• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

ذكر الله في القرآن الكريم

الشيخ نعيم قاسم

ذكر الله في القرآن الكريم

قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ* الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) (الرّعد/ 28-29).

ذِكْرُ الله تعالى تَواصُلٌ مع مصدرِ السعادة، يمنحُنا الاطمئنان، ويعزِّزُ رقابتَنَا لأنفسنا فنتَجَنَّب المعاصي.

الخطاب للمؤمنين (الَّذِينَ آمَنُوا)، لأنّ اطمئنان القلب بذكر الله تعالى لا يكون إلّا مع المؤمنين، أما الذين لا يؤمنون فلا يطمئنون في الدنيا ولا في الآخرة، لأنّهم يفتقرون إلى سرِّ الحياة السعيدة، ونور الهداية الذي يُحيي القلب.

(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ)، إيمانهم مصحوبٌ بحالة من الطمأنينة تعيشها قلوبهم، والقلب ليس قطعةً من لحم ينبض ويضخ الدم في جسم الإنسان، وإنما هو الداخل الذي يبثّ الحياة والمعنويات، وهو المحرّك والموجه باندفاعٍ وتفاعل نحو الهدف، الذي يبلغ حالة الطمأنينة بذكر الله تعالى. فالمؤمن بين أمرين، إيمان يؤدي إلى طمأنينة القلب، وطمأنينة تأنسُ بذكر الله تعالى.

(أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)، من أراد أن يَطمئِن قلبه، فلا طريق إليه إلّا ذكر الله تعالى، ومَن أراد أن يعيش في داخله حالة من الراحة والاستقرار والسكينة والطمأنينة فعليه بذكر الله تعالى.

(الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ)، لا يكفي إيمان القلب، بل لابدّ أن يصدِّقه العمل، فالذين آمنوا يعملون الصالحات، ويترافق العمل الصالح مع الإيمان بلا انفكاك. أما الثمرة فهي النهاية الحسنة والمستقرة، هي طوبى لهم، وكما ورد في بعض التفاسير: (طوبى) شجرةٌ في الجنة وارفةُ الظلال، تؤنس من يتفيأ تحتها (طوبى) تُقال للجنة أيضاً، وتُقال للدرجات الرفيعة التي يُعطيها الله تعالى للمؤمن... (طوبى) هي مكافأة الإنسان المؤمن في جنة الله تعالى، وحسن الاستقرار والخلود في جنة عرضها السماوات والأرض أُعدت للمتقين.

نُلاحظ في الآيتين الكريمتين الربط الوثيق بين قلب الإنسان وحالته النفسية، وبين عمل الإنسان ودوره في المجتمع، في عملية تكاملية يصوبها الإيمان، ليتحصَّلَ لدينا إيمانٌ بقلب مطمئن وعملٌ صالح. وأما المغذي لتحقيق واستمرارية هاتين الصفتين عند الذين آمنوا فهو ذكر الله تعالى.

 

ذِكْرُ الله في جميع الأحوال:

ذكر الله يكون على كلِّ حال، فليس له صيغة محصورة، يقول تعالى في كتابه العزيز: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران/ 191). يكون ذكر الله تعالى عن قيام، أو قعود، أو في حالة الاتكاء على الجنب، أي في جميع الحالات. كما لا يقتصر على مكانٍ محدَّد، فيكون في المسجد، والمنزل، وفي كلِّ مكان. وكذلك يكون ذكر الله تعالى في جميع الأوقات، في الصباح عند الاستيقاظ، أو قبل النوم، أو أثناء الراحة، أو خلال العمل وبعده. فذكر الله تعالى يكون على كلِّ حال، في أي زمانٍ ومكانٍ وحالةٍ وصيغة، وباللسان والقلب والحركة، فهو لا يقتصر على ترتيبات خاصة، إذ يمكن الإتيان بالذكر بحسب المأثور أو بغيره، ونعيشُه حالةً حاضرةً ومستمرةً في أنفسنا وحياتنا، فلا يفارقنا بل يصبح جزءاً منا.

وَرَدَ دُعاءٌ لرسول الله (ص) عن الذكر في المصباح للكفعمي، وفي مفاتيح الجنان نقلاً عن البلد الأمين، إذا قرأه الإنسان عشر مرات في كلّ يوم، فإنّه يُنجي من مائة هَوْلٍ من أهوال يوم القيامة، ووُقي من شرِّ إبليس وجنوده، أذكُرُه مفصلاً لأُبيِّنَ شمولية الذكر لكلِّ الحالات، وتأثيره فيها، بما يشبه العلاج بالذكر لتحقيق طمأنينة القلب.

