• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

دور الأسرة والمدرسة في التربية

صقر الخوري*

دور الأسرة والمدرسة في التربية
◄دواعي النمو: يقال: إنّ تغيير البنية الحياتية، وهو الذي يستدعي تغيير النماذج، أم الأنماط السلوكية، أم الطرائق التدريسية، بما يتناسب مع هذه البنية الجديدة.. وربّما جاز العكس إلى حد بعيد.. إلى الحد الذي تغير فيه أنماط السلوك للبنى الحياتية الجسدية والعقلية. وقبل أن نتجاوز هذه النقطة، نريد أن نتساءل: لماذا نقول تغير البنية الحياتية، وتغيير الأنماط السلوكية؟ هل الحياة تتغير أم تنمو، وهل الأنماط السلوكية ترث ثمّ تترقع، أم أنها تترقى وتتكامل؟ هذا التساؤل هو الذي يهدم أو يسمقّ الجدار الثخين الذي يفرز المجتمعات المتقدمة عن المجتمعات النامية.. لأنّ المجتمعات المتقدمة هي التي تنسج بأيديها وعقولها بنيتها الحياتية، حلقة أثر حلقة، وفق تسلسل صاعد، منطقي المضمون والمنحى، يستمرى المرحلة التي يحياها، ويحتوى عناصر المرحلة القادمة.. في حين تتناول المجتمعات المتخلفة هذه المنجزات جاهزة ومطبوخة، وترصفها أما إلى جانب بعضها، أم فوق بعضها، وهي لا تعلم الشكل النهائي الذي سينتهي إليه البناء. المجتمعات المتقدمة تتلاحم فيها أو تندمج الأنماط المعرفية مع الأنماط السلوكية على أساس أن كل نمط فكري يستدعي أن يستلهم نموذجاً سلوكياً يعبّر عنه.. في حين تتفارق أو تتنافر أو تتصارع هذه الأنماط في المجتمعات المتخلفة.. وحين ينتهي الصراع، إيجاباً أم سلباً، تكون الحصيلة قد مُسخت، والجهود قد هُدرت وقطار الحياة في محطات تالية، ودواعي النمو أكثر ضرورة والحاحاً. لأنّ الزمان يظل يتابع المسير، أن تهاونت الشعوب في سيرها أم حثّت خطاها.. فما الحال، إذا كان الأمر كذلك، وإذا كنا شعباً يريد أن ينمو نمواً متزناً، ولا يؤمن بتغيرات الطفرة، ولا بالقفزات التقليدية؟؟.. هل الحال في أن نرمم البناء القائم، أن نشيد فوقه طابقاً أثر طابق، أم نباشر البناء من جديد؟ تساؤلات على جانب من الأهمية. ولكنها ستتحطم وتنهار دفعة واحدة، حينما نتذكر أننا لا نملك حرية الاختيار والتحرك بين هذا الرأي وذاك، إذا كنا جادين فعلاً في مواكبة المعاصرة: فالترميم، والترقيع، وحلول التوفيق والمصالحة، أثبتت أكثر من مرة، أنها: رقعة من القطن، ممرغة بشيء من الكحول حشرت في سن منخور. علينا إذن أن نعد أنفسنا لعملية بناء متكاملة.. فمن أين نبدأ يا ترى؟ وهل نحن هنا مرة ثانية – في موقف خيار أم موقف إلزام؟ لقد قررنا لتونا أن نجدد البناء، وتجديد البناء يعني البدء من الأساس، والبدء من الأساس يحتاج إلى إحاطة كاملة بتفاصيل البناء لوضع كل حجر في مكانه المناسب. فإذا وفقنا إلى كل ذلك، انقلبت خريطة المهندس إلى ورشة تعج بالصخب والضجيج، وأن لا بقيت خريطة المهندس مجرد خريطة في درج مكتب يعلوه الغبار. وحتى لا نبقى حيث نحن ويعلونا غبار القوافل المتقدمة.. ما هي الأساسيات التي يجب علينا أن نعدها، لنعد مجتمعاً يعرف ويريد أن ينهض بالبناء؟ إنّ الجدول الذي لدينا لا يحتوي إلا على بند واحد هو المدرسة.. فأية مدرسة تلكم التي سوف تنهض بهذا العبء الثقيل؟ هل هي المدرسة – المعلم، أو المدرسة – التلميذ، أم المدرسة – الأسرة، أم المدرسة – المجتمع، مدرسة المدارس التي تضم تحت علمها كل الذين ذكرنا؟.. أظن أننا لسنا على عجلة من أمرنا، تضطرنا لقفز المراحل، وقذف الأحكام دون تبصر أو تمعنّ في نقطة البدء التي ستسوقنا دون إطالة تدعو إلى الملل، إلى المواطن التي سيرى كل واحد منا أنها الأولى بالاهتمام بها، وفي تكريسها وتحقيقها.. فلنبدأ من عند: الطفل.. الطفل قبل المدرسة، ودور الأسرة، ثمّ نتدرج في الصعود حتى ندعه، عدة الغد، ورجل المستقبل.   