• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

كيف نحافظ على هُويتنا؟

أسرة البلاغ

كيف نحافظ على هُويتنا؟
◄لابدّ في البداية من التأكيد أنّ ما نحتاج إليه فعلاً ليس هو استرداد الهُويّة الضائعة، وإنّما المحافظة على سلامة الهُويّة من الانحراف والتحريف، فهُويّتنا الإسلاميّة ليست مفقودة وعلينا أن نفتِّش عنها، وإنّما هي مريضة تُعاني من أزمة صحيّة، ومن صدأ متراكم عليها يُمكن إزاحته لا على مقدار ما نفهم هذه الهُويّة ونحبها، ونتعلَّق بها، ونعتز بها فقط، وإنّما من خلال شعور حقيقي نفهم أنّها سبب عزّتنا أيضاً.

وسُبُل الحفاظ على الهُويّة كثيرة، أفاض فيها الباحثون والدارسون والحريصون على نقائها أو بقائها (فاعلةً) (متفاعلةً) سواء من خلال (الخطاب الدِّيني المعتدل والمراعي لخصوصيّات الزمان والمكان والشرائح المخاطبة) أو من خلال إعادة الاعتبار لدور الأُسرة كواضع لحجر أساس الهُويّة، أو إلى الانتقال بالمناهج التعليميّة الدِّينيّة من (التلقين) إلى (التفاعل) ومن (السرد) إلى (طرح الأسئلة والإجابة عنها) والاستماع إلى ما يدور في الأذهان من إشكالات والردّ عليها، وإلى عدم التسليم المطلق لما يقوله الإعلام بكلِّ وسائله المرئيّة والمسموعة والمقروءة والجامعة. فهو بين (مُغرض) ومتعمِّد للإساءة والإثارة والاستفزاز، وآخر (متعصِّب) للفئة والطائفة والمحور السياسي الذي ينتمي إليه ولا يرى الحياة إلّا في شبّاكها الضيِّق، وآخر يُلبس الثقافة الإسلاميّة ثياب التغرُّب لنحسبها من الإسلام، وما هي منه، وآخر يخلط الحقيقة بالزيف.. وآخر وآخر، حتى يندر أن تجد إعلاماً محايداً أو منصفاً يقول الحقيقة كما هي أو كما يجب أن تُعرض وتُقال، ولذلك فمن سبل المحافظة على الهُويّة تربية مَلكة النقد عند الشباب المسلم، فلا يكون المتلقِّي السلبيّ المذعن لكلِّ ما يُعرض من (صُوَر) وما يُقال من (كلمات).

ومن سبل المحافظة الجادّة على هُويّتنا هو أن نتعرّف على قرآننا أكثر، لا من خلال قراءته المجرّدة فقط، بل من خلال التمعّن والتفكُّر في دروسه وتعاليمه وقوانينه وتطبيقاته الحياتيّة، وعرض أسئلتنا عليه ليجيبنا عنها، وبالتلازم فإننا نحتاج إلى الإهتمام باللّغة العربيّة لأنّها سبيل مهم من سُبل فهم القرآن وأدبيّات أو منابع الثقافة الإسلاميّة الأخرى، ومطلوب أيضاً أن نعيد قراءة تأريخنا قراءةً محايدةً، سواء بعرض وقائعه على مفاهيم القرآن والسنّة المطهّرة، أو من خلال القراءة الناقدة المقارنة بين حوادثه ورواته، كما نحتاج بالتوازي أيضاً إلى أن ينصب إهتمامنا على صيانة المعالم والرموز التأريخيّة وعدم التفريط بها، فكم طُمست واندثرت معالم مهمّه كان يمكن أن تُشكِّل باعثاً على الارتباط الروحي مع مواقع وأماكن لا تمثِّل الجغرافيا فقط، وإنّما تستثير في ذهن زائرها والمتأمُّل فيها تأريخاً حافلاً بمشاهد الفخر والاعتزاز فننتهل منها بعض حماستنا الدِّينيّة، أو بما تذكّرنا به من مشاهد الذل والانكسار والتردِّي، فلا نعيد مأساتها، (ناهيك عن الأزمات) و(في ردود الأفعال على العدوان والإساءات) وفي الدّعوة بعض الحاملين لها اسماً لا ممارسةً.

