• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

روح السلام

د. أحمد الشرباصي

روح السلام

◄مادة "السّلام" تدل على السلامة والخلاص والنجاة والخلو من العوارض. والقلب السليم. الخالص من دغل الشرك والذنوب. والسلم – بالكسر والفتح – الأمان والنجاة وعدم الحرب. والسلم – بفتحتين – الصلح والمهادنة، والخضوع والاستسلام. ويقول الرجل الآخر: بيننا سلام، أو أمري معك سلام: أي أتركك وتتركني، فاسلم منك وتسلم مني. والسلام: النجاة والأمان من الشرور والآفات. والسلم والسلامة: التعري من الآفات الظاهرة والباطنة، والسلامة الحقيقية لا تكون إلّا في الجنة، إذ فيها بقاء بلا فناء، وغنى بلا فقر، وعزّ بلا ذلّ، وصحة بلا سقم، ولذلك قال عنها القرآن: (لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ) (الأنعام/ 127).

والإسلام: الدخول في السلم، وهو أن يسلم كلّ واحد منهما أن يناله ألم من صاحبه، وأسلمت أمري إلى الله – عزّ وجلّ – أي: فوضته إليه.

والمراد بالسلام في هذا المجال الأخلاقي هو أن تكون روح الإنسان صافية مطبوعة على المسالمة والصفاء وحمل مشاعر الخير للناس. وهو بهذا المعنى فضيلة من فضائل الإسلام العظيم، وخلق من أخلاق القرآن الكريم، وجانب من هدي الرسول (ص). وقد تحدث القرآن عن السلام في أكثر من موطن ومن أمثلة ذلك ما ذكره في سورة البقرة وهو قوله:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (البقرة/ 208).

وكأنّه بهذا النص الكريم يريد لنا أن نفهم أنّ الدخول في رحاب السلام ينجي الإنسان من الضلال باتباع خطوات الشيطان، وهو أعدى الأعداء للإنسان.

في هذه الآية كلف الله المؤمن بأن يسالم كلّ أحد إلّا نفسه فإنّها لا تتحرّك إلّا بمخالفة سيده، فإنّ من سالم نفسه فتر عن مجاهداته، وذلك سبّب انقطاع كلّ قاصد، وموجب فترة كلّ مريد، وخطوات الشيطان هي ما يوسوسه إليك من عجزك عن القيام باستيفاء الواجب، ولا ينبغي أن نلفت إليها.

وقد وجهنا القرآن إلى إيثار روح السلام حتى مع الجاهلين، فقال تبارك وتعالى في سورة الفرقان في شأن عباد الرحمن: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا) (الفرقان/ 63).

أي نحن شأننا السلام والمسالمة ونحن نطلب منكم هذه المسألة. كما وجه القرآن إلى الاستجابة لروح السلام حتى مع الأعداء فقال في سورة الأنفال: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) (الأنفال/ 61).

كما قال في سورة القصص:

(سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) (القصص/ 55).

وقال في سورة الزخرف:

(فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ) (الزخرف/ 89).

ويكفي "السلام" تمجيداً وتشريفاً أن جعل الله تبارك وتعالى اسم السلام أحد أسمائه الحسنى، فقال القرآن في سورة الحشر:

(هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ) (الحشر/ 23).

وقد تعددت أقوال العلماء في معنى هذا الاسم الكريم فقيل: معناه ذو السلامة من كلّ نقيصة وآفة، فيكون من أسماء التنزيه.

وقيل معناه: مالك تسليم العباد من المهالك فيرجع إلى القدرة.

وقيل معناه: ذو السلام على المؤمنين في الجنان.

وقيل معناه: مُسلِّم المسلمين من العذاب.

وقيل معناه: الذي سلم خلقه من ظلمه.

وقيل: الذي يسلم على المصطفين من عباده لقوله تعالى: (وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى) (النمل/ 59).

وقد قال تعالى في سورة الأنعام:

(وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) (الأنعام/ 54).

والتحية المألوفة المعروفة في الإسلام هي "السلام عليكم ورحمة الله"، وقد حرص الإسلام على الإكثار من ترديد السّلام حتى قال رسول الإسلام (ص): "أفشوا السلام بينكم". وأطلق الله على جنة النعيم اسم "دار السّلام" فقال في سورة الأنعام: (لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ) (الأنعام/ 127).

وقال عنها في سورة يونس:

(وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (يونس/ 25).

وجعل تحية المؤمنين في الآخرة هي تحية السّلام فقال:

(تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) (الأحزاب/ 44).