1-    الطفل قبل المدرسة ودور الأسرة: ليست المرة الأولى، وقد لا تكون الأخيرة التي نستعير فيها قول "وطسن" أعطني عشرة أطفال أعدهم إليك كما تشاء: الأول قديس والثاني زنديق والثالث عالم... وإلخ، ذلك كما ندلل على الأثر المباشر والحاسم للتربية، وإذا أضفنا إلى هذا الرأي البعض من الآراء والنظريات المستحدثة في التربية وعلم النفس، والتي تشير بدورها، وبأسلوب قد لا يقبل الجدل إلى الدور الأساسي جدّاً الذي تلعبه الأسرة قبل المدرسة في إعداد الأطفال وتهيئتهم للمستقبل البعيد. لابدّ أن نشعر بثقل المسؤولية الملقاة على كواهلنا، ونحن نبني رجال الغد عدة المستقبل. فما رأينا كآباء، إذا سمعنا هذا النداء: أيها الآباء احذروا لأنكم تغزلون مصائر أبنائكم وهم في المهد... أو إذا قيل لنا: أيها الآباء، احرصوا أن أبناءكم يكتسبون تسعة أعشار قابلياتهم وعاداتهم في السنوات الثلاث الأولى من عمرهم فلا تهملوهم في مراحل الحسم هذه، أو على الأقل، لا تلقنوهم في هذه المرحلة، ما لا ترغبون أن يترسخ في سلوكهم، إذا كنتم لا تستطيعون، أو أن وقتكم الثمين لا يسمح لكم لأن تكونوا قدوتهم الحسنة. إذا قيل لنا ذلك فبماذا نجيب؟؟ أننا في غالب الأحيان، نصطنع مواقف مزورة، نزيف فيها الحقائق على أنفسنا بالدرجة الأولى، فندعي ونضرب العديد من الأمثلة: أنّ هذه الآراء مبالغ فيها جدّاً جدّاً، أو أنها خزعبلات فيلسوف خرف، أو أنها لا تصلح في كل مكان وزمان، أو أنها، حتى ولو كانت صحيحة، لا يمكنها أن تصمد أمام الحظ والصدفة والتوفيق والقضاء والقدر والوراثة... وإلخ. وتضاعف الأمثلة التي ضربناها ونربعها ونكعبها، ثمّ نشتم المربي أم الفيلسوف الذي طلع بها، ونخفي رؤوسنا في الرمال. فلماذا نصطنع هذه المواقف يا ترى؟ هل لأننا لا نريد النفع لأولادنا.. أم لأننا نشك فعلاً بالعلم والتربية؟ أم لأننا نريد أن نهرب بأسلوب ما من التبعات المترتبة علينا؟ أظن أنّ "الأُم" الخيرة هي التي تمثل واقع حال الأكثرية بيننا. أننا لا نستطيع هنا أن نرصد كل هذه النظريات، وأن استطعنا، فلا نريد أن نجترها، وهي من مدركات القسم الكبير منا، وفي متناول أيدينا.. لنعد في ساعات فراغنا، ولنطلّع ولو لماماً، على الدراسات الزاخرة والمستفيضة في التربية، كي ترشدنا إلى أسلم الطرق التي يجب أن نربي بها أطفالنا، مادام كل منا يربي جيشاً من الأطفال يمتد من المراهق إلى الجنين، ولكل منهم مواصفاته وخصائصه.. أننا في الغالب نسوق الكل بعصا واحدة، ونخاطب الكل بلغة واحدة، وننسى أو نتناسى علم النفس الفارق، الذي يخبرنا بصريح العبارة، أننا إذا راقبنا سلوك أطفالنا – ولو لفترة وجيزة جدّاً – لوجدنا أنّه من المستحيل جدّاً أن نطبق عليهم منهجاً سلوكياً واحداً، لأن لكل منهم عالمه الخاص به، ولغته التي لا يجوز أن نخاطبه بلغة سواها. هذا هو الموقف الطبيعي، وأظن أننا نوافق عليه ولا نستكبره علينا، إذا تذكرنا، أننا حين نربي في منازلنا كلباً وهرة ودجاجة، فإننا نعامل كلاً منها المعاملة التي تتناسب مع غرائزه وقابلياته.. فكيف نجيز لأنفسنا أن نعامل ابن السابعة أو الثامنة أو التاسعة كما نعامل ابن الثالثة مثلاً.. قد يبكي ابن الثالثة بكاءً مراً ومريراً.. لا لشيء لا أن ابن السابعة يضحك ويمرح بطلاقة. وقد يملأ البيت صراخاً وعويلاً، لا لسبب، إلا لأن أمه تحتضن شقيقه الصغير وتداعبه.. وقد يطالب بالطعام أو الماء، بمزيد من الإلحاح، وقد فرغ من تناوله لتوه، لا لجوع أو عطش، وإنما ليلفت الانتباه إليه، عندما لاحظ أن الكل