• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

صافرة انذار

أسرة البلاغ

صافرة انذار
 عاد عبدالحكيم إلى البيت ليجد أن زوجته إقبال لا تزال خارج الدار فجلس ينتظرها وهو يلاعب أطفاله تارة ويقرأ في كتاب تارة أخرى وحوالي الساعة العاشرة عادت إقبال، فوجدها في أروع حلة وأبرز زينة على عادتها في التزام الأناقة، ولكنها لم تمهله لكي يمتع نظره بمظهرها الجذاب إذ اتجهت إلى غرفتها وتخلصت هناك من وسائل التصنع فبرزت حقيقتها أقل جمالاً وأكثر نعومة وأنوثة. ولاحظ عبدالحكيم أن إقبال لديها ما تقوله له حيث إنها تتحبب إليه بشكل لا يحدث إلا في الحالات التي تسبق لها طلب أو حاجة، وبعد أن استسلم الأطفال للنوم قالت إقبال: انك لم تسألني عن زيارتي عصر هذا اليوم، فابتسم عبدالحكيم واستعاذ في سره من هذه المقدمة ثمّ قال أرجو أن تكوني قد حصلت على بعض المتعة والراحة؟ فاندفعت تقول وكأنها تتحدث عن الفردوس الموعود، يا لله كم كانت الجلسة رائعة والحديثة واسعة والبيت فخم والتقديم محترم جدّاً وقد كانت أحدث (باروكة) هي باروكة صديقتي حياة وأغلى بدلة هي بدلة أم نعمان زوجة الدكتور عاصم آه كم كانت جميلة ومحترمة وكم كانت بارزة مقدرة. نعم جداً جدّاً فضحك عبدالحكيم في ألم وتساءل من أم نعمان أُم البدلة؟ قالت لا أنها البدلة يا عبدالحكيم، وقال وأم نعمان ماذا كان دورها يا ترى؟ قالت وكأنها لا تريد أن تفسح له مجالاً للحديث: ولكنني كنت خجلانة جدّاً بشكل لم أتمكن معه أن استشعر الأنس والسرور. فاستعاذ عبدالحكيم بالله من جديد وحدث نفسه قائلاً: هذه هي البداية والله يستر من النهاية. وسكت فلم يعقب، قالت أراك غير مهتم بأمري يا عبدالحكيم أتراني هنت عليك إلى هذا الحد؟ فها أنت إذا لم تحاول أن تتعرف على أسباب خجلي كأنني غريبة عنك. قالت هذا وكادت أن تستعبر باكية، فحدث نفسه قائلاً: أن امري لله الواحد القهار لو تأخرت عن سؤالها لحظة لقامت هنا مناحة. ثمّ أردف يقول: كيف يخيل إليك هذا يا إقبال؟ ألست أنت زوجتي وأم أولادي ولكنني غفلت عن السؤال فسامحيني عن ذلك والآن أي شيء بعث الجل في نفسك يا عزيزتي؟ أرجو أن لا تكون بدلتك الجديدة قالت: لا فهي وإن كانت أقل من بدلة أم نعمان ولكن يمكن التعويض عنها في المستقبل وإنما الموضوع هو موضوع تجديد اليوم الذي استقبل فيه الزائرات لقد مر زمن طويل دون أن أخصص يوماً للاستقبال فماذا عساهنّ أن يفسرن ذلك الا العجز المالي والمعنوي نعم انهنّ سوف يظنن أن زوجي إنسان بخيل غير عارف بقواعد المجتمع وهذا ما يؤلمني جدّاً، نعم انه يؤلمني من أجلك يا عبدالحكيم لأنك إنسان ممتاز فإن من المؤسف أن تؤخذ عنك فكرة خاطئة وأنت كما أعرفك أروع زوج وأحسن رب أسرة فابتسم عبدالحكيم وقال: أنا جد شاكر لك عواطفك يا إقبال والآن؟ قالت والآن أليس اليوم هو الخامس من الشهر؟ قال: نعم. قالت: إذن فإن في إمكاني تعيين يوم للإستقبال ما دمت تتمكن من ذلك، ولكن وكأنك في حديثك عن اليوم الموعود تتحدثين عن فتح جديد يحتاج إلى اعداد مالي هائل، فتضاحكت في دلال وقالت: لا انّ الأمر ليس كما تظن يا عزيزي ولكنه قد يكلف، يكلف، وبقيت حائرة دون تردد كلمة يكلف. ولا تدري بماذا تعقب فقال لها مشجعاً: عشرة دنانير مثلاً؟ فأعادت كلامه بلهجة استغراب قائلة: عشرة دنانير! لا انها قليلة. قال: خمسة عشر ديناراً؟ أجابت في تردد أو أكثر بقليل. فهز رأسه في ألم وتأفأف قائلاً: ولكن كم هو عجيب طلبك يا إقبال كيف سوف نتمكن أن نقضي البقية من الشهر بعد ذلك وقد أخذت من راتبي قسطاً وافراً من اليوم الأوّل من الشهر لأجل أجرة الخياط وشراء الحذاء والجنطة. والآن تريدين أن تستهلكي أكثره في يومك الموعود فكيف سوف أتمكن أن أوفر الحاجيات الأخرى حتى نهاية الشهر؟ قالت: يمكنك أن تستقرض لذلك من أحد الأصدقاء. قال: ألا يكفيني ما تحملته من ديون حتى أضيف إليها رقماً جديداً؟ ولأجل أي شيء؟ لأجل أن تحدد زوجتي يوماً لاستقبال الزائرات. قالت: آه ظني لم يكذبني اذاً. فها أنت ذا أصبحت تهمل أمري بشكل واضح لم يكن ليخطر لي من قبل، ما أتعسني وما أشقاني إن أصبحت أنا ربيبة الترف والدلال غير قادرة على تعيين موعد للاستقبال، كيف سوف أتمكن أن أواجه أهلي وعشرتي كيف سوف أتمكن أن أنظر إلى المجتمع بعيني؟ إن ذلك يعني انعزالي عن المجتمع بشكل نهائي فإن من المخجل أن أزور ولا أزار قالت هذا واندفعت تبكي بحرقة وحاول أن يقنعها بمنطق الواقع ولكنها أبت أن تستجيب قالت: إن ذلك يعرضني لأقسى الأمراض لأنني إذا لم أخرج من البيت يومين متتابعين أحس بانهيار عصبي وأفقد القدرة على تناول الطعام وبعد طوال نقاش وجدل خضع عبدالحكيم للأمر الواقع على مضض وتنازل مضطراً لما تمليه عليه زوجته. واستعداداً لليوم الموعود بدأت إقبال توزع الأعمال بين أخواتها وصديقاتها ولما سألها زوجها عن طبيعة دورها وما تبقى لها من مهام بعد هذه الحملة من توزيع الأشغال على الأخريات، قالت: ان علي أن أهيء البيت وأصف الكراسي!! وحان موعد الاستقبال وإقبال سادرة في تحقيق رغباتها بأي ثمن حتى ولو كان على حساب أعصاب زوجها وعواطفه تجاهها وكانت لا تنظر إلى ما هو أبعد من هذا اليوم ولا تحس بانعكاساته السيئة في حياتها الزوجية. وعند العصر حاولت أن ترتدي بدلة تزيد من تألقها واستعدت لاستقبال الضيوف وأرسلت بأطفالها إلى أمها وأقصت عبدالحكيم عن البيت قائلة له إياك أن تعود قبل الساعة العاشرة يا عزيزي لكي لا تكدر علينا جلستنا وسهرتنا السعيدة. ثمّ بدأ توافد الزائرات قبل الغروب بنصف ساعة. وكن جميعهنّ يتبارين بأحدث أساليب الأناقة والمكياج ولم تكن تدخل واحدة منهنّ الا وتستعرضها العيون