه كلمة الرحمن، ولقيمة الإنسان في هذه الحياة امتاز على سائر الخلائق، وكان مُحترماً ومسؤولاً أمام الله سبحانه.
فالمسؤولية تعني: "رفع قدر الإنسان وإعطائه أهمية وقيمة فهو ليس قيمة مهملة، ولا وجوداً تافهاً في هذه الحياة"، بل هو كائن يملك العقل والإرادة والقدرة على صنع القرار والاختيار، ولذا كان مسؤولاً ومحاسباً عن كلّ أقواله، وأفعاله في الدنيا.
ولقد تحدث القرآن الكريم، والسنة النبوية عن المسؤولية، وثبتاها كأبرز ركن من أركان التعامل الإلهي والإنساني، فجعل الإنسان مسؤولاً أمام الله، ومحاسباً على فعله، قال تعالى: (وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (النحل/ 93).
· ولقد ثبت الإسلام مسؤوليتين على الإنسان:
الأولى: مسؤولية فردية.
الثانية: مسؤولية اجتماعية.
ففي الأولى جعله مسؤولاً عن نفسه قال تعالى: (بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) (القيامة/ 14)، مسؤولاً عن كلّ ما يصدر عنه من قول أو فعل مسؤولاً أمام الله سبحانه، محاسباً بين يديه يوم القيامة يوم العدل والحساب، يوم الجزاء والوفاء.
كلّ هذه المسؤولية لتكون العلاقة بين الله والإنسان مباشرة يحاسب الإنسان نفسه بين يدي الله سبحانه ويشعرها بالتقصير، والمسؤولية ويصحح المواقف السلبية من تلقاء نفسه من غير قوّة ولا سلطة مادية أخرى لئلا يفقد الإحساس الذاتي في نفسه، والشعور بالمسؤولية فيفقد اهتمامه، واندفاعه الذاتي ويفقد قيمته التي كرّمه الله بها وهي الإنسانية؛ أي كائن مدرك مميز لا يحتاج إلى سلطة ترغمه وتحاسبه على فعل الواجبات وترك المحرمات، يقول الرسول (ص): "ليس منّا مَن لا يُحاسب نفسه في كلّ يوم، فإن عمل حسناً استزاد منه، وإن عمل سيئاً استغفر الله منه وتاب عليه".
فالإسلام يريد أن يُربي سلطة الضمير قبل سلطة الدولة أو القوّة المادية في نفس الإنسان، ويُنمي في نفسه الإحساس الذاتي بالمسؤولية الشخصية، ويكون رقيباً عليها ليحاسب نفسه، ويعرف أنّه مسؤول عما وهبه الله يوم القيامة، مسؤول عن المال الذي بيده، من أين أكتسبه؟ وكيف أنفقه؟ ولمَ ادخره؟ مسؤول عن عمله وما وهبه الله من طاقة، من عقل وذكاء، مسؤول عن استخدام هذه الطاقة للتضليل، والانحراف، والمكر، والتمايل، ونصب حبائل الشيطان، أو استخدمه لمعرفة الهُدى، وتقويم النفس، وإصلاحها، والاهتداء به في المسير، ومسؤول عن القوّة التي وهبه الله إياها، كيف استخدمها؟ وكيف تصرف بها؟ للمعصية، والعدوان أو استخدمها للطاعة ووظفها في مجال الخير، ومسؤول عمّا وهبه الله من سلطة، وجاه ومكانة اجتماعية فهو مسؤول عن كلّ ذلك، عن كيفية استخدام سلطته ومقامه الاجتماعي: أللِقمع والإرهاب، والتسلط وتحقيق المكاسب الشخصية، والتعالي عن الآخرين استخدمها؟ أم للإصلاح والهداية والطاعة لله سبحانه؟.
واللسان الذي وهبه الله للإنسان يُسأل عنه كيف استخدم هذه القدرة العظيمة؟ ألينطق بكلمة الخير، والإصلاح والعلم النافع؟ أو للتضليل والكذب، والاغتيال، وضرب الآخرين، وتجريح الناس والتشهير بهم؟.
والعين يسأل عنها يوم القيامة كيف استخدمها، وكيف سخّرها؟ ألِقراءة الكتاب النافع، والنظر إلى عظمة الله في خلقه..؟ أو للنظر إلى ما حرّم الله ونهى عنه..؟
والسمع يُسأل عنه يوم القيامة.. كيف استخدمه ألِسماع الغيبة، والكذب، واللهو والغناء، والفحش، وكلمة الضلال؟ أو لسماع كلمة الهُدى، والعلم النافع، والموعظة الحسنة؟ قال تعالى: (لا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا) (الإسراء/ 36).
وقال أيضاً: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ) (الصافات/ 24)، يُسأل الناس عن كلّ شيء صدر منهم صغُر ذلك أم كبُر.