منصرفون عنه.. وقد يسير عدة خطوات، فيصدم الكرسي، ويقلب كوب الماء، ويصدم المنضدة، وذلك لا لرعونة فيه، بل لأنّه لا يستطيع في هذا العمر تقدير المسافات بدقة.. أما نحنُ فننهال على الصبي بالضرب أو التوبيخ أو التهديد أو بكل هذه العقوبات دفعة واحدة، ونتوجس شراً من تصرفات هذا الصبي التي لا تبشر بالخير. مع أنها في واقع الحال، التصرفات المنطقية التي تتناسب تماماً مع طبيعة الانفعالات التي تجتاح الطفل، ويجب أن تجتاح الطفل في هذا العمر، مادام الطفل طفلاً سوياً.. فبدلاً من أن ندعمها ونقومها ونيسر لها سبل التفاعل والنمو والتفريغ، ترانا نعمل بفظاظة على كفها وكبتها وتعقيلها، وموازنتها بسلوك الأخوة الآخرين، وإصدار الأحكام الجائرة على الطفل، بحيث نوقف نموه أو نحوله في أقنية مغايرة.. أننا نجزل الثناء على طفلنا الذي يجلس إلى جانبنا جلسة "ملاك" دون أن ينبس بينه شفة، بينما نقدح ونذم ونعاقب طفلنا "الشقي" الذي لا يكف عن العبث والثرثرة.. مع أن كل النظريات والآراء تؤكد على العلاقة الوطيدة ما بين الثرثرة والحيوية والذكاء.. وحين نكون ثناءنا على الأوّل، وزجرنا للآخر، يتشبث الأول بجموده الذي أكسبه رضانا، ويحاول الثاني تقليد السلوك نفسه، لينازع شقيقه ودنا. وتكون النتيجة المباشرة لتصرفنا، أننا قضينا على الطفلين دفعة واحدة، بدلاً من أن نبحث عن الأسباب التي تخرج الأوّل من غربته وإنغلاقه، نقوي العوامل التي ترفد وتغني ذكاء الآخر.. والخطأ في مواقفنا هذه ليس مبعثه الأساسي هو الجهل، وإنما ثمة أسباب أخرى يمكن أن نذكر منها: 1-    أننا نحاول دائماً أن نفرض على أطفالنا سلوكنا وميولنا، ونطالبهم بإلحاح أن يكونوا نسخة عنا. وهذا ما يمكن أن يسبب لهم المزيد من الأذى، لأنهم في واقع الحال، لا يمكن أن يكونوا صورة صحيحة عنا، ولا يجوز أن يكونوها، لأن بيننا وبينهم عمراً طويلاً، ولأن بينا وبينهم فروقاً حادة، في القابليات والمعطيات، وكل أساليب التفكير والعمل. 2-    أننا نحاول أن "نعقلهم" وهم في عمر اللعب، فنسلبهم أعز شيء إلى قلوبهم، ونكبتهم، أو نفعل العكس ونترك لهم الحبل على الغارب، فيمارسون ألعاباً، قد لا تعود عليهم بالفائدة المرجوة، من تنمية للحواس أو الأعضاء أو الخيال أو غير ذلك.. فإذا أردنا لهم الخير فعلاً، لعلينا أن نهتم بلعبهم كما نهتم بجدهم، وأن نراعي خلال ذلك ما ينفعهم جسماً وعقلاً، ما يكسبهم خبرة ومهارة. 3-    أننا نحاول أن نلقنهم المدارك والمعارف والمهارات والقيم، عن طريق الأوامر أو المغريات أو الممنوعات أو البلاغات الرسمية الصارمة. مع أنّ الطريقة المثلى والوحيدة تقريباً لتلقين السلوك هي السلوك، فبالسلوك والقدوة الحسنة نستطيع أن نرسخ في أعماق أطفالنا كل ما نشاء.. فإذا أردت ابناً أميناً، فكن مثاله في الأمانة. وإذا أردته أن يكون قارئاً فاقرأ أمامه أو معه.. أما إذا لقنت ابنك كل ما قيل عن فضائل الصدق منذ بدء الخليقة، وما يمكن أن يقال عنه إلى الأبد. ثمّ قرع جرس بيتك، وأنت في وضع غير منسجم، فأوعزت لابنك، أن قل للطارق أن أبي ليس هنا، وأنت هنا، فقد هدمت كل ما بنيت، وأعطيت ولدك الصورة المثلى للكذب. 