• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

شجيرات التفاح

أبو معاذ

شجيرات التفاح

 

تركتُ أبي وضيوفه يشربون الشاي وانصرفت إلى غرفتي. بكيتُ في صمت لكي لا يسمع أحد نشيجي. كررت مراراً: "مسكين أبي.. مسكين أبي" وذرفت دمعاً كثيراً. أحسست براحة بعدها، وتذكرت الحمقاء. فكّرت: إنها ليست حمقاء، بل هي عديمة الشفقة، لأنها الآن تُورّط أبي في هذا الزواج الذي تفوح منه رائحة الطمع. يا لأبي المسكين. الآن وقد غرق في الديون ويحتاج إلى العون، تأتيه الحمقاء المراهقة بخطيب عاطل من أسرة وبيئة لا يحرّكهما إلاّ الطمع. وأختي الصغيرة الحمقاء تريد عرساً، مثل عرس أختنا الكبرى قبل سبع سنين. لكن الحمقاء لا تفهم أن أبي كان حينها يملك بستان إجاص يدرّ مالاً كثيراً.الآن، وقد راح البستان في ديون مشروع الفندق المشؤوم، وراح الفندق أيضاً، لم يعد لأبي إلا هذا المنزل وراتب تقاعده. هذا المنزل هو كل ما بقي لأبي المسكين، مع أربع بنات في سن الزواج.لم يرفض لنا أبي طلباً أبداً، كنّا نحنُ بناته سرّ سعادته، حتى في السنوات الثلاث الأخيرة، حيث بدأ الحجز على البستان ثم الفندق، كان أبي يحتفظ بالابتسامة، إذ تُحيط به أميراته الأربع يداعبنه ويضحكنه ويمسّدن رجليه ويُنسينه همومه. في المطبخ، كانت أمي وأختاي يحضّرن الغداء، وكلهنّ في غاية الحزن والغضب مثلي، لكنهنّ إرضاء لأبي وخوفاً من أن تفعل الحمقاء في نفسها شيئاً، كنَّ يحاولن التصرف بشكل طبيعي، لكن حاولت الحمقاء قبل أسبوع أن تنتحر، حين رفض أبي تزويجها بفارس أحلامها لأنه عاطل. أرادت أن تُلقي بنفسها من سطح المنزل لولا تدخُّل أمي وأخواتي. "انظري إلى أطفال الضيوف ماذا صنعوا في الحديقة"، قالت أمي هامسة. وحيث كنتُ متوجّهة لأرى، نبَّهتني مرة أُخرى أن أكون لطيفة حتى، يمرّ قدر الله، كما قالت. في الحديقة الصغيرة المتبقيّة لنا من بستاننا القديم، كانت هناك أربع شجرات تفاح. وكان أبي يُعزي نفسه عن بستانه الضائع بهذه الشُّجيرات، فنهيئ له الفطور وحتى الغداء بين الشجرات الأربع، فلم أتمالك نفسي حين رأيت ما يقرب من عشرة أطفال أشقياء من أبناء الضيوف يتراشقون بالتفاح، ويتحاربون بسيوف من أغصان الشجر. بينما انهمَكت امرأة من الضيوف في ملء صندوق سعة 25 كيلوغراماً، مُنتقية أفضل حبّات التفاح. كانت جدتي المسكينة تجلس هناك حانقة وعاجزة، تُهمهم بعبارات بربريّة من دون أن يكترثوا بها، اقتربتُ بحزم من المرأة، قلت وأنا أحاول جهدي أن أبقَى لطيفة: "يا سيدي اذهبي لتشربي الشاي، سيتكفل الحارس بقطف التفاح لك". انصرفت المراة غير راضية، وهي تبتسم ابتسامة صفراء. صَرْف الأطفال كان أصعب، فهم يهربون منّي من شجرة إلى شجرة وهم يضحكون. وقد تجرّأ أحدهم وقذفني بتفاحة مهترئة واضطرني إلى تغيير ملابسي. نجح الحارس أخيراً في إبعادهم بواسطة تهديدهم بالكلب. كنت في غاية الحنق وأنا ألتحق بأمي وأخواتي في المطبخ. ضحكت أمي من حادثة الأطفال، ومما وقع للفستان الذي أعددته بكل عناية. بينما اكتفت أختاي الأصغر مني بالابتسام قالت أمي: "لا تتركي أباك وحده مع الضيوف يا ابنتي". حين جلست قريباً من أبي، كانت الحمقاء تحكي لضيوفها، وكانوا قريباً من العشرين، من دون احتساب الأطفال. كان كل كلامها كذباً وافتخاراً: لايزال لأبي بستان بأربعة آلاف شجرة. وفندق أبي سيفتح أبوابه بعد سنة على أبعد تقدير. كانت تجلس إلى الجهة الأخرى من أبي، فغمزتني سراً من وراء ظهره مَخافَة أن أفضحها. كان أبي كالعادة مبتسماً وقليل