• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

تعدد عقول مجتمع المعرفة وأوجه تماثلها

نبيل علي*

تعدد عقول مجتمع المعرفة وأوجه تماثلها

◄مجتمع المعرفة ليس صنيعة العقل البشري دون سواه بل يشاركه في صنعه عقلان آخران هما العقل الآلي وليد الذكاء الاصطناعي والعقل الجمعي وليد التواصل الشبكي. وبرغم تباين هذه العقول لاختلاف طبيعتها ونشأتها فإن هناك أوجه عديدة للتماثل بينها. وتتبدى لنا أوجه التماثل هذه ما أن نتناول تباين هذه العقول من منظور مقوماتها الأساسية وكيفية قيامها بالأنشطة العقلية المختلفة. وتشير دلائل عديدة أن هذا التماثل سوف يتأكد ويتعمق مع التطور المرتقب لهذه العقول والعمل المتواصل على تكاملها وزيادة الاعتماد المتبادل بينها. بصورة عامة يمكن تصنيف أوجه التماثل بين العقول الثلاثة إلى تماثل بنيوي وتماثل وظيفي.

تعد دراستنا الحالية مبادرة لاستعراض أوجه التماثل، وقد راعينا ما وسعنا الجهد تجنب الخوض في التفاصيل الفنية وما أكثرها.   أوّلاً: أوجه التماثل البنيوي بين العقول الثلاثة: من أبرز هذه الأوجه: تماثل ثنائية المادي واللامادي تماثل الطابع الشبكي تماثل بنية الذاكرة   أ‌-      تماثل ثنائية المادي واللامادي: جرى العرف في دراسة العقل الإنساني الفصل بين المخ، شقه المادي (البيولوجي)، المتمثل في تلك العجينة الرمادية التي تتبوأ أدمغتنا، وبين العقل المتمثل في العمليات الذهنية التي يضطلع بها المخ. وهناك من يعترض على هذه الثنائية من أساسها لقناعته أن جميع العمليات الذهنية دون استثناء، بما في ذلك الوعي ذاته، يمكن سحقها في صورة عمليات مخية أولية ذات أساس كهروكيميائي. لقد توقف نمو مخ الإنسان مادياً منذ آلاف السنين، لذا فنمو القدرات الذهنية بات رهناً بنمو الشق اللامادي من خلال التعلم المستمر، واكتساب مهارات ذهنية جديدة، واستيعاب مفاهيم مستجدة، يُشيد منها العقل بُنى معرفية أكثر ثراءً وعمقاً. أما بالنسبة للعقل الآلي: فالفصل بين شقه المادي وشقه اللامادي صريح ومحدد متمثلاً في ثنائية العتاد hardware والبرمجيات software التي تستخدم موارد العتاد لتأدية المهام الموكلة للبرامج. بما ينطوي عليه من عمليات حسابية ومنطقية. مع ارتقاء النظم الآلية والأجهزة الإلكترونية، أصبح معتاداً أن يحال إلى البرمجيات كثير من المهام التي كانت توكل إلى العتاد إلى حد يمكن معه القول إن نمو العقل الآلي بات هو الآخر رهناً بنمو شقه اللامادي. أما على مستوى العقل الجمعي، فتبرز لنا ثنائية المادي واللامادي من خلال ذلك التعريف الموجز لمجتمع المعرفة على أساس كونه قائماً على مقومين أساسيين: هما شبكة الاتصالات التي تمثل الشق المادي، ومكون المحتوى الذي يمثل الشق اللامادي ويُشبه المحتوى أحياناً بفيض الماء الذي يسري خلال الشبكة، ويشمل المحتوى صنوفاً عدة منها على سبيل المثال لا الحصر المحتوى الثقافي والعلمي والتاريخي والتعليمي والحكومي والجماعات المحلية. مثله مثل نظيريه البشري والآلي، يعتمد نمو العقل الجمعي لمجتمع المعرفة على قدرة شقه اللامادي، أي بقدرته على إنتاج المحتوى، فالمحتوى كما قيل هو الملك.   ب‌- تماثل الطابع الشبكي: بنية العقول الثلاثة ذات طابع شبكية. فالعقل البشري – كما هو معروف – يتكون من بلايين الخلايا العصبية التي ترتبط بعضها مع بعض من خلال حلقات الترابط الأعصابية، مكونة بذلك شبكة عضوية هائلة لا تتوقف عن التشكل وإعادة التشكل بصورة دينامية. والخلايا العصبية ثنائية الحالة، فهي إما أن تكون متوهجة أو خامدة، ومن خلال أنماط الخلايا المتوهجة وحلقات الربط بينها تنبثق القدرات العقلية تحليلاً أو تركيباً، اندفاعاً أو إرجاء، تجاوباً أو إغفالاً مع المثيرات. أما العقل الآلي، فقد تطورت معمارية بنائه من المركزية إلى اللامركزية (التوزيعية) ومنها إلى الشبكية، حيث بات يتكون من مصفوفات كثيفة من الحواسيب الميكروية، لكل من هذه الحواسيب الصغيرة وحدة مستقلة لمعالجة البيانات وذاكرة خاصة به. ومن المتوقع أن تتضافر التكنولوجيا المعلوماتية والتكنولوجيا النانوية nano technology من أجل تقليص حجم هذه "المنمنات الإلكترونية" لتزداد تشابهاً مع شبكة الخلايا العصبية للمخ البشري. أما العقل الجمعي فشبكي بطبعه، وخير شاهد على ذلك شبكات التواصل الاجتماعي التي أقامت جسور الحوار بين الأفراد والجماعات.   ج- تماثل بنية الذاكرة: عادة ما تُقسم الذاكرة البشرية إلى ذاكرة المدى القصير وذاكرة المدى الطويل. وتتميز الذاكرة البشرية بخاصية التداعي حيث يمكن لأي عنصر يحتفظ به في الذاكرة أن يتداعى، أو يتشعب، إلى أي عناصر أخرى. وذاكرة العقل الآلي هي الأخرى ذات مستويين، ذاكرة المدى القصير التي تحتفظ بالمعلومات الراهنة، والذاكرة "الملحمية" ذاكرة المدى الطويل التي تتراكم فيها المعلومات. ومازالت ذاكرة الآلة بدائية إذا ما قورنت بالذاكرة البشرية، حيث عادة ما يتم استجاع محتوى الذاكرة بمعرفة العنوان أو الموضع المخزن به داخل الذاكرة، وهناك محاولات أولية لإكساب الذاكرة الآلية قدراً من التداعي، وذلك من خلال إقامة حلقات التشعب النصي التي تمكن من الانتقال المباشر من أي موضع في الذاكرة إلى أي موضع آخر. ذاكرة العقل الجمعي هي الأخرى ذات مستويين، ذاكرة المدى القصير، لتسجيل التاريخ لحظة بلحظة، والذاكرة التراثية التي يخزن بها تراكم الأحداث وما ينجم عنها من وقائع. تسعى تكنولوجيا الويب الدلالي إلى إكساب الذاكرة الجمعية القدرة على التداعي من خلال إقامة حلقات التشعب النصي التي تربط بين الوثائق الإلكترونية بصورة اتوماتية.   ثانياً: أوجه التماثل الوظيفي بين العقول الثلاثة: يتركز الحديث هنا على ثلاثة ملكات عقلية هي: ملكة التعلم ملكة الذكاء ملكة الإبداع   أ‌-      ملكة التعلم: التعلّم هو القدرة على اكتساب المعارف والمهارات ذاتياً. وتتجلى ملكة التعلم أكثر ما تتجلى بالنسبة للعقل البشري في اكتساب الأطفال للغتهم الأم دون معلم، وذلك من خلال تفاعلهم مع البيئة المحيطة وسماع عينة من كلام الكبار من حولهم. ويعتبر التعلم قدرة عقلية أصيلة، وغاية التربية في مجتمع المعرفة هو استعادة هذه القدرة والمحافظة عليها تلبية لمطالب التعلم المستمر مدى الحياة. ويصبو العقل الآلي من خلال أساليب الذكاء الاصطناعي إلى اكتساب القدرة على التعلم ذاتياً دون توجيه من برامج معدة مسبقاً تُحدد له سلوكه وحدود قدراته في حل المشكلات. في هذا الصدد، تُمثل الشبكات الإعصابية الاصطناعية نقلة نوعية مهمة، حيث يتم تغذية الشبكة بما يعرف بـ"حزمة التعلم"، ويقصد بها مجموعة من حالات المشكلة رهن التناول مقرونة بحلول مجدية لهذه الحالات، ومن خلال استيعاب هذه الشبكة الاصطناعية لهذه العينة تتشكل عناصرها وتتضح آلياتها الداخلية بحيث تصبح قادرة على حل مشكلات جديدة من لم ترد حزمة التعلم. أما تعلم العقل الجمعي فمثاله الحالي هو ما يطلق عليه "المؤسسات المتعلمة" التي تتعلم جميعاً من خلال انتقال الخبرات وتبادل المعارف وتفاعلها، ويتم ذلك غالباً عن طريق ما يعرف بـ"العصف الذهني" وغيره من أساليب استنهاض العقول واحتشادها. ومن المتوقع أن تلعب الشبكات الاجتماعية دوراً مهماً في إزكاء قدرة العقل الجمعي على التعلم التواصلي والمتواصل.   ب‌- ملكة الذكاء: لا ريب في تفوق ذكاء الإنسان في كثير من طرق التفكير، مثل التفكير الاستشرافي والتفكير المرن، للتعامل مع الطارئ وغير السائل. أما بالنسبة لتفوق الإنسان فيما يعرف بـ"ذكاء السلوك" فحدث ولا حرج. وفي المقابل، يتفوق ذكاء الآلة في أطوار معينة من التفكير، من قبيل التفكر التبادلي والتفكر المتوازي والتعامل مع الظواهر ذات الطابع الدينامي والتعامل مع الإشكاليات ذات البيانات الضخمة. وفيما يخص ذكاء الآلة سلوكياً، فيتردد على أسماعنا حالياً مصطلحات من قبيل: "الروبوت المهذب" بل أيضاً "الروبوت القديس" الذي يستطيع قراءة ذهن رفاقه البشريين ليظهر لهم التعاطف أو يقدم لهم يد العون. والآن إلى ذكاء العقل الجمعي الذي يتفوق هو الآخر في أطوار معينة من التفكير مثل تلك التي تقوم على تعدد وجهات النظر مثل التفكير النقدي والتفاعلي. أما فيما يخص ذكاء السلوك الجمعي، فيتسم بالحساسية وشدة الانفعال، فما أسرع أن يحشد التأييد أو ينفض، وما أهل أن يتم تأجيج الصراعات فيما يعرف بـ"ويب الكراهية". إضافة إلى ما سبق، يسهم ذكاء العقل الجمعي السلوكي بدور مهم في تحديد المعايير الأخلاقية والقيود الاجتماعية وطقوس المناسبات "وإيتيكيت" التعامل عن بعد.   ت‌- ملكة الإبداع: والآن إلى أكثر ملكات العقل إثارة وغموضاً، ألا وهي ملكة الإبداع. ولا خلاف في أن ما حققته البشرية عبر التاريخ يرجع الفضل فيه إلى إبداع العقل البشري. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل يمكن للآلة كسر احتكار الإبداع من قبل بنو البشر؟! بقول آخر، هل يمكن للآلة أن تؤلف القصص وتقرض الشعر وتشكل وتنحت وتضع الألحان والأنغام؟ هناك محاولات بدائية لبرامج حاسوبية تقرض الشعر وتشكل اللوحات التجريدية وتعزف الموسيقى وتوزع الألحان، ومن المتوقع أن تهتدي الآلة لنوعيات من الفنون خاصة بها. ومن أهم هذه المجالات التشكيلات البيولوجية من خلايا وأنسجة، والتكوينات البلورية والتفاصيل الساحرة للجزيئات النانوية. بناء على كل هذه الموتيفات الطبيعية ستشترك الآلة مع الإنسان في إخراج روائع تمزج بين إبداع الطبيعة وإبداع كائنها الفريد ألا وهو الإنسان. فيما يخص الإبداع الجمعي، فقد شاعت مقولة: "العلم هو نحن أما الفن فهو أنا"، ويقصد بذلك أنّ العلم جمعياً بطبعه حيث يقوم بالاكتشافات العلمية عادة فرق من العلماء والباحثين، أما الفن ففردي بطبعه حيث يعتمد أساساً على موهبة الفنان ونزعاته الفنية. تكاد هذه المقولة الموجزة أن تفقد صحتها فالأوفق، أن نقول حالياً بدلاً منها إن كلاً من العلم والفن هو نحن وأنا في ذات الوقت، فعبر الإنترنت حالياً هناك قصص يشارك في تأليفها مجموعة من المؤلفين، ولوحات تشكيلية يسهم فيها زوار المعارض الفنية.

وختاماً، فإننا نعيش حقاً "موسم الهجرة إلى الجموع" مع إتاحة الفرص للفرد أن يبدع ويتعلم ذاتياً ويسمو بذكائه وعقله الوثاب، سنده في ذلك عقل آلي تزداد قدراته يوماً بعد يوم.►

*خبير تكنولوجيا المعلومات واللغويات الحاسوبية

ارسال التعليق

Top