4-    وما دمنا نتكلم عن السلوك والقدوة الحسنة، فيجدر بنا أن نؤكد تأكيداً مطلقاً، على تماسك الأسرة وإنسجامها، وأن نحذر تحذيراً قاطعاً لا يقبل التسامح بحال من الأحوال، وتحت أي ظرف من الظروف، من الآثار الساحقة الماحقة المريرة التي يتركها تصدع الأسرة وتفككها وانشطارها إلى أقطاب متنافرة متخاصمة متشاجرة متماحكة، ليس لأنّ الطفل جهاز استقبال غاية في دقة الالتقاط فحسب بل لأننا في كل فصل من الفصول المأساوية التي نمثلها أمامه نخترق أعماقه، لتكون بؤرة خراب مدمر.. أنّه ربما اعتقد في فترة من فترات عمره، أنّ الشجار بين الأب والأُم، والردح والقدح والذم، ونرفزات الأب وصريخ الأُم، وفحولة الأب، ورضوخ الأم، وغياب الأب، وحرد الأُم، وتقاطعهما، وإهمال شؤون المنزل، وغير ذلك من ثورات الغضب الناشزة التي تجتاح الأسرة، يعتقدها بروتوكولات أساسية وأنماطاً سلوكية لابدّ منها، ولا تتم سعادة الأسرة إلا بها.. أنّه في نفس اليوم الذي نتشاجر فيه أمامه، أو في يوم آخر، يجب أن يقلد سلوكنا – على أنّه سلوك القدوة – ويتشاجر مع شقيقه، أم رفيقه، أم – وهذا هو الأخطر – مع نفسه.. وفي اعتقادي، بل في يقيني، أن شجاراً واحداً يجري أمام الطفل، يكفي لأن يهزّّ كيانه، ويصدّع شخصيته وسلوكه، ويضعه في دوامة من الحيرة واليأس والقلق والخوف من المستقبل، ويعقد علاقاته مع أهله ورفاقه ويشتتها ويضفي عليها سمات الكآبة والحزن العميق. وحتى نجنب اطفالنا هذه المواقف المحرجة، التي قد تسوقهم إلى شذوذات سلوكية لا نستطيع أن نخمَّن مداها، ليس علينا إلا أن نتحلى بشيء من الأناة والروية وضبط النفس، فنتجنب الشجار أمامهم، ونختار للشجار، أن كان لابدّ منه، أوقاتاً أكثر مناسبة، نطلق فيها صواريخنا وقذائفنا، دون أن يصيب رذاذها الأبرياء من أطفالنا. 5-    ربما اتبعنا الأسلوب الصحيح في تربية أطفالنا، فراعينا كل ما ذكرنا وتجنبناه.. فيجب ألا نغفل عن نقطة أساسية ينبغي مراعاتها حتى نحصل على النتائج التي نتوخاها، وأعني بهذه النقطة: الملاحقة أو المتابعة. ذلك أننا نعلم، أو يجب أن نعلم، أن نمو أطفالنا لا يتم دفعة واحدة، وإنما على مراحل: ينمون نمواً إنفعالياً، وينمون عقلياً، وينمون لغوياً، ولكل نمو دوره في تكامل شخصيتهم وتوازنها وإتزانها، فإذا لم نتابع هذا النمو ونتتبعه، فقد ينمو فيه جانب أكثر من الجانب الآخر، أم على حساب الجانب الآخر، وبالتالي تتكون شخصيته تكويناً مهلهلاً أم متنافراً. ربما توفرت الأمثلة في واقع كل منا: فحسان ينفعل لأتفه الأسباب ولدرجة الإفراط.. وسمير يثرثر لدرجة لا تطاق، وعيب ليلى أنها إنعزالية، وتجلس على الكرسي وكأنها قطعة منه.. في هذه الحال.. لا حسان ولا سمير ولا ليلى، في الوضع المناسب، والذنب ليس ذنبهم، وإنما مراحل نموهم لم تكن متكافئة. 6-    وما دمنا في صدد مراحل النمو، فعلينا أن نتعرض أيضاً إلى نمو الطفل الجسماني، والأهمية البالغة التي يعلقها علم النفس المرضي أو الأكلينكي على صحة هذا النمو. إذ أن أي نقص في نمو الطفل الجسماني، لأي سبب من الأسباب، يؤثر على مجمل نموه، كما يؤثر على سلوكه بشكل مباشر، فيتصرف تصرفات تثير دهشتنا وتحرجنا، ونحن نبحث لها عن حل دون جدوى: لماذا يحجم عن الأكل.. لماذا يهزل.. لماذا يسمن ويترهل.. لماذا يشاكس.. لماذا لا يلعب.. ونظل في حيرة من أمرنا نبحث عن الحل، حتى نكتشف، أو يكشف لنا الطبيب، أنّه يعاني من نقص أو ضعف في حاسة من حواسه مثلاً، وأنّه يحتاج إلى علاج معين، فنعالجه، ليعود إلى السلوك السوي. إنّ الملاحظات المبتسرة والعابرة التي سقناها، لا يمكن أن ترسم لنا المفاصل الحقيقية للمشكلة، ولا الحلول المناسبة التي يمكن أن تشفي الغليل.. وكل ما نرجوه منها، أن تحقق هدفاً مبدئياً وأساسياً إلى حد بعيد، وهو: هل تمكنت أن تزجنا في المشكلة، وأن تشعرنا بأنّها مشكلة لا يستهان فيها. وأنّه على نجاحنا في تقديم الأطفال المناسبين إلى المدرسة، يتوقف النجاح في بناء المجتمع المتين، والعكس صحيح إلى منتهى الحدود. على هذا الأمل نتابع الحديث لنتكلم عن الطفل في المدرسة، ودور الأسر، ثمّ دور المدرسة، المدرسة الكلاسيكية التقليدية، والمدرسة الجديدة المعاصرة.   