الكلام. كان الخطيب في مثل سنّها، وسيماً ويميل إلى السمنة. كان ينظر إليها وهي تتكلم وهو يبتسم، حتى إذا أنهت كلامها ختم الابتسامة بضحكة بليدة. انطلق أبوه أيضاً بوجهه الأبيض وعينيه الرماديتين يحكي عن مناقب كبار قواد الجيوش، وأن وزيراً من الوزراء الحاليين، هو ابن عم ابنة خالة أبيه. وأنه هو شخصياً هنأه حين تسلّم منصب الوزارة، لكنه لم يتصل به بعدها. "حتى لا يظن أنني أطمع في إحسانه". أخذت أم الخطيب أيضاً دورها وتحدثت عن أمجاد سلالتها. احتفظ أبي بابتسامته محاولاً الاستماع بعناية لمَا يُقال، على الرغم من تفاهته. قبل الغداء بساعة، تمنَّى والد الخطيب بأدب لو أمكن، أن يتنزّه قليلاً في بستان التفاح، ويختم بزيارة الفندق الجبلي. حين طلب ذلك نظرتُ إلى أختي الحمقاء من وراء ظهر أبي. كان وجهها الأبيض شديد الاحمرار، وهي تنظر إلى خطيبها الذي لم تغادره ابتسامته الأتوماتيكية البليدة. جلست أمي إلى جانبي في هذه اللحظة. كنّا نجلس جميعاً حول المائدة المستطيلة الكبيرة، كانت السماء تبدو من خلال النافذة غائمة، ولم يكن هناك ما يُنذر بالمطر. نظر أبي إلى أمي، وقد اكتسَى وجهه الآن بطابع الوقار. قال أبي مخاطباً والد الخطيب: "البستان والفندق يا سيد عبدالغني محجوزان بحكم قضائي". همْهَم الضيوف من الجهة الأخرى للمائدة. انصرفت الحمقاء فلحقت بها أمي. سأل والد الخطيب متعجباً وعيناه تلمعان: "لأي سبب قاموا بالحجز؟". كانوا كلهم ينظرون مشدوهين إلى أبي تارة وإلى الخطيب تارة. أجاب أبي: "لم ينجح مشروع الفندق، فتراكمت الديون ولم أستطع سدادها". نظرتُ إلى الخطيب، كان ينظر إلى الأسفل شارداً. أما أمه فكانت تشعر بالإهانة أمام أهلها، وأهل زوجها الذين اختارتهم للحضور معها، وانتقتهم حسب قيمة سياراتهم، لتُشعرنا بأنّ ابنها من أسرة ثرية وإن كان بيتهم في حي شعبي. كانت الصدمة تبدو عليها أكثر من زوجها. انتهى الحديث عند هذا الحد. لا أخفيكم أنني كنت في غاية الفرح من موقف أبي. كان موقفاً شجاعاً وذكياً. همس أبي في أذني أن ألحق بالحمقاء ولا أغادرها. حين وصلت إلى باب غرفة الحمقاء، سمعت بكاءها. كانت أمي وأختي زينب تقومان بتهدئتها. نظرت إليَّ نظرة حاقدة. قلت: "لا تنظري إليَّ هكذا يا سلمي". لم تجبني وواصلت البكاء. فكرت في نفسي أن هذا هو الوقت المناسب لأهيئها نفسياً لما قد يقع: "أنت جميلة وصغيرة السن وتستحقين خيراً من هؤلاء الطمّاعين". نظرت إليَّ نظرة نارية، وقد كفّت فجأة عن البكاء. قالت: "ارتاحي الآن أيتها الحاسدة، لأنني لم أتزوج قبلك". نظرت إلى أمي وإلى أختي وهما إلى جانبها، أضافت: "لو أنني تز وجت الآن لماتت هذه الحاقدة من الحسد". لا أدري لماذا كنت مرتاحة الآن.. ربما لشعوري بأن الحمقاء لن تفعل في نفسها مكروهاً. أو لأن أبي سيخرج منتصراً هذه المرة. نظرت إلى نفسي في المرآة وأنا خارجة من غرفة الحمقاء.. شعرت بأنني جميلة وأميرة. انصرف الضيوف بعد الغداء مباشرة، وحين حل المساء اتصلت أختي الصغرى بخطيبها السابق مرات عديدة من دون أن يجيبها. وفي آخر اتصال، تركت له رسالة صوتية وأخرى مكتوبة بعبارات في غاية الاحتقار. وتعشَّت الحمقاء إلى جانب أبي وأطعمته من يدها وابتسمَا لبعضهما بعضاً طيلة العشاء. وحين انصرفنا تلك الليلة إلى غرفنا، كنّا كلّنا سُعداء، حتى أختي الصغرى. وعبَرْنَا الحديقة الصغيرة تحت وابل من المطر، وكانت شُجيرات التفاح الأربع في غاية الجَمَال، ولم يَبْدُ عليها أي أثر مما فعل الأطفال بها صباحاً.

ارسال التعليق

Top