وحينما دعا القرآن إلى الاحتكام إلى رسول الله (ص) فيما يحدث بينهم، طالبهم بأن يرتضوا حكمه ويسلموا لهذا الحكم عن إنقياد وإذعان، وينفذوا ذلك طوعاً، فقال في سورة النساء:

(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (النساء/ 65).

ولقد عني رسول الله (ص) بأمر السّلام ودعا أتباعه أن يستشعروا روح السّلام في أنفسهم، وفي معاملتهم لغيرهم فلا يكون منهم إلى النّاس أذى أو اعتداء، فتردد على لسانه الشريف جملة من الأحاديث الشريفة الداعية إلى السّلام المذكرة به ومنها هذه الأحاديث:

1-     السّلام من الإسلام.

2-     المسلم مَن سلم المسلمون من لسانه ويده.

3-     انّ السالم مَن سلم النّاس من يده.

4-     أفشوا الإسلام تسلموا.

5-     إذا سلّم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم.

وكان للرسول دعوات ومناجيات لخالقه ومولاه يذكر فيها السلام، وينوه بشأن السلام، ويدعو فيها إلى استشعار روح السّلام، فجاء من دعواته: "اللّهمّ أنت السلام، ومنك السلام فحينا ربنا بالسلام". قال العلماء: السلام الأوّل في هذا النصّ اسم من أسماء الله تعالى. ومنك السّلام، أي منك السلام من الآفات، وحيّنا ربنا بالسلام: أي اجعل تحيتنا في وفودنا عليك السلامة من الآفات.

وكان من دعاء الرسول (ص): اللّهمّ اجعلنا سلماً لأوليائك.

وحينما قال الله تعالى في سورة يوسف على لسان الصديق (ع):

(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (يوسف/ 101).

وتكلّم المفسِّرون عن هذه الآية قالوا انّ معنى " توفني مسلماً" يرمز إلى الاستسلام والسّلام والسلامة، فقالوا انّ المعنى: اجعلني ممّن استسلم لرضاك، أو اجعلني سالماً عن أسر الشيطان حيث قال:

(وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (الحجر/ 39-40).

و قد غلب على المسلمين في كلّ زمن روح الإسلام، فكان من خلقهم العطف على مَن جاورهم من غيرهم، ولم تستشعر قلوبهم عداوة لمن خالفهم إلّا بعد أن يحرجها الجار.. فهم كانوا يتعلمونها من سواهم ثمّ لا يكون إلّا طائفاً يحل ثمّ يرتحل، فإذا انقطعت أسباب الشغب تراجعت القلوب إلى سابق ما ألفته من اللين والمباشرة، وعلى الرغم من غفلة المسلمين عن الإسلام، وخذلانهم له، وسعي الكثير منهم في هدمه بعلم وبغير علم، لم يقف الإسلام في انتشاره عند حد، خصوصاً في الصين وفي أفريقيا.. ولم يخل زمن من ظهور جموع كثيرة من ملل مختلفة تنزع إلى الأخذ بعقائده على بصيرة فيما تنزع إليه: لا سيف وراءها، ولا داعي أمامها، وانما هو مجرد الاطلاع على ما أودعه، مع قليل من حركة الفكر في العلم بما شرعه.

ومن هذا تعلم أنّ سرعة انتشار الدين الإسلامي، وإقبال الناس على الاعتقاد به من كلّ ملة إنما كان لسهولة تعقله، ويسر أحكامه، وعدالة شريعته وبالجملة لأنّ فطرة البشر تطلب ديناً وترتاد منه ما هو أمس بمصالحها، وأقرب إلى قلوبها ومشاعرها، وأدعى إلى الطمأنينة في الدنيا والآخرة... ودين هذا شأنه يجد إلى القلوب منفذاً، وإلى العقول سبيلاً، وبدون حاجة إلى دعاة ينفقون الأموال الكثيرة، والأوقات الطويلة، ويستكثرون من الوسائل ونصب الحبائل لجذب النفوس إليه. هذا كان حال الإسلام في بساطته الأولى، وطهارته التي أنشأه الله عليها، ولا يزال على جانب عظيم منها في بعض أطراف الأرض إلى اليوم.

إنّ ربكم هو السّلام، وإنّ رسولكم هو نبيّ السّلام، وإنّ قرآنكم هو كتاب السّلام، وإنّ تحيتكم هي السّلام، وإنّ مسعاكم إلى الجنّة دار السّلام، وإنّ رسالتكم هي رسالة السّلام فأشعروا أنفسكم روح السّلام، ليعمكم ربكم بنعمة السّلام. ►

 

المصدر: كتاب موسوعة أخلاق القرآن

ارسال التعليق

Top