2-    الطفل في المدرسة: أ‌-      دور الأسرة: كم من أم تنهد تنهدة الارتياح، حين تقذف بطفلها إلى المدرسة، وكم من أسرة تعلن براءتها وعدم مسؤوليتها المطلقة عن تربية الطفل أو تعليمه، منذ اليوم الأوّل الذي تطأ فيه قدما الطفل رحاب المدرسة.. أنها تتصور أنّ المهمة برمتها أنصبت على عاتق المدرسة، وما عليها إلا أن تتحلل منها.. مع أن واقع الحال يعني عكس ذلك تماماً.. يعني أن مسؤولية إضافية تربت على كاهل الأسرة، لأنّ المدرسة تقدم الوصفة، تكتب الراشيتة، وعلى الأسرة أن تجرع التلميذ الدواء.. فالأسرة يتعاظم دورها حينما يصبح طفلها تلميذاً.. لأنّها هي المدرسة الأُم، وهي التي سترسخ ما يتلقاه طفلها في المدرسة أو تلاشيه.. ترسخه حين تكون حقل تجارب وتطبيق للسلوك والخبرات التي تلقاها طفلها في المدرسة.. وتلاشيه، حين تهدم وتنافي وتحارب كل ما تلقاه طفلها في هذه المدرسة. فالأسرة التي تضيق ذرعاً بوظائف التلميذ وواجباته، وتتأفف وتتذمر من متطلباته، وتتهرّب منها أو تؤديها بتعسف وقرف ونزق، تشعر التلميذ بخيبة أمل، وتثقل عليه واجباته هو الآخر، فيؤديها خوفاً من المعلم فقط. لأنّ أهله أشعره مباشرة، بعدم أهميته، وعدم أهمية واجباته، وعدم مساسها بواقعه، ثمّ يتبدد حماسه وحبه لها، ويخف ارتباطه بالمدرسة، خاصة بعد أن ينقل عن أسرته أساليب التملص والتهرب من تأدية واجباته. وحين يسف مستواه، ويصبح ذيلاً في صفه، ويلاحقه معلمه بالتهديد والتنديد والتوبيخ، ويسجل عليه زملاؤه، هفوات وسقطات ينتدرون عليه بها. تتحول المدرسة إلى ما شبه الجحيم، الذي يتمنى الخلاص منه بأيّ ثمن. أما الوجه الآخر، أو الموقف السليم، الذي يجب أن تقفه الأسرة من تلميذها، فهو الموقف المناقض لما وصفنا تماماً: حيث تشعر الأسرة طفلها بأهميته، وأهمية واجباته ومتطلباته المدرسية، وتوليها كل اهتمامها وعنايتها، وتعطيها الأولوية على كل ما عداها، بالإقبال عليها بكل جد وقابلية، وتذليل صعوباتها.. كل ذلك بأسلوب وديع لطيف مرح.. وحين يشعر الطفل بأنّه موضع الاهتمام، هو ودروسه ومدرسته، يزداد تفاعلاً ولصوقاً بأهله ومدرسته ودروسه.. ولكن مدرسته بدورها، هل تحافظ على هذه الفاعلية وتعززها، أم تبيدها وتهدمها، لأنّها هي الأخرى، وكما قدمنا لها الدور الأساسي أيضاً، في تصميم البناء وتأطيره وهيكلته.. فكيف ستؤدي دورها يا ترى؟؟ ب‌- دور المدرسة: قد يكون ثمة عذر يشفع للأسرة، ان هي لم تقم بدورها في تربية الأطفال على أكمل وجه، لأنها بطبيعتها، أو بواقعها الراهن ليست مؤسسة تربوية، تملك الخبرة الكافية.. وأن ملكت بعضها، بعض هذه الخبرة، فإنّ البعض الآخر مازالت اهتماماتها الرئيسية منصبة على أمور ومشاغل أخرى، ولا يمكن تكليفها بما لا تستطيع. أمّا المدرسة، وهي مؤسسة تربوية قبل كل شيء، فإن كل عذر تقدمه، يحتاج إلى عذر يشفع له.. هذا ما يمكن أن يتبادر إلى الذهن لأوّل وهلة، لأنّ هذا ما يجب أن يكون.. ولكن الواقع، أو ما هو كائن، يناقض في بعض جوانبه، هذا الذي يجب أن يكون.. فالواقع يؤكد لنا، أنّ المدرسة الكلاسيكية، ليست تراثاً، ولا يمكن أن نسمي الحديث عنها كلاماً نافلاً، أم نبذة تاريخية. ذلك لأنّه وأن غابت عنا الصورة الأصلية لملامح الكتاتيب، فليس من الصعوبة بمكان، أن نحصل على نسخ عديدة للصورة طبق الأصل عنها: فمدرسة المعلم الوحيد، الذي يسوق المعلم فيها أمامه المرحلة الابتدائية برمتها، يحشرها في غرفة واحدة، ويتناولها بأساليب وطرائق قد لا تخطر ببال بشر حتى الآن.. ومدرسة المعلم الذي عاصر عهد الـ"بريمي دي سينيال"، ثمّ عهود الاستقلال بكل تخبطاتها وصواباتها، ومازال صامداً، يأنف التبديل والتغيير والتأقلم، فلا أساليب ولا طرائق تربوية ناصعة البياض غير تلك التي صدرت عن وزارة المعارف التي رسمته معلماً. ومدرسة المعلم الذي يفاخر وهو يقول مع من قال: إذا ضاقت بنا سبل المعالي *** وأفسلنا نصير معلمينا لأنّه كما يبدو وبعد أن أجرى على نفسه، كل الفحوص السيكولوجية والسيسيولوجية و... ثبت لديه بالدليل القاطع، أنّه آخر ما يرغب فيه، هو أن يكون معلماً.. أو بكلام أكثر موضوعية، آخر ما يصلح له، هو أن يكون معلماً.. ومع ذلك فقد صار معلماً، رغم أنف قابلياته، ورغم أنف التربية والسيكولوجية وكل مخابر علم النفس ومعاملها.. وتسلم المناهج وأصبح سيدها، ووضعها في القالب الذي يرضيه، وسيبقيها حيث هي، إلى ما شاء الله. هذه النماذج من المدارس، ما تزال قائمة، وستظل أعذارها، مهما انتقص من قيمتها، أو بولغ فيها، قائمة، مادامت مؤسسات تربوية من الدرجة التالية.. ولكن ماذا عن نماذج المدارس الأخرى، التي تكتمل فيها إلى الحد المقبول، المتطلبات الأساسية، التي تجعل منها مؤسساتٍ تربوية، تستطيع أن تقدم إلى روادها، كل ما يؤهلهم لأن يكونوا لبناتٍ مناسبة في بناء مناسب؟؟.. هل هي راضية عن دورها الذي تؤديه يا ترى؟.. أم يجب أن تعدّل فيه، أن تنقضه، وتأتي بالبديل الملائم لمتطلبات عصر تعقدت فيه أساليب الحياة وتشعّبت إذا كانت ترغب فعلاً أن تواكب تطورات العصر المتسارعة، وأن تراعي، قدر الإمكان، ما تعتقد فيه بعض النفع، مما سوف نعرض:   1-    في المجال التربوي – النفسي: إنّ الطريقة التي يستقبل بها التلميذ لأوّل مرة في المدرسة، تحدد إلى الحد الكبير، حسن أو سوء العلاقة أو الرابطة أو الألفة، التي ستعقد بين هذا التلميذ ومجتمعه الجديد.. وما هو غير خافٍ على أحد، أنّه كلما كانت هذه العلاقة وطيدة بين المدرسة والتلميذ، كلما تضاعف إنجذاب التلميذ إلى هذه المدرسة وحبه لها، ولكل ما يصدر عنها من إرشادات وتوصيات. وهذا لا يكلف المعلم أو المعلمة أكثر من بسمة رضية، وكلمة لطيفة وديعة، الطفل أحوج ما يكون إليها، حتى لا يعقد المقارنة بين أحضان الأسرة وأحضان المدرسة، ويفضل الواحدة دون الأخرى لأوّل وهلة، ويبني على هذا التفضيل قياسات معينة هي ليست لصالحه كيفما اتجهت. وبعد ذلك فإن كل معلم يدرك، أن لكل طفل من الأطفال الذين أصبح وصياً عليهم، عالمه الخاص، وأوضاعه، ومشاكله وهمومه الخاصة، وأنّ هذه الأسباب هي التي تجعل منه تلميذاً متفوقاً ومتخاذلاً.. فإذا استطاع أن يتقصاها وأن يدعم المنشطات ويعززها ويرفدها بالمدد، أو أن يبدد المعوقات ويلاشيها ويمحقها.. يكون قد قام ولا شك بعمل غاية في النبل والسمو والشجاعة. وإذا استطاع أيضاً، أن يربط ربطاً حتماً السلوك بالتربية، ويصر على أن يسيد العادات والقيم الفاضلة دون تخاذل ولا تسامح، فسلوك التلميذ يجب أن يكون سلوك الصادق، الأمين، الشجاع، المجتهد، المحب للوطن. مبتعد قدر الإمكان عن أساليب القسر أم القمع أم الإرهاب، أم الإرهاق، أم الإغراء.. إذا استطاع أن يفعل ذلك، فإنّه لا يقدم للمجتمع تلميذاً مجتهداً ومتفوقاً وحسب، وإنما يقدم له إنساناً سوياً، متكامل الشخصية، متوازن النمو، محصن الجسم والعقل، بعيداً عن الإنزلاق والشذوذ والجنوح، لا يشوب سلوكه مظهر من مظاهر، الكذب، أم الخوف، أم الخجل، أم الكبت، أم الإسقاط، أم الإحباط، أم الإنطواء، أم غير ذلك من عيوب النمو، التي لابدّ من أن تخرش – إذا تهيأ لها المناخ الملائم – البطانة الوجد آنية التي تؤثث أعماق الطفل وعواطفه وأفكاره، والتي أن تخلص الطفل منها فاز بمستقبل غني