وُلِد علي الأكبر (عليه السلام) في بيت يتمتع بالحضور الكامل للإيمان والتقوى بيت رحب الفكر واسع المعرفة مزدحم بالصالحين والطاهرين والذين لا تأخذهم في الله لومة لائم، الذين لا يفتأون يحرصون على صيانة مبادئ رسالتهم، ويتمسكون بحرفيتها، ويرفعون ألوية العقيدة عالياً.. ومن شأن الوليد الذي يفتح عينه في أجواء الصفاء لبيت الصفوة، وأوساط الشرف والسؤدد، وبيئة الخير والصلاح والهدى، من شأنه أن ينشأ على إفاضات ذلك البيت النبيل، وقبسات أهل ذلك البيت من الرجال الذين أنيطت بهم حراسة القضية الإسلامية، وصيانة الشرع الشريف، وحفظ الدِّين المحمّدي الحنيف.
ترعرع علي الأكبر (عليه السلام) في تلك الأوساط النظيفة، حيث قضى سني حياة صباه يدرج بين صفوة الرجال وصفوة النِّساء، وخيرة الفتيان والصبيان، بين شخصيات جليلة القدر وشباب يسمون نحو الكمال والعزّ والإباء. شب نحو العُلى والكمال، فهو بمستوى تعاطي القيم والمثل والتربويات القيمة، والحق أنّ آل الرسول (عليهم السلام) مكيفون لذلك منذ الصغر بدءاً من نعومة أظفارهم ليكونوا على استعداد دائم. أخذ علي الأكبر (عليه السلام) من التربية الشيء الكثير وذلك من أعضاء الأُسرة الرسالية، وخصوصاً والده الإمام الحسين (عليه السلام) الذي يقع عليه عبء إعدادهِ وتعبئتهِ إن صح قولنا عبء، والحقّ أنّ ذلك لم يكن عبئاً بنظرتهم، أهل البيت (عليهم السلام)، لأنّه من أخص خصوصياتهم، فلا يصعب عليهم تكوين النموذج الحيّ في التربية.
ثمّ إنّ خريج مدارسهم إنسان رفيع في التربية، عالٍ في العلم، علواً يؤهله وبجدارة لأن يكون هو بشخصه مربياً ومعلماً ينهج ويبدع في المنهج الإسلامي، بل يكون هو بالذات مدرسة مستقلة كفيلة باستيعاب المجتمع وتقديم العطاءات الإصلاحية له، لأنّ خريج مدارسهم مكيّف لذلك جاهز له بحكم مضمونه ومحتواه وكلّ إناء بالذي فيه ينضح. ولمن يريد الوقوف على مدارس التربية عند أهل البيت (عليهم السلام) ومناهجهم الواعية، ولمن يريد التوفر على نظرياتهم الثرية، فما عليه إلّا أن يراجع مذخوراتهم والثروة الكبيرة من التراث الذي خلفوه. إنّ خصوصيات مناهجهم، التربوية قد انعكست على مواقفهم الصارمة الحاسمة، ففوق أنّها سرّ كمالهم، فهي تفسير مواقفهم المبدئية وقراراتهم الخطيرة التي آلوا على ألا يفرطوا في جنبها. ونحن إذ نمجد ذلك فيهم، فليس من باب الزهو بهم، وإنّما من باب التأثر والاقتداء بهم لندرك أسرار سيرتهم وأبعاد أعمالهم الصعبة وأمرهم المستصعب.
وهكذا يتجلّى علو التربية ورفعة التوجيه وسمو الآداب وجلال التهذيب المتوفر في شخص علي الأكبر (عليه السلام) حين اتجه نحو أبيه الإمام الحسين (عليه السلام) في واقعة الطف، فاتخذ له موقفاً أمامه، وظل صامتاً مطرقاً برأسه، نظر إليه والده الحسين (عليه السلام) فأدرك ما يريد، فكلّ ما ظهر عليه من لامة حربه ومدرعته وإسراجه لفرسه يدل على عزمه للمضي على ما مضى عليه مَن سبقوه، يدل على لهفته لمباشرة الجهاد المسلّح. وراح الإمام الحسين (عليه السلام) ينظر إليه بنظرات ملؤها الرفق والحنان والإشفاق، أخذ يطيل النظر إليه، فاتخذت عواطف الأبوة الطاهرة مستقرها بين جوانح الأب العظيم.. دار التفاهم على صعيد الصمت.. وتمّ تبادل البيان من خلال مؤشرات موقف الأشجان.. ولم يكن الفراق عجيباً ولا غريباً، إذا خطّ الموت على وُلِد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة. فهم علي الأكبر (عليه السلام)، وأدرك من تلك الاجراءات الأبوية أنّه لا مانع من خوض غمار الحرب الرسالية فوراً، فمال إلى جواده الذي أعدّه وأسرجه فامتطى صهوته واتجه نحو تأكيد الحقائق، واستمر الإمام الحسين (عليه السلام) يلاحقه بنظراته وتابعه بقلبه البصير الذي يخفق على النهاية والمصير، لهذا الفتى المحمّدي، لقد وجدناه يحول طرفه ليرمق السماء وليناجي ربّه، رافعاً شيبته الشريفة وقد أرخى عينيه لتسيل الدموع كلّ مسيل: «اللّهُمّ اشهد على هؤلاء القوم، فقد برز إليهم غلام أشبه الناس خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً برسولك محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وكنّا إذا اشتقنا إلى وجه رسولك نظرنا إلى وجهه. اللّهُمّ فامنعهم بركات الأرض وفرقهم تفريقاً، ومزقهم تمزيقاً واجعلهم طرائق قدداً، ولا ترضي الولاة عنهم أبداً، فإنّهم دعونا لينصرونا ثمّ عدوا علينا يقاتلوننا».
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق