• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

كيف تتخير أصدقاءك؟

يوسف ميخائيل أسعد

كيف تتخير أصدقاءك؟

◄نود أوّلاً أن نلقي ببعض الضوء على الصداقة. نقول بادئ ذي بدء إنّ مفهوم الصداقة يختلف من عصر إلى عصر آخر، كما أنّه يختلف في المدينة عنه في القرية. فالصداقة كانت تتصف بالاستقرر والديمومة في العصور القديمة وفي القرى. فالصديق قديماً كان يظل مرتبطاً بصديقه طول العمر. وكذا الحال بالنسبة للأصدقاء في الريف. أما الصداقة في العصر الحديث فإنّها خضعت للتغيرات الحضارية. وكذا فإنّ النزوح من القرية إلى المدينة قد أثر أيضاً في شدة الروابط بين الأصدقاء.

ولا شكّ أنّ زيادة العلاقات الاجتماعية وتشعبها قد أضعفا من روابط الصداقة. فساكن المدينة يرتبط كلّ يوم بعلاقات جديدة، كما أنّه يهمل علاقات قديمة كانت قائمة. فأنت في المدينة تتعرف كلّ يوم على شخصيات جديدة. أما أصدقاؤك القدامى فإنّك تبتعد عنهم ويبتعدون عنك بحكم الظروف.

فأين أصدقاؤك الذين كنت تحبهم وترتبط بهم في المدرسة الابتدائية؟ وأين أصدقاؤك في الإعدادي والثانوي؟ لا شكّ أنّ طبيعة الحياة الحضارية تتصف بالتغير والتقلب والتعثر. والحركة الدائبة تعمل على إذابة العلاقات والوشائج العاطفية.

ولكن هذا لا يعنى عدم وجود صداقة على الإطلاق. صحيح إنّ الصداقة في العصر الحديث وفي المدينة ترتبط بالمكان والزمان، وليست صداقة مؤبدة كما كان الحال في المجتمعات الساكنة غير المتغيرة. فالصداقة موجودة، ولكن لابدّ من تحديد معناها في ضوء المتغيرات الحديثة.

إنّ الصداقة بالمعنى الحديث تشير إلى الألفة والتجانس والود المتبادل. ولكنها لا تعنى الاندماج وكشف الأسرار الشخصية ورفع الكلفة بين الصديقين. ونحن نحذر من الذئاب التي تتخفى في هيئة الحملان. إنّنا نحذرك من أشخاص يقنعونك بأنّهم يحبونك، بينما هم يتخذون من صداقتك لهم ستاراً لتحقيق مآربهم. فمعظم الجرائم التي يروح ضحيتها أبرياء بدأت بالصداقة الزائفة والخادعة. ولذا يجب أن تتخير أصدقاءك بحرص شديد.

وأوّل شرط: نضعه أمامك في اختيار الصديق ما يجب أن تهدف إليه الصداقة فيجب أن تقوم الصداقة أساساً على أساس التجانس النفسي والقبول القلبي المتبادل. ولكن احذر من شخص يتقرب إليك وقد أخفى مراميه عنك. اعلم يا صديقي أنّ الخبثاء يؤكدون لك أنّهم لا يبغون سوى صداقتك، بينما هم يؤجلون الكشف عن أهدافهم ومصالحهم إلى أن تتوطد الصداقة بينك وبينهم.

أما الشرط الثاني: فإنّه يتعلق بحدود الصداقة. فكثيراً ما تطغى الصداقة على مصلحة الأصدقاء. فبعض الأصدقاء يسطون كاللصوص على وقت أصدقائهم فيقضون على مستقبلهم. فحذار من أن يستولى صديقك على وقت استذكارك باسم الصداقة. علّم أصدقاءك إذن أن يحترموا وقتك، ولا تتخير أصدقاءك من بين مَن لا يحسون بقيمة وقتهم.

والشرط الثالث: أن يكون الصديق صادقاً في القول وأميناً على ممتلكات الآخرين وإن يكون حسن السمعة. فنحن ننصحك بألا تتخذ لك صديقاً تحوم حوله الشبهات. إنّك إذا سرت مع الخارجين على القانون، فإنّك تكون واحداً ومنهم. تخير أصدقاءك من المستقيمين وابتعد عن المنحرفين.

 

كيف تكسب صديقاً جديداً؟

الصداقة هي الألفة بين قلبين، وهي ارتباط وجداني غير مغرض بين شخصين. فالصداقة لا تشترط منفعة يحصل عليها الصديق من صديقه. العكس هو الصحيح. فالصديق الحقيقي هو الشخص المستعد للتضحية من أجل صديقه.

والناس ينجذبون بطبعهم إلى خصائص يبحثون عنها في غيرهم. والانجذاب القلبي هو الخطوة الأولى نحو الصداقة. وبتعبير آخر فإنّك لا تستطيع أن تكون صديقاً لغيرك إلّا إذا كان متمتعاً بالقدرة على جذب قلبه إليك.

وجدير بنا أن نسأل: كيف يستطيع المرء أن يجعل من نفسه شخصية جذابة؟ إنّ الشخصية الجذابة تتصف بالصفات الثلاث الآتية:

أوّلاً: البساطة وعدم التكلف: فالشخصية الجذابة لا تتصنع حركات ولا تتكلف طريقة كلام معينة. إنّها الشخصية التي تصدر في حركاتها وكلامها وتصرفاتها عن صميم كيانها، وعن جوهر ذاتها. فهناك فرق شاسع بين السلوك الصادق الذي يصدر عن المرء وبين السلوك المستعار الذي يتسم بالتقليد. فهناك بعض الشباب يعجبهم سلوك غيرهم فيقلدونه. ولكنهم في تقليدهم لهم يكونون كمن يرتدي ملابس شخص آخر على غير مقاسة. والحركات والكلام والتصرفات كالملابس. فإذا لم تكن على مقاسك، فإنّك تبدو غير أنيق عند استخدامك لها. فلا تستعر إذن ما لغيرك، بل استخدم حركاتك وكلامك وتصرفاتك التي تعبر عن شخصيتك لا عن شخصية غيرك.

ثانياً: الصدق مع الآخرين والأمانة على حقوقهم: والصدق والأمانة صنوان لا يفترقان. فالكذاب هو نفسه غير الأمين على ممتلكات أو حقوق غيره.

ثالثاً: القدرة على التصرف: فالشخصية الجذابة هي الشخصية التي يعوّل عليها. فالكثير من الناس تكون بأيديهم السلطة أو المال ولكنهم يعجزون عن التصرف. فمثل هؤلاء لا يعتمد عليهم ولا يعتد بهم. إنّهم لا يصلحون لأن يكونوا أصدقاء. ولذا فإنّ الناس من حولهم ينصرفون عنهم ولا يقيمون رابطة صداقة بهم.

حاول إذن أن تحقق في نفسك هذه الصفات الثلاث. كن بسيطاً غير متكلف فيما تقول وفيما تعمل، وكن صادقاً مع الآخرين وأميناً في تصرفاتك معهم. وكن أخيراً شخصية قادرة على التصرف في المواقف المختلفة. إنّك بهذا تصير شخصية جذابة يندفع نحوها الناس للارتباط بها، وعقد عرى الصداقة معها.

ولكن عليك بأن ترحب بإقبال الناس عليك. ونأسف إذ نقرر أنّ بعض الناس يحظون بشخصيات جذابة، ولكنهم يصدون عمن يقبلون عليهم. فكلما اقترب منهم الناس هربوا هم منهم. وكلما مد شخص لهم يده لتحيتهم استداروا وابتعدوا بوجوههم عنه.

إنّك تخسر كثيراً إذا كنت ممن يشيحون بوجوههم بعيداً عمن يقبلون عليهم. اعلم يا صديقي أنّ مَن تصده لا يستطيع أن يتعامل معك كصديق. فالصداقة غير التعامل. إنّ المتعاملين معك كلّ يوم كثيرون بطبيعة الحال. ولكن اسأل نفسك عن عدد أصدقائك لا عن عدد المتعاملين معك.