وفعال. أننا لو سبرنا واقع البعض من تلاميذنا، بشيء من الصبر والأناة، لوجدنا أنّه يترتب علينا أن نبذل قسطاً لا يستهان به من الجهد والزمن، إذا أردنا أن نقتلع من سلوكهم العادات والمعوقات والمكتسبات الخاطئة التي تفصل أو تباعد المسافات بين الموقف التعليمي الذي يسعى المعلم لتحقيقه، وبين المواقف السلوكية المتنافرة، التي يؤديها التلاميذ في قاعة الدرس. أي أنّه بدلاً من أن يكون الموقف التربوي ظهيراً ومعززاً للموقف التعليمي والتعلمي فقد أصبح حائلاً مهماً، لابدّ من السعي لكبحه أو تغيير منحاه. إذا أردنا للموقف التعليمي أن يتحقق، وهذا بدوره ما يبعثر جهد المعلم ووقته، وما يخرجه عن طوره وينهك أعصابه، وهذا بالتالي ما يجعلنا نلح ونلحف في الالحاح، على كسر حدة العزلة والفرقة والجفوة القائمة ما بين البيت والمدرسة. أنّ المدرسة، حين تكون على صلة مع البيت، تعلم أن سميراً، الذي جاء إلى المدرسة اليوم، مشعث الشعر، متسخ الوجه، لم يكتب وظائفه، ولم يحضر دروسه، يناقر جاره هذا، ويلطم جاره الآخر، إنما يفعل كل ذلك لأن علاقاته، لم تكن ودية مع الأسرة أمس، لأن مطلباً من مطالبه لم يلب، أو أنّه تشاجر مع شقيقه، ووالده كان خارج البيت، ووالدته مشغولة عنه بما هو أهم، فانتهت الأمور ما انتهت إليه. وأنّ البيت حين يكون على صلة مع المدرسة، يعلم أن سميراً، أضاع يومه بلا جدوى، وأضاع فرصاً على التلاميذ، وأشغل المعلم فوق مشاغله، ليصلح ما أفسدته ظروف لم تكن ضمن خطته، ولا في حسبانه، فيحاول هذا البيت، وتحاول هذه المدرسة التخفيف من حدة هذه المشاكل التي تؤثر بشكل مباشر على التلميذ والموقف التعليمي في آن واحد.. ويشعر البيت وتشعر المدرسة بفائدة التلاقي والتشاور. فيكثرون من عقد مجالس الآباء، ليضعوا الحلول الملائمة للمشكلات التربوية، قبل المشكلات التعليمية، لأن نجاح الموقف التعليمي يتوقف إلى حد بعيد على سلامة الموقف التربوي السلوكي. انّنا لا نحتاج إلى مزيد من المعادلات والأمثلة، ولا إلى نتائج صادرة عن مقدمات كبرى وصغرى حتى نقرر أن مجتمعاً يبني أطفاله هذا البناء، أن في المدرسة أم في البيت – لابدّ وأن يقفز فوق المراحل، ليحتضن كل منجزات الحضارة والمدنية، ويظل يتشوف باستمرار إلى المستقبل الأفضل والأكمل.   2-    في المجال التربوي – التعلمي: في عهود سلفت، كان العلم إحدى الكماليات، التي يتبحبح بها المترفون دون سواد الناس، لأن علاقته بأسباب الحياة لم تكن العلاقة التي لا يمكن الاستغناء عنها. كان فكراً، يصير إلى فكر، فيربط الفكر بالفكر، أو بما وراء الطبيعة، فيظل في كل الحالات، إما فوق الحياة، وأما بعيداً عنها، وأما مناقضاً لها.. وقتها، كان يجب أن تتوافر في المعلم حتى يواكب المفاهيم السائدة – مواصفات معينة، منها: أن يكون مخزن معارف، وأن يحسن تفريغ هذه المعارف في قوالب نظرية، ويحشوها في الأذهان. أما اليوم، فقد انقلبت الدنيا رأساً على عقب، وأصبحنا، على اختلاف طبقاتنا وأجناسنا وأعمارنا وأعمالنا، نتعثر بمنجزات العلم أينما اتجهنا: في المصنع والمتجر، والمزرعة والمطبخ والحمام والشارع، وفي كل مجال من المجالات دون استثناء.. أي أنّه أصبح العلم والحياة صنوين متحدين، يكمل أحدهما الآخر، ويؤثر عليه، ويتأثر به بشكل مباشر، ويدعمه ويرفده ويغنيه. ومعنى هذا، أن معلم الأمس، مخزن المعارف المجردة، مضى وانقضى، حين مضى أو كاد عهد المشائين والوعاظ والرواقيين وأتى عهد المخابر والمعامل والمزارع. مضى ليحل محله مخزن المهارات والطرائق والخبرات، الذي يصهر الفكر في العمل، ويقدم صورة من صور السلوك اليومي في كل يوم.. وهكذا أصبح المعوّل