يقول العزيز الحكيم في كتابه الكريم: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ* أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة/ 155-157). ويقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد». لا يختلف اثنان من الناس حول أهمية الصبر في حياة الإنسان لاجتياز الحواجز والموانع وتحقيق النجاحات والانتصارات وانجاز الأهداف والسيطرة على الغرائز والشهوات. يعتبر الصبر من الصفات ذات الأهمية البالغة لمن يحملون هموم المبادئ والرسالات والمظلومين من الناس ولهذا كان بالنسبة للإيمان كالرأس بالنسبة إلى الجسد والرأس عندما يفصل عن الجسد لا تبقى فيه حياة وكذلك عندما يفقد الإنسان الصبر لا يبقى لإيمانه وجود، ذلك انّ الصبر ضرورة ماسة وحاجة ملحة وسلاح لابدّ منه لكلّ حالات وأوضاع الإنسان. ونستطيع أن نعرف ذلك من خلال التقسيم النبوي للصبر حيث يقول: «الصبر ثلاثة: صبر على الطاعة، صبر على المعصية، وصبر عند المصيبة». وهل حياة الإنسان إلّا في واحدة من هذه الحالات، فالحياة الإنسانية لا تخلو من هذه الأوضاع الثلاثة: فهي إمّا مصيبة وبلاء، وإمّا طاعة لله.. سواء كانت على مستوى الواجب أم المستحب وإمّا معصية وتمرد وكلّ ذلك يتطلب الصبر.
ما هو الصبر؟ ما هو معناه؟
الصبر: حبس النفس عن الجزع عند المكروه، وهو يمنع الباطن من الاضطراب، واللسان عن الشكاية، والأعضاء عن الحركات غير المعتادة. إنّه الصخرة التي تتحطم عليها كافة المصائب التي تواجه الإنسان في حياته.
رماني الدهر بالأرزاء حتى *** فؤادي في غشاء من نبال
فصرت إذا أصابتني سهام *** تكسرت النصال على النصال
وهي طبيعية لأنّه لا توجد حياة بدون مصائب وآلام وأكدار:
ومكلف الأيام ضد طباعها *** متطلب في الماء جذوة نار
يعتبر الصبر أيضاً عدة الإنسان المؤمن وهو يسير على طريق الطاعة، فبدون هذه العدة لا يتمكن من مواصلة السير والصبر سلاحه كذلك وهو يبتعد عن المعاصي لأنّه عندما يفتقد هذا السلاح سيقترب منها بعد أن فقد روح المقاومة وقدرة الاحتمال. والسيول حينما لا تجد أمامها العوائق والحواجز فإنّها تغمر المنطقة بالطوفان وتعرض أهلها لخطر الدمار وهكذا المعاصي عندما تجد الطريق أمام الشخصية سالكاً فإنّها تغمر الوجود الإنساني حتى تعرضه لخطر الهلاك. هذا هو الصبر بمفهوم الإسلام إنّه يستوعب ويغطي كافة الأوضاع الإنسانية (المصائب) و(الطاعات) و(المعاصي) ولا يقتصر على حالة دون حالة. إنّ الصبر صفة إيجابية فاعلة على طريق العمل والنشاط بكافة ألوانه ومن هنا يظهر خطأ المفهوم الذي يحمله البعض عن الصبر حيث يتوهمون إنّه القعود والانسحاب والقبول بالأمر الواقع وعدم محاولة تغييره. والصبر بمفهومه الإسلامي الإيجابي له صلة وثيقة بالصوم إذ إنّ الإنسان الصائم فرداً أم مجتمعاً عندما يمتنع عن أقرب الضرورات إلى نفسه من أكل وشرب وجماع وغيرها وهي بين يديه لا تتطلب جهداً ومشقة فإنّ هذا الامتناع والكف يولّد لديه بالممارسة العملية قوة الاحتمال والصبر وهذه الضرورات تبقى تلح على الإنسان الصائم خلال شهر كامل وهو لا يستجيب لها ويقول لها بلسان الحال: لا، وعندما تترسخ وتثبت حالة الرفض والامتناع والكف تتولد الإرادة القوية ويظهر الصبر وهو «يظهر ما في بواطن العباد من النور والصفاء» كما يقول الإمام جعفر الصادق (علیه السلام).
نستطيع أن ندرك استهداف الإسلام لإيجاد حالة الرفض وتسليح الإنسان بسلاح الصبر من خلال عدة أمور منها: وضع الصيام في قائمة الواجبات ولا يكون الشيء واجباً حتى يكون من الضرورة واللزوم ما لا يمكن الإستغناء عنه. ومنها إنّ هذا الواجب كان واجباً على مدار الأجيال كافة ولم يقتصر على جيل دون آخر. ومنها الحثّ الشديد على الصيام في كافة أيام السنة خصوصاً شهري رجب وشعبان. ومن الأمور التي نستكشف منها حرص المنهج الإلهي على تقوية الإرادة لدى خليفة الله في الأرض هو عدم إعفاءه من الصيام في حالة ما إذا سافر في شهر رمضان أو وقع في مرض مانع وشفى منه فانّه يقضي ما فاته وأمّا إذا أقدم الإنسان على الإفطار متعمداً حتى لو كان الإفطار بشيء غير معتاد فعليه القضاء والكفارة. والأخيرة يكون أحد خصالها صيام شهرين متتابعين وهذا يعني تقوية روح المقاومة للضرورات عند المتعمد على الإفطار ليكون أقوى على الصمود أمام شهوته. إنّ «الصبر» و«قوة الإرادة» يعتبر العائد الثاني من الصوم بعد «تقوى الله» وعندما يمتزج الصبر بتقوى الله يكون صبراً بعيداً عن اليبس والجفاف: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا) (آل عمران/ 120). إنّ المدرسة الإسلامية تدعو إلى إنجاز الأهداف ببذل الجهد والصبر من الإنسان مع الاستعانة بالله والتوكُّل عليه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة/ 153).
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق