• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

ثمرة الصبر

د. علي حسن عبدالقادر

ثمرة الصبر

◄قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة/ 155).

الأُمم تقوم قوية ثابتة الأركان بعد أن تمر بضروب مختلفة من البأساء والضراء تثقف من نفسها أو تعرك من مرونتها وتنفي من خبثها وضعفها، حتى إذا مرَّت بهذا الابتلاء صابرة وتحملت هذا الامتحان في غير ضعف أو وهن، بُعثت أمة قوية لا تكسر لها شوكة ولا تلين لها قناة، وكتب الله لها الحياة والبقاء، ومن المعروف أنّ الأُمم القوية هي الأُمم التي تحملت وتحمل أفرادها فنوناً من الكفاح والمغالبة في الحياة، وخلصت من ذلك بعد صبر طويل وجهد شاق إلى دور من قوة الاحتمال ووحدة الشخصية في أجيالها المتتابعة.

كان هذا شأن الأُمّة الإسلامية في قيامها، وكان هذا شأن النبي (ص) وأصحابه في بعثها والنهوض بها، وكان هذا شأن الإسلام في تعاليمه التي أرشد بها المسلمين وهداهم إلى التمسك بها والسير على نهجها حتى أصبحت الأُمّة الإسلامية أمّة قوية وكتب الله لها الغلبة والنصر على أمم أخرى أكثر عدداً وأوفر مالاً.  كانت أهم المميزات التي ساعدت على هذا كله هو ما طبع عليه المسلمون أفراداً وجماعات من عزيمة الصبر وقوة التحمل التي جعلت من هؤلاء الصابرين صخوراً صلداء وجبالاً شماء ثابتة قوية لا تزول ولا ينال أحد منها منالاً.

ولقد كان من حكمة الله تعلى ان اختار لرسالته رسولاً وأصحاباً للاضطلاع بهذه الدعوة الإنسانية بعد أن تمرسوا بالصبر وتحمل المشاق وقويت عزيمتهم وإرادتهم في بلد تقسو فيه الحياة ويصعب فيه العيش الرغيد وتجفو فيه سبل الراحة والحياة الوادعة، فلم تثقل نفوسهم متع الدنيا ولم تتسع عليهم أسبابها الرخيصة فتشغلهم عن أهدافهم الكبرى أو تضعف من مضيّهم في الاضطلاع بغاياتهم النبيلة.

وقد ذكر الله الصبر في القرآن في نيف وسبعين موضعاً وأضاف أكثر الدرجات والخيرات إلى الصبر وجعلها ثمرة له يقول تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا) (السجدة/ 24)، وقال تعالى: (أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا) (القصص/ 54)، وهكذا قرن الله الإمامة والقيادة لأمر الناس بالصبر وأنّه تعالى أقامهم أئمة لما صبروا، مما يدل على أنّ هذه الطبقة إنما تكون من صنف خاص من الناس وهم الصابرون الذين مارسوا الصبر وتربت نفوسهم على التحمل وضبط النفس وعدم الجزع عند المحن أو الهلع عند الأزمات، وكل هذا من فنون الصبر لمن مارسه في نفسه حتى راض من إرادته وملك عنانها وهؤلاء هم الأقوياء الذين يختارهم الله أئمة يهدون بأمره وأولئك يؤتون أجرهم مرتين مرة في الدنيا بإخضاعهم لها ومرة في الدار الآخرة كما وعدهم الله بذلك – (أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا). وقد جمع الله للصابرين بين أمور لم يجمعها لغيرهم فقال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة/ 155-157)، فالهدى والرحمة والصلوات مجموعة للصابرين.

ولما كان الصبر بهذه المثابة وكانت غايته في تقوية الفرد والمجتمع بهذه الدرجة، رتب الله تعالى على الناس وظائف من العبادات تتمثل فيها هذه الخصلة من التدريب البدني والنفسي، فرتب عليهم عبادة الصوم مثلاً بما فيها من مشقة الإمتناع وكف النفس عما تطلبه والصبر عن الطعام والشراب حتى تتريض وتتدرب على الكفاف والمنع، وكذلك عبادة الحج وما فيها من مشقة السفر وتحمل رسوم الاحرام وهي نوع من ممارسة الصبر والتحمل في أوقات الرخاء والسلم وإعداد للأُمّة والأفراد في أوقات الشدة والجهاد.

وخصلة الصبر هي عنوان المؤمن الكامل التي يواجه بها الحياة في ثقة وطمأنينة ويقين بالله كما فعل ذلك الرسول في قوله: "مثل المؤمن كمثل القطعة من الذهب ينفخ عليها صاحبها لم تتغير ولم تنقص، والذي نفسي بيده إن مثل المؤمن كمثل النحلة أكلت طيباً ووضعت طيباً لم تكسر ولم تفسد، ومثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تفيؤها الرياح تعدلها مرة وتقيمها أخرى".

وهناك المخلصون الذين كبرت نفوسهم وخلصت قلوبهم فاجتازوا مرحلة الصبر إلى مقام الرضا بالله وهؤلاء هم الذين يصبرون عند البلاء ويشكرون عند الرخاء ويرضون بمواقع القضاء. وفي وصية الرسول لابن عباس يقول: "إذا أردت أن تعمل بالرضا فاعمل وإن لم تستطع فإن في الصبر على ما نكره خيراً كثيراً واعلم أنّ النصر مع الصبر وأنّ الفرج مع الكرب وان مع العسر يسراً".

إنّ التاريخ قديماً وحديثاً شاهد على أنّ الأُمم والأفراد الذين استعملوا الصبر سلاحاً لهم في دعوتهم أو رسالتهم أو مقاومتهم. لم يستطع خصومهم قهرهم أو التغلب عليهم وكانوا أقوى وأبعد منالاً بهذه الوسيلة الخطيرة وهذا السلاح العتيد. فلا غرو أن يتعلم الناس فنون الصبر وفلسفة الصبر وأن يعالجوا أنفسهم بهذه الرياض النافذة، فسيجدون في ذلك ذخراً لهم عند الحاجة وقوة لأنفسهم ولأمتهم. انّ تعلم الصبر وممارسته سر من أسرار القوة والبطولة في الأُمم والأفراد وعنصر أساسي لسلامة المجتمع من التحليل والفساد (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل/ 96).►

 

المصدر: كتاب القرآن.. نظرة عصرية جديدة/ سلسلة الفكر الديني المعاصر

ارسال التعليق

Top