اليوم، بالدرجة الأولى، ليس على ما يقول المعلم، بل على ما يفعل.. وليس أيضاً على ماذا يقول حين يقول، أو ماذا يفعل حين يفعل، بل على كيف يقول حين يقول، وكيف يفعل حين يفعل.. وبناء على هذه النقطة الرئيسية، التي نربط فيها ربطاً عضوياً، ما بين النظر والعمل، يمكننا أن نجزم ونحكم بأنّه إذا لم يصب الطفل، فنحن الذين أخطأنا، إذ أعطيناه الأسماء بلا مسميات، فظل طبلاً يرن، حين نقلناه إلى الواقع بعدة نظرية، أشبه بعملة بلا براءة فقدت كل قيمتها حين طرحت في الأسواق. وبمقدار ما يمكننا أن نحمل الحصان المسؤولية لأنّه لم يقفز المحيط، يمكننا أن نحمل الطفل مسؤولية فهم المجردات.. وبقدر ما نوجه الإتهام بالمغالاة، لمن يكلف السلحفاة أن تسبق الأرنب، يجب أن نوجهم إلى المعلم الذي يشعر بخيبة الأمل، إذا لم يستوعب طفله العلاقات الهندسية بلا مكان، وعملية تكون البخر، أو انصهار الأجسام الصلبة دون تجارب، أو إلا تخلى عن كل ما في بيئة التلميذ وواقعه ومتناول يده، ويحياه كل يوم ويتعثر به، وراح يحدثهم أو يشرح لهم أساليب وعظية، ما انقطع مساسه بواقعه ومستقبله: حين تضع يدك على المحراث فلا تنتظر أو تنظر إلى السحب ربما كان قولاً صحيحاً – خاصة من وجهة النظر الإيمانية – ولكن الصحيح الذي نحياه أو سنحياه هو الأهم بالنسبة إلينا. وما نحياه هو عصر الآلة، والأقمار الصناعية والاصطناعية.. فهذا الصحيح، أولى من غيره في زرعه في أذهان التلاميذ وسلوكهم. إنّ المعلم المناسب، في عصر سادت فيه التقنية سيادة مطلقة، هو الذي يؤمن بأن نتاجاً سلوكياً متواضعاً، مثل إنبات بذرة الفول، يكسبه تلاميذه، يمكن أن يفضل بما لا يقاس، حشو ذهنه بهدف من الأهداف الكبرى. والمعلم المناسب هو الذي يؤمن في عصر تحكمت فيه التقنية بكل أسباب الحياة بأنّ الديناميكية هي السمة الأولى التي يجب أن يتصف بها المعلم، والتي يجب أن يزرعها سلوكاً وتفكيراً في صلب تلاميذه.. هذا هو المعلم المناسب، أما مخزن للعارف.. الأسطوانة.. الخطيب.. الواعظ.. فقد أصبح أثراً متحفياً.. أم مظهراً ستاتيكياً ليس غير. أما كيف يكون كذلك، فإن طرائق التدريس الحديثة، لا تخلو من الإجابة التي تشفي الغليل، وترد على كل سؤال.. ولأن كان المجال هنا ليس مجال تفصيلها وتعليلها، فهي متوافرة، وفي متناول كل يد يمكن الرجوع إليها، ويمكن الاسترشاد بها والاعتماد على جدواها إلى حد بعيد. ولكن المشكلة الأساسية هنا ليست مشكلة الطرائق، ولا التعزيز بالتوجيه والإرشاد والدورات المستمرة والمقطعة، فكل ذلك لا يجدي إلا إذا أراد المعلم إرادة حقيقية لا نابعة عن رغبة خالصة وإيمان صادق، أن يبني نفسه بناء متكاملاً، وهذا لا يمكن أن يتم، إلا إذا وفر له المناخ الملائم، ورفع عنه كل الحيف الذي يصور له واقعه على أنّه الواقع الذي لا يطاق.. عندها يمكن أن يأخذ كل ما تعطيه، بل عندها يمكن أن يبتكر أكثر من كل ما تعطيه. ولكن حتى يتم ذلك، هل سنوقف البناء، أم هل سنتابعه دون جدية، ودون قابلية.. مع أننا نعلم رغم كل الظروف التي تشفع لنا، أننا يمكن أن نحرج لو قيل لنا – كمعلمين – نحن لا نريد منكم مزيداً من التضحيات، بل أعطونا على قدر ما تأخذون منا وليس أكثر. أنّنا في قرارة نفوسنا نعلم أننا نعطي أكثر مما نأخذ بكثير.. ونرفض كل إتهام يوجه إلينا، ولكننا في قرارة نفوسنا نعلم أيضاً علم اليقين، بأن عملنا من نوع فريد، فهو لا يقبل النقص من أي جانب من الجوانب، فإذا قدمت التسعة دون العشرة، أحدثت شرخاً في البناءن يزداد يوماً بعد يوم، حتى يعم ويفسد البناء كله.►  

* كاتب من سوريا

المصدر: مجلة التربية/ العدد 97

ارسال التعليق

Top