قال تعالى: (مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) (الكهف/ 49).
وكما شرّع الإسلام المسؤولية الفردية أمام الله سبحانه، شرّع كذلك المسؤولية الفردية أمام الدولة الشرعية التي تنفذ منهاج الشريعة، وتبني الحياة على أساسها لذلك أعطيت هذه السلطة الشرعية حقّ الولاية وتنظيم شؤون المجتمع وإصدار القرار المُلزم الذي يحقق مصلحة الأُمّة الإسلامية، ويُساهم في رفع الإنسانية ورقيّها، وأعطيت حقّ الإلزام والمحاسبة، وجعل الإنسان مسؤولاً أمامها.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ) (النساء/ 59).
فبدأ الإنسان مسؤولاً أمام الدولة الشرعية، ولها حقّ الولاية عليه، ولها حقّ إحالته للقضاء وإنزال العقوبات إذا ما خلف قواعد العدل والمصلحة، وجاوز الشرع وأحكامه.
فبهذه المسؤولية وبهذه القوانين، والقيم الأخلاقية التي تنظم المسؤولية، يُمكن تصحيح سلوك الإنسان، وتنظيم المجتمع وحفظ التوازن، والأمن، والسلام الاجتماعي، والرفاه الاقتصادي فيه وبدون هذه المسؤولية تستحيل الحياة وتؤول إلى فوضى، ويغيب دور العدل والقانون، ويتحوّل المجتمع إلى مجتمع تحكمه الصراعات.
لقد رتّب الإسلام المسؤولية، فكلّ إنسان مسؤول عمّا بيده، وعمّا تحت يده فالراعي مسؤول عن رعيته والأب مسؤول عن أبنائه، والرئيس مسؤول عن شعبه وهكذا..
وقد صوّر الإمام علي (ع) في كتابه لمالك الأشتر بقوله: "فأعطهم من عفوك وصفحك، مثل الذي تُحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنّك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاك، استكفاك أمرهم وابتلاك بهم".
فلا عمل ولا تنظيم للحياة بلا مسؤولية فها هو الإمام علي (ع) يوضح أنّ الأُمّة الإسلامية مسؤولة أمام مَن يتحمّل المسؤولية مباشرة.
· المسؤولية الاجتماعية:
وكما جعل الله الإنسان الفرد مسؤولاً عن نفسه وعمله جعله مسؤولاً عن الآخرين، وحمّله مسؤولية الإصلاح الاجتماعي، ومقاومة الفساد كلّ أنواع الفساد: الأخلاقي والسياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، وشبّه المجتمع بالسفينة التي تحمل رُكابها وسط البحر فالكلّ مسؤول عن رعاية هذه السفينة وصيانتها من العبث والغرق؛ لأنّ غرق السفينة معناه غرق الجميع.
ليوضح المسؤولية التكافلية، فالكلّ مسؤولون وأن تأخر بعضهم عن مسؤوليته، وسكت ولم يتحمل واجبه في الإصلاح ومقاومة الفساد، سيعين على غرق السفينة وسيشارك في إهلاك نفسه وركاب سفينته.
ورفض الإسلام روح التواكل، وحاربها وجعل الكلّ مسؤولاً عن التقصير في أي عمل له صيغة جماعية في التكليف (التكليف الكفائي)؛ لذلك كان الواجب الكفائي هو الواجب الذي إذا أقامه البعض سقط عن الباقين، وإذا لم يعمله أحد سُئِل المكلفون جميعاً وأثموا على تركه، فليس مسموحاً لأفراد المجتمع أن يتواكلوا؛ أي أن يتكل بعضهم على بعض في القيام بالأعمال ذات الطبيعة الجماعية، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأنّ الخطاب والتكليف موجّه لجميع المكلفين، فإن تُرِك أثم الجميع ووقفوا مسؤولين أمام الله سبحانه، وإن نهضت فئة وتصدّت لتحمّل المسؤولية كما ينبغي سقط الواجب عن الجميع وأثيب وجُزي العاملون خيراً.
إنّ رُوح المسؤولية والإحساس بها يجب أن تنبع من داخل الذات، ويجب أن يحاسب الإنسان نفسه ويشعرها بالمسؤولية الذاتية، تلك الروح التي حرص الإسلام على تربيتها في نفس الإنسان، وتركيزها في وعيه وضميره، يقول الرسول الأكرم (ص): "حاسبوا أنفسكم من قبل أن تحاسبوا".