فاحصة مدققة فتقول هذه: إن لون بدلتها غير مناسب. وتعلق تلك قائلة: كان من المفروض أن تكون أطول من هذا. وتتأفأف ثالثة وكأنها وجدت أمامها حالة شاذة وتهز رأسها في قنوط ثمّ تتمتم قائلة: لكم يزعجني هذا الانحراف بالذوق! ما أبعد ملاءمة هذه التسريحة لوجهها. أُف، أسفي على الموضة كيف تبدو مشوهة. انني أتحمل كل شيء ولا أتمكن أن أتحمل منظر تغاير الشكل مع المكياج. وكانت ترتفع من هنا وهناك بعض ضحكات رنانة لم تعرف حتى صاحبتها لماذا أطلقتها على هذا الشكل. وفي حوالي الساعة الثامنة اكتمل، فنشطت إقبال مع بعض صويحباتها لإعداد ما يستلزمه التقديم، فوزعت الصحون والملاعق والسكاكين بانتظار ما يشغلها من مقليات ومحشيات وفطائر ومعجنات. وفي تلك اللحظة رن جرس التلفون وكانت المطلوبة إحدى الحاضرات ولم يكن في ذلك ما يثير لولا أنها عندما عادت كانت بادية الحيرة والاضطراب وأخذت تسأل عن صاحبة البيت التي كانت لا تزال في المطبخ ثم قالت: يعز عليَّ أن أختصر الجلسة ولكن زوجي استدعاني إلى البيت لأنّه سمع باحتمال وجود غارة وهمية تستدعي التعتيم، ولهذا فإن من الراجح أن أعود إلى البيت في أسرع وقت. وما كادت تكمل جملتها حتى هاج جمعهنّ وماج ونسين في لحظة جميع قواعد الأتكيت في التزامه فلم يعد يسمع منهنّ إلا: أين عباءتي؟ أين جنطتي؟ ان طريقي بعيد جدّاً. لا أدري هل أولادي في البيت أو خارجه؟ الويل لي لو عارضني التعتيم في الطريق. ينبغي أن نذهب بسرعة. وكأنهنّ في غمرة اضطرابهنّ نسين صاحبة البيت التي حضرت مسرعة من المطبخ وقد استفزتها الضجة؛ فقد كن يتسابقن إلى الخروج تاركات ورائهنّ الصحون الفارغة تنتظر، وصاحبة البيت حائرة لا تدري كيف تتصرف وهي تحاول أن تسكن من روعهنّ وتهدِّىء من اندفاعهنّ ولكن دون جدوى، ولم تمض ربع ساعة حتى كان بيت إقبال خالياً إلا منها!! فاستدارت بعينيها وقد صعقتها الصدمة وأربكتها المفاجأة فلم تجد إلا الصحون الخالية والكراسي المبعثرة، وتوجهت إلى المطبخ لتجد المآكل التي كلفتها الكثير من المال والعناء وحملتها المزيد من جميل المساعدات، وجدتها مصفوفة في صحونها دون أن يلقي أحد عليها نظرة، فهالها الأمر واستعرضت في فكرها جميع ما حملها هذا اليوم من مشاق مالية وروحية، حتى أنّه فتح بينها وبين زوجها فجوة لم تكن لتوجد لولاه. وكم كانت تعقد على يومها هذا من آمال في البروز وحب الظهور أمام المجتمع بالمظهر اللائق، ولكن آمالها تنهار لمكالمة تليفونية واحدة ولم يسعها عند ذلك إلا أن تجلس فتبكي بمرارة، ثمّ تذكرت موضوع الغارة الوهمية والتعتيم وتذكرت أن عبدالحكيم سوف لن يعود قبل العاشرة كما أكدت عليه هي من قبل، ولهذا فهي سوف تبقى وحدها في البيت وخلال العتمة، وشغلتها فكرة الخوف إلى فترة عن فشل يومها وفكرت، لعل عبدالحكيم سوف يسمع خبر الغارة فيعجل العودة إلى البيت، وخرجت إلى الحديقة ولم تتمكن أن تقوم بأي عمل لأنّ الخوف كان قد استولى على مشاعرها فجلست فوق كرسي هناك تنتظر قدوم عبدالحكيم. وبعد فترة ألقت نظرت على ساعتها فوجدتها تشير إلى التاسعة! إذن أين الغارة، وأين التعتيم؟ وحاولت أن تخلع عنها البدلة ولكن الخوف كان يشلها عن كل عمل فلم تبرح مكانها حتى حانت الساعة العاشرة وليس هناك أي غارة أو تعتيم. وبعد الساعة العاشرة بدقائق رن جرس الباب فعرفت أنّ القادم هو عبدالحكيم فتوجهت لتفتح له الباب وهي لا تعرف كيف تتصرف من بعد هذا الفشل، وقد ترددت لحظة قبل أن تفتح الباب ثمّ فتحتته ويدها ترتجف فظهر من وراء الباب عبدالحكيم، فحيته في ابتسامة حزينة فابتدرها قائلاً: هل يمكنني أن أدخل أم أنني جئت مبكراً؟ فأطرقت برأسها إلى الأرض وقالت: ليتك كنت قد جئت من قبل؛ تفضل فإنني وحدي هنا. فدخل إلى الحديقة وهو يستغرب من خلاء الدار بهذه السرعة، ولكنه عندما شاهد الصحون النظيفة الفارغة وقف باهتاً والتفت نحو اقبال في تساؤل دون أن يقول شيئاً، فما كان منها إلا أن تندفع باكية وهي تقول: لا أدري كيف أفسِّر لك الموقف يا عبدالحكيم، لقد خرجن قبل بداية التقديم وذلك من أجل الغارة الوهمية والتعتيم. وكانت إقبال تظن أن هذا الخبر سوف يثير زوجها ولكنها وجدته على العكس من ذلك، فقد ظهرت عليه بعض علامات الارتياح ثمّ قال: لطيف! لطيف! ولكن أي غارة وهمية هي هذه وأي تعتيم؟ قالت: لقد اتصل زوج إحدى الزائرات معها تليفونياً وأخبرها بذلك وقد سبب هذا الخبر إثارة الفزع عند الأخريات. ولهذا ترى أنهنّ خرجن على هذا الشكل، فقهقه عبدالحكيم ضاحكاً وهو يقول: ما هي إلا أكذوبة يا اقبال فهل أن من المعقول أن يكون هناك غارة وتعتيم من دون إخبار سابق؟ والدليل على أنها محض أكذوبة هو عدم حصول أي غارة حتى الآن. فسكتت إقبال لحظة ثمّ قالت: نعم يبدو أنها كانت أكذوبة ولكن النتيجة كما ترى. قال: أرجو أن تكون النتيجة من صالحك يا اقبال وأتمنى أن يكون هذا اليوم قد أعطاك درساً تستفيدين منه في مستقبل أيامك القادمة. قالت: نعم أنّه درس لا ينسى وسوف لن أعود لمثله أبداً ما دمت حية. وفي صباح اليوم الثاني اتصلت معها صديقتها صاحبة المكالمة التليفونية التي أثارت المشكلة لتعتذر منها قائلة: يبدو أن ابني كان قد سقط من السلم وانكسرت يده نتيجة لذلك فأراد زوجي أن يستدعيني دون أن يثير في نفسي مشاعر القلق فاختلق موضوع الغارة والتعتيم ولكنني جد آسفة لما سببته لك من ازعاج. فأجابتها اقبال: لعل أنّ الموضوع في بدايته كان لا يخلو من ازعاج ولكن نتائجه بالنسبة إليَّ صالحة وقد كشفت عن عيني غشاوة كانت تهددني بالخطر. وسواء فهمت صاحبتها ما تعنيه إقبال أو لم تفهم ولكنها اعتذرت إليها من جديد وأنهت المكالمة بسلام.

ارسال التعليق

Top