1-    "أعْدَدْتُ لِكُلِّ هَوْلٍ لا إلهَ إلّا الله"، كلما أشعر بأنّ أمراً عظيماً يواجهني ويُرعبني أو يخيفني خوفاً شديداً، أقول: لا إله إلّا الله، فلا شيء أكبر من الله تعالى، ولا يمكن أن أواجه كلَّ هذه الضغوطات الخطيرة إلّا بـ: لا إله إلّا الله، فبذلك أعتمد على القوة الإلهية العظيمة التي تسقط أمامها كلّ القوى.

2-    "ولِكُلِّ هَمٍّ وغَمٍّ ما شاء الله"، أصابتي هَمٌّ أقلقَني وأزعَجني، أو غَمٌّ أحزنني، أقول: ما شاء الله، هذا ذكرٌ لله تعالى، بردِّ المشيئة إليه، وما دام كلُّ شيء بإرادته، فأنا مطمئن إلى النتيجة، وأستعين بذكره لإزالة الهمِّ والغمِّ.

3-    "ولِكُلِّ نعمَةٍ الحَمْدُ لله"، عندما ينعم الله تعالى عليَّ بولدٍ أو رزقٍ أو صحةٍ أو أي نعمة، أقول: أحمد لله، فهو مصدر العطاء، وكلّ شيء من عنده، فيكون حمدي اعترافاً بجميل ما أعطى، وذكراً لصاحب الفضل عليَّ.

4-    "ولِكُلِّ رَخاءٍ الشُّكْرُ لله"، تفيض نعمةُ الله عليَّ، وتُسبب الرخاء، وأعيش معها البحبوحة، فأقول: الشكر لله، فهو ذكرٌ واعترافٌ بعطاءاته الوفيرة جلَّ وعلا، الذي لولاه لم تكن النعمة، وبالشكر تزيد النِّعَم، (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ) (إبراهيم/ 7).

5-    "ولِكُلِّ أعجوبَةٍ سَبْحانَ الله"، إذا حصل ما لم يكن متوقعاً، أو نظرتُ إلى أعاجيب عظمة خلق الله تعالى، أقول: سبحان الله، فأنا أُنَزِّهُ الله تعالى على ما وفَّر لنا من عظيم سلطانه، وروائع خلقه الذي يملأ شغاف القلب ومدارك العقل.

6-    "ولِكُلِّ ذَنْبٍ أستَغْفِرُ الله"، أقول: أستغفر الله تعالى، ليغفر لي ذنوبي، فأنا بحاجةٍ دائماً إلى من يغفر لي ذنوبي، ويريحني من آثامي، ويفتح لي صفحة جديدة لأنطلق بكل أملٍ في طاعة الله تعالى، فأستغفر الله ذاكراً له في موضع الحاجة والطلب، آملاً بقبوله لي بالتوبة والمغفرة.

7-    "ولِكُلِّ مُصيبَةٍ إنّا لله وإنّا إليهِ راجِعونَ"، قال تعالى: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة/ 156-157)، فالاسترجاع بقول (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) يهوِّن المصيبة، بل يحوِّلها إلى رحمةٍ وهداية، فذكر الله تعالى يمدني بالعزيمة لأواجه الصعوبات، وبما أنّ كلّ شيء راجعٌ إليه، وأنا راجعٌ إليه، فأنا أطلب حاجاتي من عنده، وأضع مصائبي تحت رعايته، لأرتاح من هذا العبء، وهذا ما يُساعدني عليه ذكر الله.

8-    "ولِكُلِّ ضيقٍ حَسْبي الله"، عندما أشعر باختناقٍ أو ضيقٍ أو أمرٍ يضغط عليَّ بشكل كبير، أحتسب أن يكون الله تعالى إلى جانبي فيعينني، وأذكر ربي فهو حسبي ومعتمدي وسندي، وهو المعين للخروج من ضيقي.

9-    "ولِكُلِّ قَضاء وقَدَرٍ تَوَكَّلْتُ على الله"، القضاء أمرٌ حصل، والقدر معادلة ومقادير قرَّرها الله تعالى، فإذا وقع القضاء أقول: توكلت على الله تعالى، فلا قدرة لي لردِّ القضاء أو الاعتراض عليه، ولا أملك شيئاً من المقادير التي قدرها الله تعالى، فبذكره والتوكل عليه أتقبَّل القضاء والقدر، وهو لن يتركني.