· لتحمل المسؤولية ثلاث خطوات:
الخطوة الأولى: (التخلص من مرض الذرائع):
التخلص من مرض الذرائع لأنّه يكون مبرراً للفشل أو لتحميل الآخرين مسؤولية مشاكلنا، وحقيقةً الذرائع كثيرة جدّاً في حياتنا، على سبيل المثال (إنّ الأغلبية الساحقة من الناس ليسوا واثقين من ذكائهم، وخاصة عندما نتكلم عن الغرب وذكائهم بانبهار وأنّهم متفوقون علينا وهذا في حد ذاته يجعلنا نتجنب الدخول في أي تحدٍّ، مع أنّ المهم هو أنّك تستعمل ذكاءك وقدراتك التي أنعم الله بها عليك، بغض النظر عن حجم الذكاء، ونفس الكلام ينطبق على كلّ الذرائع، الصحّة، التعليم، الأمل) وغيرها فيجب أن تستغل إمكانياتك كلّها بجدٍّ واهتمام، وستكشف نقاطاً قوية موجودة عندك أكثر من غيرك.
الخطوة الثانية: (اتّخذ قرارك بنفسك بعد أن تدرس أبعاده ونتائجه):
إنّ اتخاذ القرار من ذات الإنسان بعد البحث والدراسة عن أبعاد ونتائج القرار يجعلك واثقاً باتخاذ قرارك بشكل صحيح؛ يعني أنّه لا يبقى قرار فقط وإنما يلزم التفكير جيداً في اتخاذ القرار، ويجب أن ترى تجارب الناس الذين سبقوك القرار بأفضل صورة ممكنة وباستغلال أفضل لإمكاناتك المتاحة، وسترى الثمرة بعد هذه الأسباب والجهود.
الخطوة الثالثة: (هي أنّك تتقبل نفسك وتواجه نتائج قرارك بشجاعة وبإيجابية):
وهذه الخطوة أهم خطوة لتحمّل المسؤولية لأنّها تُعلمك كيف تكون قادراً على اختيار طريقك بنفسك، ولن تتعلم أو تتوصل إلى المستوى الكبير إلّا بعد أن تأخُذ التجربة لأنّ الحياة لسلسلة من التجارب علينا أن نعيشها حتى نفهمها، وإذا طبقت الخطوات الثلاث في حياتك تستطيع أن تتحمل مسؤولياتك بأكمل وجه.
وأهم جزء في مسألة المسؤولية الذاتية تشمل في سعادتك وسلامتك الداخلية.
هناك علاقة مباشرة بين المسؤلية والسعادة، وبين الهروب من المسؤولية والتعاسة، من ناحية أخرى. لماذا؟
لأنّ مفتاح السعادة الحصول على الإحساس بالتحكم في مفردات حياتك، كلما زادت قوّة تحكمك كنت أسعد.
كلما توليت مسؤوليات أكثر، كلما كنت أكثر تحكماً وحرّيةً لأنّ لديك حرّية أن تتخذ قرارك بنفسك.
أسعد الناس في العالم هم الذين يشعرون براحة تجاه أنفسهم، وتلك هي الصفة التي تتولد تلقائياً مع تقبّل المسؤولية الكاملة عن كلّ جزئية في حياتك.
الشخص غير المسؤول معرّض بشكل كبير إلى الغضب والعدوان، والخوف والكُره، وكلّ أنواع المشاعر السلبية؛ لذلك فإنّ المشاعر السلبية مرتبطة باللوم 99% من إجمالي مشاكلنا الموجودة؛ لأنّنا نستطيع أن نلقي باللوم على الآخرين سواء من البشر أم الظروف أو ما إلى ذلك، ولو توقفنا عن ذلك وتحملنا مسؤولية مشاكلنا لانتهت جميع المشاعر السلبية التي نعاني منها.
الخلاصة:
إنّ تحمّل المسؤولية يجعل حياتك أكثر هدوءاً، ويعطيك رؤية واضحة عن أقوالك وأفعالك؛ لأنّه يُهدّي من انفعالاتك ويتيح لك فرصة التفكير الإيجابي في بناء المستقبل، وبالفعل فإنّ تحمّل المسؤولية غالباً ما يعطيك رؤية لما يجب أن تفعله في ذاتك وعملَ كلّ الأسباب التي تُوجّه إلى تحمّل المسؤولية وبناء على الإيجابيات التي توصله إلى الهدف أو الغاية لترى كيف تتحوّل حياتك إلى سعادة ورضا عن كلّ ما تعمله أو تصادفه من مشاكل أو تحديات تطرأ عليك في طريقك إلى الهدف.
فتحمّل المسؤولية من أهم الخطوات التي يجب على الإنسان أن يسعى في تفعيلها في مجتمعه والتي ترتبط في بناء مستقبل الإنسان وفي بناء شخصيته.
وسِرُّ المسؤولية في تحقيق الإرادة هو أنّك تستطيع أن تعتمد على نفسك وقدراتك في كلّ أمور حياتك وتتحمّل النتائج وتكون أكثر خبرة ومعرفة في تجارب الحياة.
المصدر: كتاب طريق الإرادة إلى مستقبل السعادة
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق