• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

تنمية حُب القراءة في نفوس أطفالنا

سهام الفضل

تنمية حُب القراءة في نفوس أطفالنا
 إنّ ظاهرة بُعد أطفالنا عن القراءة، وعدم اكتراثهم بها تستدعي التأمل وتستوقف الانتباه، وقد أثبتت الحقائق العلمية والبحوث الميدانية وأيدتها الملاحظة أنّ الولد الذي يشب بعيداً عن القراءة في صغره يظل عازفاً عنها، كارهاً لها... ويمكن ملاحظة ذلك عند أولادنا الذين تكدّس لهم مدارس العصر، البرامج الدراسية المكثفة، بشكل لا يستطيع معها الطفل أن يجد وقتاً للقراءة، وبالتالي أن يحب القراءة وتصبح نوعاً من الهواية لديه.. أضف إلى ذلك أنّ الطفل إذا ما بقي لديه بعض الوقت ولو كان قصيراً، فإنّه يسرع إلى التلفزيون أو الكمبيوتر أو غيرها من الوسائل الترفيهية الحديثة، التي قضت على أي أمل بأن يتوجه الطفل إلى القراءة.. ومع ذلك نجد أنفسنا أمام بعض التساؤلات:   - ما هو الغرض من القراءة؟ وما هو دورها في حياة أطفالنا، وإلى أي مدى تسهم في نموهم؟ إنّ القراءة ضرورة حققها الإنسان الذي ميزه الله عن سائر المخلوقات بنعمة العقل والبيان ليتيسر له تبادل الأفكار مع أفراد مجتمعه وسائر الناس، ويعتبر الجاحظ إنّ القراءة هي: "الأداة الأقدم والأفضل بين كل ما أنتجته عبقرية الإنسان من وسائل التلقين. "لذا كان اهتمام المسلمين بالقراءة والكتابة تلبية للأمر الإلهي في قوله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق/ 1-5)، وعلى هذا إنّ القراءة خير ما يتيح للعقل من أن يقارن ويوازن، ثمّ يستنبط ويستدل ويستخلص، ومن ثمّ يكون لهذا أثره في السلوك بالقول والكتابة والعمل... ويؤكد ذلك قول بعض المربين عن الغرض من الكتابة أنه: "هو اقتباس الأفكار عن اللغة المكتوبة.. كذلك فإنّ الغرض من الإصغاء هو اقتباس الأفكار عن اللغة المحكية.. والقراءة على نوعين: قراءة جهرية وقراءة صامتة.. ولعل المتعلم أحوج إلى القراءة الصامتة على اعتبار أنها أكثر شيوعاً أو استعمالاً في الحياة اليومية، وأدعى إلى سرعة الفهم من القراءة الجهرية..". لقد تناول الباحثون العلماء القراءة من نواحيها المختلفة بالدراسة والبحث من حيث أنواعها، ومن ثمّ توصلوا إلى عدة نقاط: إنّ القراءة لا يمكن أن تصبح عادة بالضغط والإكراه، ولا ينبغي أن تكون تحت أي ظرف من الظروف، ولا ربط هذه العادة بأشكال من العقوبات إن لم تمارس، كأن تقول له: إن لم تقرأ هذا الكتاب سنحرمك من كذا وكذا. كما لا ينبغي جعل القراءة للأطفال شرطاً لقيام الأهل بأداء شيء يريدونه. إن إتباع هذا الأسلوب قد يولد إحساساً لدى الطفل بالعداء نحوها.. وهذا ينافي القول بأنّ القراءة هي استجابة طبيعية لاشباع حاجات نفسية تدفع الأطفال إلى القراءة، فما علينا إلا أن نضع بين أيديهم كتباً شائقة الموضوع، حتى تصبح القراءة لديهم عادة ومتعة ومحببة منذ الصغر، ننميها لديهم لما لها من دور في حياتهم. لنرى ما كتبه الأستاذ عباس محمود العقاد عن سبب حبه للقراءة يقول: "لست أهوى القراءة لأكتب، ولا أهوى القراءة لأزداد عمراً في تقدير الحساب، وإنما أهوى القراءة لأن عندي حياة واحدة في هذه الدنيا، وحياة