إنّنا نهيب بك أن تكسب صديقاً كلّ يوم. إنّ هذا المبدأ يبدد أمامك معظم صعاب الحياة. إنّ الصداقة تسعدك وتسعد أصدقاءك. إنّها كنز بين يديك لا يفنى. إنّ قوة كلّ صديق يحبك تضاف إلى قوتك. قل لي كم صديقاً مخلصاً لك، فأقول لك كم أنّك قوي. يقال أنّ نابليون كان قائداً حربياً عظيماً لأنّه كان يستولي على قلوب ضباطه وجنوده قبل أن يستولي على قلاع أعدائه. وقل نفس الشيء عن كلّ شخصية ناجحة في جميع مواقع الحياة. إذن اكسب في كلّ يوم صديقاً جديداً، فتكسب بذلك في كلّ يوم نجاحاً وقوة واقتداراً.

على أنّنا مع هذا نعود فنحذرك من فئات من الناس تلح عليك بأن تقيم صداقة معهم، بل نحثك على الهرب منهم وتجنب معاشرتهم بغير أن تعمد إلى مخاصمتهم أو إلى إنشاء محاور عدائية بينك وبينهم. والفئات التي نحذرك منها هي:

أوّلاً: أصحاب الوجهين أو أولئك الذين يبدون غير ما يخفون: فثمة أناس يمتلئون حقداً بالداخل، بينما هم يبشون في وجهك ويؤكدون لك بألسنتهم فحسب إنّك أصدق صديق لهم، وأنّهم يحبونك من جماع قلوبهم، وأنّهم لا يستطيعون العيش لحظة بدونك، وأنّهم يرون فيك جميع الفضائل وقد تجسدت ومن ثم فإنّهم لا يستطيعون الاستغناء عنك.

ثانياً: المتقلبون الذين ما يكادون يبشون في وجهك أو يحبونك من كلّ قلوبهم حتى ينقلبوا عليك شر منقلب بغير سبب وجيه يدفع بهم إلى الانقلاب عليك واحالة ما يعتمل في قلوبهم نحوك من حب إلى كراهية ومقت: فهم يحبونك ويكرهونك بغير مقدمات أو أسباب. ذلك أنّهم أشخاص لهم أمزجة متقلبة لا تثبت على حال.

ثالثاً: أولئك الذين يتخذون من صداقتك وسيلة لكيد غيرهم. فهم لا يحبونك لشخصك، بل يستخدمونك مجرد أداة للإغاظة أو للوقيعة بينك وبين الآخرين. إنّهم أعداء يتشحون بأثواب الصداقة الزائفة.

رابعاً: أولئك الذين لهم سوابق أو سلوك مريب أو سمعة مشينة. فالاختلاط بأولئك الناس لا يجلب عليك سوى السمعة الرديئة، ويخيم بشبهات رديئة على شخصيتك، فليس المطلوب منك أن تصادق جميع الناس. فلماذا لا تنقي إذن من بين ملايين الناس من هم أحق بصداقتك وحبك وإخلاصك؟ ولكن حذار في نفس الوقت من تأليب أفراد هذه الفئة عليك. عاملهم برفق، ولكن لا تقم بينك وبينهم جسوراً من المودة المستمرة والصداقة المتينة.

خامساً: لا تقم صداقة مع أولئك الذين يمكن أن يورطوك بسبب تصرفاتهم أو نوعياتهم أو نوعيات سلوكهم الرديئة أو المتهورة أو الخارجة على القانون، ولا تصاحب أصحاب النزوات المفاجئة. تجنب الجواسيس والمرتشين والمتآمرين وقطاع الطرق والمزيفين وتجار الجنس ونحوهم حتى ولو لم تكن لهم سوابق مرصودة في سجلات السجون وأجهزة الأمن. ذلك أنّ اختلاطك بأمثال هؤلاء يمكن أن يجلب عليك كثيراً من الشر، فتحسب كواحد منهم حتى لو كنت بريئاً براءة كاملة. لقد تزج باختلاطك بهم بنفسك في السجن أو تقف بسببهم أمام المحاكم وقد وجهت إليك تهم لم تشترك بالفعل في اقتراف أي منها. ولكن الشبهات تحوم حولك لأنّك أقمت رابطة صداقة معهم، وماشيتهم وسهرت معهم وآنستهم. ولقد يحرجونك فيجعلون منك شريكاً لهم بعلم منك أو في غفلة عن أمرك.