عن سؤال: لماذا: أسلمنا[1]؟!

فمن مظاهر الاعتزاز بالهُويّة عند بعض الشعوب هو اهتمامها بزيّها الوطني والأزياء التراثية تقديراً لأبنائها انّها تمثِّل عراقة المجتمع وأصالته وحضارته وأنماط حياته (تأمّل في انشداد الهنود والباكستانيين والأسكتلنديين، والخليجيين، والأكراد، والسنغاليين والموريتانيين والمغاربة بأزيائهم) وما يهمّنا هنا القول. ألا يدعو المرأة المسلمة ذلك إلى الاعتزاز بسترها الشرعي حتى في الأوساط التي لا يمثِّل هذا الزيّ عندها قيمة بذاته. ألم تُمنع بعض الفتيات في المدارس الغربيّة من ارتداء غطاء الرأس على اعتباره رمزاً دينيّاً؟ فلماذا تمسّك البعض بزيّه الوطني معتبراً إيّاه دليلاً على الانتماء ولا نتمسّك كمسلمين بأزيائنا كدليل على انتمائنا لهُويّة معيّنة؟!

ومثل ذلك يقال عن اعتزاز الشعوب والأُمم بأعياد اخترعوها وابتدعوها، وقد يبدو بعضها تافهاً وسخيفاً، لكنّهم يصرّون على ممارسته وإحيائه والاحتفال به كلّ عام، كالاحتفال بعيد شمّ النسيم، وعيد النيروز، وعيد الطماطم (التوماتينا) الذي يُحتفَل به منذ أكثر من ستين عاماً، وهو تراشق بالطماطم ليس إلّا، وعيد الحُبّ الحسِّي (فلنتاين).. والأعياد التي ابتدعها النّاس بعد ذلك كثيرة لا نريد الخوض في تسمياتها وتفاصيلها، ولا تقييم ما لها وما عليها، لكنّ ذلك يدعونا إلى مراجعة أعيادنا الإسلاميّة، لنرى كم فيها من معالم الفرح الروحي التي لا تجد في أعياد الدنيا كلّها.. إنّها ملمح من ملامح هُويّتنا التي تدعونا إلى الاعتزاز بمظاهر البهجة من خلال الفرحة بالقرب من الله أكثر سواء من خلال التزاور أو التسامح أو رعاية الأيتام والأرامل ومساعدة المعوزين.. إنّه عيد الخير والبركة والتواصل.

وقل الشيء نفسه عن اعتزاز الشعوب بمعابدها وآثارها ومزاراتها الدِّينيّة التي يقصدها الحجيج من كلِّ مكان للتقرُّب إلى أصنام وأوثان وممارسة طقوس عجيبة غريبة ما أنزل الله بها من سلطان، وبين أيدي المسلمين من أماكن العبادة ما تسمو بالروح في أجواء الصفاء. ومن الطقوس العباديّة ما يقوّي أواصر المسلم بأخيه المسلم وبأُمّته الإسلاميّة، وبما يبني شخصيّة المسلم ويرفع من معنوياته. (ولسنا في صدد الحديث عن المبتدعات من شعائر غريبة ودخيلة على ديننا يأباها العقل والذوق السّليمان).►

 

[1]- ممّا يؤكِّد ثقتنا أنّ الهُويّة الإسلاميّة صبغة في الوجدان ليست دهاناً على الجدران، إنّ مَن يُسمّى بـ(مؤسس تركية الحديثة) (مصطفى كمال أتاتورك) حاول أن يمسخ هذه الهُويّة وأن يطرد كلِّ ما يرتبط بها، لكنّ جذورها الممتدّة في العمق بقيت راسخة حتى أطلت على الحياة من جديد، وإذا المسلمون الأتراك اليوم أشدّ اعتزازاً بهُويّتهم الإسلاميّة من أيّ وقتٍ مضى!.

ارسال التعليق

Top