• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

كيف يصبح الإيمان في حياة المجتمع سلوكاً؟

كيف يصبح الإيمان في حياة المجتمع سلوكاً؟

◄مَن يتدبّر آيات القرآن الكريم، يلاحظ بوضوح تامّ أنّه ما من آية وردت عن الإيمان إلّا وقرنته بالعمل، ولهذا وجدنا قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، فالإيمان كما يقول العلماء، «اعتقاد في القلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح»، وأيّ ركن من هذه الأركان الثلاثة يفتقد في حياة الإنسان، فهذا يعني أنّه يفتقد ركناً أساسياً من إيمانه.

وليس المقصود بالإيمان العبادات فقط، أو الأركان الخمسة، وإنّما المقصود أن يتحوّل الإيمان إلى منهج كامل متكامل، ينعكس نوره على كلّ تصرّفات الإنسان وأقواله وأخلاقه فالإيمان الحقّ هو الذي يصبح ميزاناً يزن به المسلم سائر أُموره، فلا يقدم على عمل ولا قول، إلّا بعد خضوعه لهذا الميزان، وبالتالي، يصبح الإيمان كتلةً متّحدة مع نفس الإنسان لا منفصلة عنها.

ولنا في رسول الله (ص) أُسوة حسنة، وهو الذي قالت عنه السيِّدة عائشة: «كان قرآناً يمشي».

فالإيمان المرتبط بالعمل، هو عنوان الإنسان المسلم. وأيّ اختلال في هذا الميزان الدقيق، لا ينعكس سلباً على الإنسان فحسب، وإنّما على المسلمين وعلى المجتمع كلّه.

كيف يصبح الإيمان سلوكاً في حياتنا؟

الإجابة في التحقيق التالي:

القاضي الشيخ أحمد درويش الكردي علّق قائلاً: «إنّ الإسلام دين منهاج عملي وحياتي، وليس أقوالاً تردّد بين الحين والآخر، لأنّ الإسلام جمع بين المادّة والروح، فالإنسان المسلم له صلة بربّه وله صلة بالناس، ومن هنا، يجب على المسلم أن يطبّق أحكام الإسلام في حياته، لتكون منهجاً حياتياً يداوم عليه كلّ أفراد المجتمع، وقد حثّ (ص) على الأخلاق والقيم والمبادئ».

وتابع الشيخ الكري قائلاً: «فالمسلمون اليوم ضيَّعوا الأمانة بكلّ معناها وبكلّ صُورها، ونحن بحاجة إلى الأمانة في الأقوال والأفعال وسائر العلاقات العامّة. وهنا نقول إنّ الأُسرة والمدرسة لهما دور فعّال في تحقيق هذه الأخلاق والقيم والمبادئ عند أبناء هذا الجيل». وأضاف: «إنّ المسلمين اليوم قد ضاعت منهم هذه الأخلاق وهذه المبادئ، وعلينا جميعاً، بدءاً بالعلماء والمراجع الدينية، إعادة الناس إلى الدِّين وأخلاق الدِّين، لأنّ القضية ليست صلاة وصياماً فقط، بل هي سلوك وأخلاق وقيم يجب أن يتحلّى بها الإنسان المصلّي الصائم، حتى لا تكون هذه العبادات حجّةً عليه».

وأشار إلى أنّ للعلماء دوراً كبيراً في نشر هذه الفضائل في المجتمع إذا ما تحلّوا بها أوّلاً وقبل الناس، فلا يليق بالعلماء أن يقع منهم كذب أو سوء أمانة أو غشّ أو خداع، لأنّهم سيكونون ممّن ينطبق عليهم قول الله تعالى: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) (البقرة/ 44).

 القاضي الشيخ زكريا غندور قال: «كم نحتاج في هذه الأيّام إلى جعل الإيمان حقيقة وليس مجرّد نظريات كما هو عند الكثير من الناس. الإيمان حقيقة، إذا لم تنقلب إلى تطبيق في حياة المسلم، بدءاً بعلاقته مع ربّه، إلى علاقته مع المجتمع، إلى علاقته مع نفسه، كان مجرّد نفاق، لأنّ المنافق يقول بلسانه ما ليس بقلبه، وهذا ما يقوله القرآن الكريم في مقدَّمة سورة البقرة: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) (البقرة/ 8)».

وأشار إلى أنّ دور الأهل، إضافةً إلى المسؤولين السياسيّين والدينيّين، أن يتعاونوا لتصويب علاقة الإنسان مع ربّه ومع المجتمع، فيكون المسلم نموذجاً طيِّباً بأخلاقه وإيمانه ومعاملاته.

الشيخ د. أحمد فارس قال: «الإيمان هو ما وقر في القلب وصدّقه العمل، وهو الإيمان بالله تعالى، والتصديق بكلّ ما أرسل من رُسُل، وأنزل من كُتُب، وسخَّر من ملك، وبكلّ ما قدّر وقضى، والآية القرآنية الكريمة تقول: (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) (البقرة/ 285)، وقال الرسول (ص): (إنّ الله يعطى الدُّنيا لمن يحبّ ولمن لا يحبّ، ولكنّه لا يعطي الدِّين إلّا لمن يحبّ، فمن أعطاه الله الدِّين فقد أحبّه)».

ولفت فارس إلى أنّ للأهل دوراً كبيراً في غرس الإيمان في قلوب الصغار الذين يتبعون أصلهم في عاداتهم ولغتهم وتقاليدهم وأخلاقهم، فعندما تكون المدرسة الأُولى، وهي الأُسرة، تتمتّع بالإيمان والخُلق القويم، ينعكس ذلك إيجاباً على الناشئة، ولابدّ للأهل من أن يكونوا قدوةً حسنة وأُسوة طيِّبة للناشئة، وبذلك، إن غرسنا الإيمان في قلب الأولاد ودرّبناهم على ذلك، فكنّا أُسوة حسنة لهم، نشأوا في شجرة طيِّبة التي أصلها في الأرض وفرعها في السماء.

أمّا الدُّعاة، فلهم دور أساس في التربية والتعليم وغرس الأخلاق الطيِّبة.. فإن شعروا بأنّهم يؤدِّون أهمّ رسالة بالتربية والتعليم، يكونوا قد أعدّوا واجبهم تجاه النشء، ويجب أن يكونوا أيضاً أُسوة حسنة، كما أنّنا نقتدي برسولنا (ص)، حيث قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ) (الأحزاب/ 21).

وتعليق..

الإيمان هو فعل وسلوك في الحياة، وليس مجرّد مشاعر وعواطف يعيشها المرء في دائرة ذاته، بل ينبغي أن ينعكس على الواقع بما يحفظ توازنه واستقراره، وبما يرضي الله ويقرّب منه. لذا نفتقد اليوم إلى الأخلاق العملية في كلّ معاملاتنا وعلاقاتنا التي يسيطر على كثير منها التفكير المادّي والحسابات الضيِّقة التي تبعد الإنسان عن أصالته، وتزيده غربة وانقطاعاً عن شخصيّته الإيمانية التي تمارس الإيمان قولاً وعملاً، وتعيشه في كلّ حركاتها وسكناتها، لتعطي الحياة غنىً وتنوّعاً.

وعن مفهوم الإيمان وحركيّته في الحياة، جاء في بعض الأحاديث، أنّ الإيمان ينقسم إلى مستقرّ ومستودع، ومن ذلك، ما رُوِي عن الإمام عليّ (ع): «فمن الإيمان ما يكون ثابتاً مستقرّاً في القلوب، ومنه ما يكون عواري بين القلوب والصُّدور إلى أجَلٍ معلوم، فإذا كانت لكم براءة من أحد فقفوه»، يعني: لا تستعجلوا في الحكم عليه، «حتى يحضره الموت، فعند ذلك يقع حدُّ البراءة». في هذه الكلمة، يؤكِّد الإمام عليّ (ع)، أنّ هناك إيماناً عندما يدخل كيان الإنسان، فإنّه يتعمّق حتى يستقرّ في جذور الكيان الإنساني، بحيث يصبح جزءاً من ذات الإنسان، فيتجسّد فكرةً في العقل، وعاطفةً في القلب، وحركةً في الواقع، ذلك أنّ العقل ينطلق ليؤصِّل معرفته بإيمانه من خلال المعادلات التي يقتنع بها، ممّا يقترب من المعادلة الرياضية التي تلتقي بالبداهة.

وربّما بسبب ذلك، نجد بعض الناس يبدأون مؤمنين، ولكنّهم ينتهون كافرين، باعتبار أنّ الإيمان لم يدخل في ذاتهم، بحيث يتحوّل إلى جوهرة فيها، أو إلى حالة صلبة حديدية، بل يبقى شيئاً طارئاً، فإذا جاءته هزّة هنا، وهزّة هناك، وشُبهة من هنا، وشُبهة من هناك، سقط الإيمان، كأيّ شيء مستعار ليس له ثبات. وهذا ما يقوله الإمام عليّ (ع) في حديثه، أن لا تحكموا على أيّ إنسان بالبراءة إلى أن يحضره الموت، فإذا بقي إيمانه إلى حين أجله، فاعرفوا أنّ إيمانه مستقرّ، فإذا زال إيمانه قبل الموت، فاعرفوا أنّه إيمان مستعار. 