وهناك في الواقع قانون للصداقة يجب أن تلتزم به لعلنا نوجز لك بنوده فيما يلي:

أوّلاً: إنّ الصداقة في العصر الحديث صارت مرتبطة بواقع موضوعي يجمع بين الأصدقاء بعضهم وبعض. فليست هناك صداقة مطلقة بغير مبرر لها. ربما كانت هناك صداقة من هذا القبيل الاطلاقي في الأزمنة القديمة. ولكن في عصرنا هذا صارت الصداقة معلقة على محور يجمع بين الأصدقاء. فإذا زال ذلك المحور، فإنّ محوراً جديداً يجب أن يحل محل المحور القديم، أو قل إنّ الصداقة تذبل كما تذبل الوردة بعد أن تقطف من غصنها. إنّها تظل فترة ما يانعة ناضرة ولكنها تذبل وتضمحل إلى أن تصير هَملا. إذن جدد المحور الموضوعي الذي يجمع بينك وبين أصدقائك. فإذا أردت أن تظل الصداقة قائمة بينك وبين صديقك برغم ضياع المحور الذي يجمع بينكما، فعليك إذن أن تخلق محوراً جديداً يجمع بين قلبيكما.

ثانياً: لا تحكم على صديقك بأنّه شخص رديء يجب عليك أن تقاطعه لمجرد غلطة بسيطة اقترفها في حقك. إنّ عليك أن تنبهه إلى خطئه – فإذا أصر على الإضرار بشعورك فيكون من حقك أن تقاطعه حتى ولو ظل المحور الذي يجمع بينكما قائماً. ولكن لا تحل صداقتك إلى خصومة وعداء، بل خفف فقط من صداقتك له. فإذ أظهر لك حسن النية، وعدل عن سلوكه، فعليك بزيادة جرعة المودة له، ولكن لا تكن لعبة في يده. كن مقسطاً وعادلاً في زيادة أو نقصان جرعة المودة التي تبديها له.

ثالثاً: لا تسلم أصدقاءك أسرارك الشخصية التي يمكنهم استخدامها كأسلحة ضدك إذا ما انقلبوا إلى أعداء في يوم من الأيام. لا تَشْكُ لأصدقائك من معارفك الذين تربطك وإياهم صلات. واعلم أنّ كلّ كلمة تقولها اليوم، سوف تصل إلى صاحبها غداً أو بعد غد. إذا كنت تخشى من كلمة تصل إلى مَن تقولها ضده، فأحرى بك ألا تقولها بداءة.

رابعاً: ولكن من جهتك يجب عليك أن تظل كتوماً على أسرار الآخرين حتى ولو انقلبوا إلى أعداء يناصبونك العداء. إنّك إذا أفشيت أسرارهم التي باحوا بها لك وقت أن كانوا أصدقاءك، فإنّ مَن تبوح له بتلك الأسرار سوف يحمل في نفسه الاحتقار لك، حتى ولو لم يعبّر لك عن احتقاره صراحة.

خامساً: لا تثقل على أصدقاءك بالزيارات ولا تخالط صديقك بالدرجة التي تجعله يزهد فيك أو ينفر منك ومن مجالستك. ولا تحمل صديقك مشقة كأن تطالبه بخدمات مستمرة. فإذا ما اضطرت لأن تطلب من صديقك خدمات يؤديها لك، أو لم يهمك أمرهم، فعليك بدورك أن تقدم إليه خدمات، أو أن تقدم إليه بعض الهدايا حتى لا يتبرم منك. ولكن حذار من أن تكون الهدايا المقدمة إلى صديقك من قبيل الرشوة لكي تحمله على الاخلال بواجبات وظيفته، أو لكي تحمله على الخروج على القانون أو نحو ذلك من مخالفات قانونية أو وظيفية.

إنّك بمراعاتك لتلك القواعد أو القوانين التي يجب أن تحكم صداقتك مع الآخرين، فإنّ ما تكسبه من الأصدقاء يكون جديراً بأن تصادقه، كما أنّك تضمن بذلك لنفسك صداقة متينة غير متقلبة بل وتضمن لنفسك صداقة آمنة لا تجلب عليك المتاعب، بل وتضمن لك السعادة بين قلبك وقلوب الآخرين.►

 

المصدر: كتاب شخصيتك بين يديك

ارسال التعليق

Top