واحدة لا تكفيني ولا تحرك كل ما فيّ من بواعث الحياة، والقراءة دون غيرها هي التي تعطيني أكثر من حياة في مدى عمر الإنسان الواحد لأنها تزيد هذه الحياة من ناحية العمق، وإن كانت لا تطيلها بمقدار الحساب. فكرتك أنت فكرة واحدة، وشعورك أنت شعور واحد، خيالك أنت خيال فرد إذا قصرته عليك، ولكنك إذا لاقيت بفكرتك فكرة أخرى، أو لاقيت بشعورك شعوراً آخر، ولا قيت بخيالك خيال غيرك، فليس قصارى الأمر أنّ الفكرة تصبح فكرتين، أو أنّ الشعور يصبح شعورين، أو أنّ الخيال يصبح خيالين، كلا، وإنما تصبح الفكرة بهذا التلاقي مئات الفكر من القوة والعمق والامتداد". إنّ هذا الأمر يصدق إلى حد كبير مع أطفالنا، إنّ للقراءة دوراً في حياتهم لا يقل عن الدور الذي تلعبه في حياة الكبار.. والسؤال الذي نطرحه كيف نحبب ونشوق أطفالنا إلى القراءة؟   - كيف تجعل طفلك قارئاً؟ يبدأ المربي بتعويد طفله على القراءة الممتعة المتواصلة. فمهارة القراءة لا ترسخ في الذهن إلا بالمران والاستعمال.. وبالتالي تبدأ القراءة تؤتي أكلها، فمن خلالها يقول أحد المربين: "تدرس القيم، وتعمق المبادىء، وتكوّن الاتجاهات، وتوسع الميول، وترهف الإحساسات، وتنمي التذوق، وتشبع الحاجات النفسية المختلفة، وتوثق الصلة بين الطفل والصفحة المطبوعة، إنها باختصار تضيف إلى عمره عمراً، وإلى حياته حياة ما كان له أن يحظى بهما لو نشأ عزوفاً عن القراءة، بعيداً عن مصادر المعرفة والتثقيف..". نتوصل إلى أنّ للطفل حاجات نفسية متعددة يستطيع أدب الأطفال أن يسهم في إشباعها، وقبل أن نبين حاجات الطفل نتطرق إلى أهمية المكتبة المنزلية الصالحة.. وكيف نلبي حاجات الطفل النفسية.   - أهمية وجود مكتبة في البيت: إنّ وجود مكتبة في البيت يساهم بشكل كبير في بناء المادة الفكرية والعلمية للأطفال والسبب في ذلك يرجع إلى أهمية الكتاب والإستفادة منه لأنّه يشكل الدعامة الأولى للمعرفة لما تقدم لهم من مناهل الثقافة، وتهديهم إلى مصادر المعرفة في أقصر وقت وبأيسر جهد. لذا يجب إعداد مكتبة ذات رفوف قريبة من الطفل يستطيع أن يصل إليها بسهولة ليختار ما يشاء منها. لأنّ المكتبة تشكل جزءاً أساساً من أركان البيت، ولها غرض ثقافي ولأنها كما قلت تقدم للأبناء المعلومات العامة للإستزادة من المعرفة والثقافة العامة، فالطفل يجب أن يتعرف على أشياء كثيرة تحيط به يؤثر فيها أحياناً وتؤثر فيه أخرى نتيجة حاجة هامة من حاجاته العقلية وهي الحاجة إلى الاستطلاع. يقول أحد الكتاب: "كثير من الأسر التي لا توفر أجواء المطالعة والمكتبة يعاني أبناؤها من الفقر الفكري، ولذلك فإن بيوت العلماء والمفكرين تخرج علماء ومفكرين في حين بيوت الصناع تخرج صناعاً، فالجو العام في البيت له تأثيره الكبير في بناء الفكر المطلوب للأبناء بشكل متكامل". كذلك فإن أدب الأطفال إذا خصص صفحات للمسابقات، ولألعاب التسلية ينمي الذكاء والمعلومات وإثارة الرغبة في القراءة، ويمكن أن تتطور لتشجيع الأطفال ذوي المواهب في الأدب والفنون على تقديم انتاجهم في مسابقات أدبية أو فنية مناسبة يمكن نشر ما يفوز منها في مجلة مخصصة للأطفال. لذا يجب على المربي أن يختار لأطفاله الكتب التي تحتوي الفكرة والموضوع، والتشويق والألعاب والتسلية لتصبح القراءة لديه متعة يلجأ إليها في وقت فراغه.   - من حاجات الطفل النفسية: حاجته إلى الأمن: يقول أحد المربين: "فالقصص التي يشيع فيها حب الآخرين وحرص أفراد الأسرة بعضهم على بعض، والتآزر بينهم في مواجهة مواقف الحياة المعقدة ومشكلاتها المختلفة، نقول أن أمثال هذه القصص تشبع إلى حد كبير حاجة الطفل إلى الإحساس بالطمأنينة والأمن، إنّه يتابع باهتمام شديد أحداث القصة ليرى كيف يسلك كل من أفراد العائلة تجاه الآخرين، كما يتابع الخط الذي تنمو فيه هذه العلاقة". وكل ذلك له أثره الفعال في حياته داخل أسرته. شعوره بقيمته الذاتية: إنّ الطفل يريد أن يكون شخصاً هاماً معتنى به له مكانه في أسرته ومجتمعه وأن يعترف به كشخص له قيمة ومكانة، لذا يساهم أدب الأطفال من خلال قصص: يحترم فيها الأب ابنه والأُم ابنتها، وإن تقديم المدح والثناء للطفل على كل عمل يقدمه ينمي ثقته بنفسه. يضاف إلى كل ما سبق أن قراءة الكتب والقصص تنمي عند الأطفال ثروتهم اللغوية. كما تساعد على اتقان اللغة العربية وغير العربية. وكلما أتقن اللغة سهل عليه فهمها واكتساب الكنوز العلمية والأ>بية المدخرة فيها، كما أن إتقان اللغة العربية تساعدهم على التحديد الدقيق لمفاهيمها فضلاً عن تنمية بعض المهارات فيهم. فلنحرص على الدقة في تشكيل الكلمات ليلتفت الأطفال منذ البداية إلى الكلمة الصحيحة. فعلينا كمربين ومدرسين أن نجعل الطفل يألف هذه اللغة بجميع مفرداتها وتراكيبها واصطلاحاتها وقواعدها على أتم وجه..   - ما هو دور الأسرة في تنمية ميول الأطفال في القراءة وتشجيعهم عليها؟ قبل أن نجيب على هذا السؤال يجب علينا أن نوضح أوّلاً مسؤولية الأسرة. لقد اهتم الإسلام بدور الأسرة لأنها كما يقول محمد لبيب النجحي: "هي البيئة الاجتماعية الأولى التي يبدأ فيها الطفل بتكوين ذاته والتعرف على نفسه عن طريق عملية الأخذ والعطاء والتعامل بينه وبين أعضائها.. وفي هذه البيئة الاجتماعية يتلقى أول إحساس بما يجب وما لا يجب القيام به". كذلك اهتم الإسلام بالبيئة التي تحتضن الطفل، لأنّه دائماً يحتاج إلى أحضان ملئوها الرعاية والعون، وبيئة ثقافية يعيش فيها ويتشكل لأنّه شديد التفاعل والاندماج مع البيئة المحيطة به، وقد قصد بالبيئة الاجتماعية بأنها: "المجتمع البشري وعلاقات أفراده وجماعاته بعضهم مع البعض الآخر. فالبشر والعلاقات البشرية على اختلاف أنواعها سواء أكانت اقتصادية أم سياسية أم مهنية أم ثقافية أم سيكولوجية أم غير ذلك يتألف منها البيئة الاجتماعية". إنّ بعض علماء النفس قام بتجارب على بعض الأطفال الذين يبلغ عمرهم أربع سنوات.. وجاءت النتائج مذهلة، ذلك أنّ الطفل الذي يبلغ عمره أربع سنوات، وقد نشأ في وسط عائلة مستقرة مادياً وأدبياً.. ويعيش في منزل تتوافر فيه الكتب والمجلات.. يستطيع أن يتعلم أي شيء بسهولة تامة.. ودرجة ذكائه عادة تكون أكبر من درجة الطفل الذي ينشا وسط الأحياء الفقيرة المعدمة ويعيش في منزل لا يهتم أحد فيه بالثقافة. نعود إلى دور الأسرة في تنمية ميول الأطفال في القراءة وتشجيعهم عليها، إن