وفي حديث الإمام الصادق (ع) في بيان المستقرّ والمستودع، يقول: «فالمستقرّ الإيمان الثابت، والمستودع المعار».

هنا الإمام الصادق (ع) يركِّز على الجانب العملي؛ لأنّ الإنسان يمثِّل وحدة متكاملة، وليس عنصراً قابلاً للتقسيم، كأن يقول البعض في الإنسان مثلاً، إنّ فيه الجانب العاطفي، والجانب العقلي، والجانب العملي، فهذا لا يمثِّل انقساماً في الذات، ولكنّه يمثِّل أبعاداً لها؛ لأنّ الجوهر الإنساني، يمثِّل قوّة واحدة، هذه القوّة يتزاوج فيها العقل مع العاطفة، ويمتدّ في الحركة، ولذا نعبّر عن الداخل الإنساني بمنطقة الوعي الداخلي، التي يتداخل فيها العقل في حركته، مع الفكر والإحساس والشعور، فالإحساس ليس مجرّد نبضة قلب، بل هو الوعي في إيحاءات الجسد والوعي للأشياء. وهذا ما نلاحظه في القرآن الكريم، الذي يتحدّث عن كثير من حقائق الإيمان بأسلوب عاطفي تارة، وأسلوب عقلي تارة أُخرى، ويمزج بين العاطفة والعقل في كثير من وسائله وأساليبه. ولهذا نقول، إنّ ممارسة الإنسان وحركيّته قد تؤثِّر في ذهنيّته.

ولذلك، فالالتزام يقوّي إيمان الإنسان المؤمن؛ لأنّ الإيمان هو فكرة وقول وعمل، بينما عدم الالتزام يخرج الإنسان من إيمانه، أو يضعفه.

 ويؤكِّد الإمام الصادق (ع)، في ما ذكره في بعض المفردات في علاقة الإيمان بالعمل، يؤكِّد هذه القاعدة، فيقول (ع): «لا يثبت له الإيمان إلّا بالعمل، والعمل منه»؛ لأنّ الإيمان ليس مجرّد فكرة في العقل، ونبضة في القلب، ولكنّه خطّ عملي لابدّ للإنسان من أن يأخذ به، فالعمل جزء من الإيمان، وليس مجرّد مظهر للإيمان فيما هي المظاهر التي ترتبط بالشكل أكثر من ارتباطها بالجوهر.

وعن الإمام الصادق (ع) يقول: «إنّ اللهَ جبل النبيّين على نبوّتهم»، أي أنّه ركَّز في نفوسهم المعرفة والقيم، وركَّز في حياتهم الاستقامة، وجعل كلّ هذه العناصر التي تجمعها العصمة في الفكر، والعصمة في العاطفة، والعصمة في الحركة والحياة، جعلها متلازمة، «فلا يرتدّون أبداً»، أي لا ينفصلون عنها ولا يرجعون عنها أبداً، «وجبل الأوصياء على وصاياهم، فلا يرتدّون أبداً»، لأنّ دور الوصي هو الدور العملي في خطّ النبوّة، فهم ليسوا أنبياء، ولكنّهم يكملون مسيرة الأنبياء، ويصلحون ما أخطأ الناس في ما تركه الأنبياء.

وعنه (ص): «ثلاث مَن فعلهنّ فقد طعِم طعم الإيمان: مَن عبدَ الله وحده، وأنّه لا إله إلّا الله»، وتلك هي دعوة الأنبياء، «وأعطى زكاة ماله طيِّبةً بها نفسه»، بحيث إنّه عندما رأى أنّ اللهَ سبحانه وتعالى كلّفه بالزكاة، فإنّه يعطيها قربة إلى اللهِ تعالى، ومحبّة له تعالى، ورضى بما عنده، على أساس أنّ اللهَ هو الذي رزقه، «وزكّى نفسه»، أي طهَّر نفسه ونمّاها وجعلها زاكية طاهرة، تتّصل باللهِ تعالى وترتبط به.

وعنه (ص): «ذاق طعم الإيمان من رَضِي باللهِ ربّاً، وبالإسلام ديناً، وبمحمّد رسولاً»، وهو الذي التزم التزاماً عميقاً بالإسلام، وأنّ ربّه هو الله، وأنّ محمّداً رسول الله، وأنّ الإسلام هو دينه الذي يلتزم به، والذي يعيشه في كلّ حياته.►

ارسال التعليق

Top