10-                      "ولِكُلِّ عَدوٍّ إعتَصَمْتُ بالله"، كيف أواجه العدوّ؟ ألجأ إلى الله تعالى، وأعتصم به، وأرتبط به، ليعينني في مواجهة العدوِّ، فأنا بحاجة إلى ذكر الله الدائم ليكون معي فلا أضعُف أثناء المواجهة، وأكون مطمئناً إلى وجود رُكنٍ متينٍ إلى جانبي.

11-                      "ولِكُلِّ طاعَةٍ ومَعْصيةٍ لا حَولَ ولا قوةَ إلّا باللهِ العَليّ العَظِيم"، لولا ما منحني الله تعالى من قوةٍ لما أطعتُ أو عصيتُ، فلا قوة لي إلّا بالله تعالى، أذكرُه وألجأُ إليه ليعينني بقوته على الطاعة، واجتناب المعصية. أقول: لا حول ولا قوة إلّا بالله العليّ العظيم، ذاكراً ملتجئاً إلى الله تعالى.

وهذا هو الدعاء: "أعْدَدْتُ لِكُلِّ هَولٍ لا إله إلّا الله، ولكُلّ همٍّ وغمٍّ ما شاء الله، ولكُلِّ نعمةٍ الحمد لله، ولكُلِّ رَخاءٍ الشُّكرُ لله، ولكلِّ أعجوبةٍ سبحان الله، ولكلِّ ذنبٍ أستغفر الله، ولكلِّ مصيبةٍ إنا لله وإنا إليه راجعون، ولكلِّ ضيقٍ حَسْبي الله، ولِكُلِّ قضاء وقَدَرٍ توكَّلْتُ على الله، ولِكُلِّ عَدوٍّ اعتَصَمْتُ بالله، ولِكُلِّ طاعَةٍ ومَعْصيةٍ لا حولَ ولا قوةَ إلّا بالله العليّ العَظِيم".

ونتعلم من دعاء أمير المؤمنين عليّ (ع) على لسان كميل بن زياد الذي نقل الدعاء، الذي نقرؤه في كل ليلة جمعة، وفي النصف من شعبان، وكذلك في ليالي القدر، قوله: "أسألك بحقِّك وقُدسِكَ وأعظَمِ صِفاتِكَ وأسمائِكَ، أن تجعَلَ أوقاتي مِنَ اللَّيلِ والنّهار بذِكْرَكَ معمُورَةً، وبخدمَتِكَ مَوْصولَةً، وأعمالي عِندَكَ مقبُولَةً، حتى تكونَ أعمالي وأورادي كُلُّها وِرْداً واحِداً، وحالي في خِدْمَتِكَ سَرْمَداً". يا رب وفقني لأن أذكرك ليل نهار، فتتواصل أعمالي وأورادي وحركاتي وسكناتي مع ذكرك الدائم، فلا أفارق ذكرك في يومي وليلي إلى نهاية عمري في هذه الدنيا.

ومما يُبيِّن لنا أهمية الذكر الدائم والمستمر، قول إمامنا عليّ (ع) لابنه الإمام الحسن (ع): "وكن لله ذاكراً على كلِّ حال"، فالذكر نورُ الحياة الأبدية، فإذا امتلأت أيامنا وليالينا وأحوالنا وأعمالنا بذكر الله تعالى، وعِشنا حضورَ الله تعالى في كلِّ مفردات حياتنا، اهتدينا إلى كلِّ خير، وعصَمَنا الله من الذنوب، وجعل السَّكِينَة في قلوبنا.

يصفُ الله تعالى المؤمنين الأقوياء الأشداء، الذين وصلوا إلى المراتب العليا، بقوله: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَار) (النّور/ 37).

رجالٌ لا تُلهيهم التجارة في معاملاتها الكثيرة والمتعددة، ولا البيع المحدود عند إتمامه، عن ذكر الله، ولا يفضلوهما على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والقيام بالواجبات، فذكر الله على كل حال هو الأصل، ولا يتعارض مع أي عمل حلال بل يدعمه ويصوّبه ويزكيه، ولا يدعونا الذِّكر لأن نتخلى عن متابعة أمورنا المعيشية بشكل طبيعي، لكنه يحمينا من التقصير في أداء تكاليفنا الشرعية، أو الانحراف إلى الحرام.

 

المصدر: كتاب مفاتيح السعادة

ارسال التعليق

Top