هنالك مجموعة من التوصيات التي يمكن من خلالها تحقيق ذلك: 1- بما أنّ البيت يأتي في مقدمة المؤسسات الاجتماعية الأكثر تأثيراً في الطفل وتكويناً لشخصيته، لذا يجب أن يكون كل من فيه قدوة صالحة لها دورها الفعال. وقد ذهب بعض علماء النفس إلى أنّ الطفل مقلد لوالديه في كثير من أعماله، لأنّه النموذج الذي يجب أن يحتذي به ويؤكد ذلك قول أحد المربين: "بأنّ القراءة شأن أي سلوك آخر تلعب القدوة فيه دوراً كبيراً في تنميته، ولنتصور طفلين أحدهما يرى والده يتصفح قبل أن ينام مجلة أو يقرأ كتاباً، وثانيهما طفل لا يعرف الكتاب منزله ولا يطرق بابه، فلنشعر أطفالنا بأهمية الكتاب والقراءة لأنّ الكتاب عُرف على مر السنين أنّه الصديق الأمثل، وأنّ القراءة هي الهواية التي تغذي العقل والروح، والأسرة الناجحة هي التي تعتني بالكتاب وبنوعيته، وبإثارة اهتمام أطفالها نحوه وعنايتهم بنظافته وترتيبه... 2- من واجبات الأسرة كذلك إعطاء فرصة للطفل للاختيار في مجال اقتناء الكتب التي يريدها بما يتناسب مع رغبته وقدراته وميوله دون أن نفرض عليه كتاباً معيناً.. والسبب في مراعاة قدرات الأطفال وميولهم هو أن لا نرهقهم بقراءة كتاب يصعب عليهم فهمه وقراءته دون رغبة فيه. فعلى المربين أن يختاروا لأطفالهم من الكتب ما يتناسب وأعمارهم وثقافتهم وميولهم وقدراتهم حتى تكون الفائدة أكبر والقطاف أنضج ويكون بذلك تلبية لقول الإمام علي (ع): "حدّثوا الناس عما يعرفون". وبالتالي إذا أغري الطفل بمطالعة الكتب التي تلائم سنه وميوله ودُرب على القراءة في البيت وعلى مقاعد الدراسة رافقته هذه العادة الطيبة كل أيام حياته، ونكون بذلك قد أوجدنا به عادة وهواية ومنفعة يشكرنا عليها طيلة حياته. 3- ولتشجيع أطفالنا على القراءة ينبغي أن تخصص الأسرة جزءاً من ميزانيتها لشراء الكتب تثري بها المكتبة المنزلية.. كما أن عليها من فترة إلى أخرى أن تحرص على سماع ما يقرأ أطفالهم والإنصات إليهم لتحببهم بها وبيان اهتمامهم بالكتاب وبهم. كما ينبغي اصطحاب أولادنا إلى المكتبات العامة ومعارض الكتاب، لأن من شأنها أن تخلق رغبة قوية لدى الطفل في اقتناء الكتب، بل إنّ عملية ارتياد المكتبة العامة تصبح إحدى متعه اليومية حيث تنمى لديه الاستقلال في تحصيل المعرفة.. فضلا على خلق صلة طيبة بينه وبين أمين المكتبة لأنّه دائماً يلبي متطلبات ورغبات الطفل في اختياره للكتاب، فضلاً عن اطلاعه على كل جيد في عالم الكتب. وأخيراً.. إن أعظم تشجيع للطفل لتعلم القراءة يكون بخلق الإحساس لديه بأن قراءة الكتب والصحف والمجلات مهمة وممتعة ولها دورها الفعل في حياته الثقافية والاجتماعية... ونختم بقول أحد المربين أنّ "الأمة التي يحسن كل أبنائها القراءة والكتابة، ويستطيعون الاستفادة منهما، لي أفضل من حيث المستوى الاجتماعي، وأرقى حضارة وأسرع تقدماً، وأجدر بالاعتبار من أمّة عشرها علماء، وتسعة أعشارها أميون". فلنجعل الكتاب ثروتنا وحاجتنا، وصدق الإمام جعفر الصادق (ع) حين يقول: "احتفظوا بكتبكم فإنكم سوف تحتاجون إليها". وقال أيضاً: "إنّه سيأتي على الناس زمان هرج لا يستأنسون فيه إلا بكتبهم".

ارسال التعليق

Top