• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

لماذا نكره مَن يعطينا؟

تأليف: جابرييل روبن، إعداد: د. هدى مقنص

لماذا نكره مَن يعطينا؟

◄لماذا يشعر البعض بأن كلّ شيء يجب أن يُعطى لهم من دون مقابل؟ ولماذا يعيش آخرون كما لو أنهم يدينون بكل شيء للآخرين إلى الأبد؟ سواء أكانت ديناً مادياً أو معنوياً، فإنّ المنحة أو الهدية تخلق ديناً يجب أن يوفى به، وحين لا يتمّ الوفاء بالدين تبدأ المشاكل، وقد لا يكون أكثر المتضررين هو مَن نظن...

الهبة تولد ديناً على الدوام وكل دين يجب أن يوفى به تحت طائلة وقوع أضرار مادية أو نفسية خطيرة أحياناً. إنّ هذه الطريقة بالنظر إلى الأُمور مقبولة وشروطها مطبقة ومحترمة في جميع أنحاء العالم. على الرغم من أنّ التبادل هو نمط العلاقة الطبيعي بين الكبار، نحن نقبل بصعوبة الفكرة القائلة بأنّ التلقي الدائم من دون رد مقابل يحمل معه مخاطر قد تكون هدّامة.

كل الأبحاث التي أجريت في علم الإثنولوجيا، كما في علم النفس، تشير بوضوح إلى أنّ العطاء أو الهبة لا يمكن أن تحدث من دون مقابل حتى لو أراد الواهب والمستفيد هذا الأمر بصدق، هذا لأنّ الدين سيتم دفعه في كل الحالات ولو بواسطة سلوك غير واع وغير مناسب من جانب المتلقي.

ويحدث هذا الأمر حين يكبت المتلقي ذكرى الهبة التي أعطيت له، سواء أكانت مادية أو معنوية. لكن هذا "النسيان" هو نوع من خداع النفس، إلّا إذا كان المتلقي من النوع الذي يعيش شعوراً بالعظمة ويعتبر أنّ كل شيء واجب له. أمّا في باقي الحالات، فإنّ ذكرى الدين التي تجعل المتلقي في مرتبة أدنى ستظل موجودة، من دون أن يشعر، في ذهنه وستثير اضطرابات جمّة في اقتصاده النرجسي.

تردُّ المجموعات بطريقة مشابهة جداً لرد الأفراد في ما يتعلق بالدين، مع فارق مهم وهو أنّ الآلية تظل في المجموعات ضمن نطاق الوعي الكامل. وقد قاد علماء الإثنولوجيا، وأوّلهم مارسيل موس وتلامذته، أبحاثاً حول الهدية والدين وكذلك حول الإلزامية التي تفرضها قواعد العادات والتي تحترم حرفياً في كل مكان والتي تنص على أن نرد بقدر ما تلقّينا. أمّا الآليات التي أُقيمت حتى يتم احترام هذه القواعد فهي تخص المجموعات أو القبائل وحتى لو كان الرئيس هو المعني بها، فهو ليس كذلك في شخصه ولكن كممثل لقبيلته أو لمجموعته.

وفي المقابل، فإنّ فرض الوفاء بالديون النفسية بين الأفراد لا يخضع لآليات تحكمه وليس مقونناً ولكن كل مَن درس ما يؤول عليه مستقبل الهبة النفسية في حياة الأفراد قد لاحظ أنّ عدم احترام مقابلة الهدية بهدية أخرى يجر على الأفراد، هم أيضاً، نتائج قد تكون أحياناً دراماتيكية. وغالباً ما يكون عدم الوفاء بالدين ناجماً عن "تجاهله"، إذ يكبت المتلقي ذكراه أو يقلل من أهمية الهبة.

كل واحد منّا يستنكر بشكل فطري أي موقف ينم عن عدم الإعتراف بالجميل، أي رفض الإعتراف بأنّك تدين لشخص آخر بمعروف ما سواء أكان مادياً أو نفسياً، ونتخذ بالتالي موقفاً صارماً نحو المتلقي العاق.

لقد بَيَّن علماء الإثنولوجيا أنّ فرض ردّ الدين الإجتماعي ليس عادة فولكلورية تمارسها إثنيات نادرة وقديمة، بل هو على العكس فرض عالمي. وحين تكون عادة ما محترمة في كل مكان، يحق لنا أن نُفكِّر أنّ مصدرها موجود في كل كائن بشري وأن فرض ردّ المقابل ضرورة عميقة وواجب نفسي داخلي لا مفر منه، موجود لدى كل فرد، حتى لو كان يتجاهله أو ينكره، وهو يجبره على ردّ الهبة التي تلقّاها.

ويجدر التذكير مجدداً بأنّ الدين غير المعترف به هو وحده الذي يُشكِّل خطراً، لأنّ الدين المعترف به والمردود إلى صاحبه لا يجر أي نتيجة سيِّئة لا على الجماعات ولا على الأفراد، بل على العكس، هو يوطد صلات الصداقة أو الحب التي كانت وراء الهبة.

وإنها بالتحديد، هذه الرغبة في التماسك الإجتماعي هي التي تُفسِّر جزئياً، على ما يبدو لي، وجود شعائر تبادل الهبات. وهذه الضرورة التي لوحظت في كل الأمكنة، ضرورة ردّ الدين الإرادي وأحياناً اللاإرادي، يمكن أن تعتبر مكوناً أساسياً من مكونات الإنسانية.

ولكن، كما في كل تبادل تشوبه نزاعات، تكون المسؤوليات مشتركة وحاضرة لدى الطرفين، حتى لو لم تكن بالضرورة متساوية من حيث شحنتها الإندفاعية لكنها موجودة لدى طرفي النزاع. وقد تحدّثنا حتى الآن عن الجزء الذي يسأل عنه المتلقي وسنقارب الآن ذاك الذي يرجع إلى الواهب في عدم الإعتراف بجميله، سواء ضاءل من هذا الجميل أم ضخمه.

إنّ فرويد هو مَن لفت إنتباهنا إلى أنّ نمطاً معيناً من الواهبين هو الذي يعاني من نكران الجميل لدى المتلقي ويمكن أن نرى في الحقيقة أنّ ثمة أشخاص يعانون دائماً من هذا النوع من الجحود من قبل الآخرين.

ويذكر فرويد، على سبيل المثال، هؤلاء "الأشخاص الذين تتجه علاقاتهم الإنسانية نحو النتيجة ذاتها على الدوام: هم يحسنون إلى كل مَن يقع تحت حمايتهم، مهما كانوا مختلفين، في حين أنّ هؤلاء يهجرونهم بعد زمن حاملين تجاههم نوعاً من الحقد، كما أنه قد كتب على هؤلاء الواهبين أن يشربوا من مرّ الجحود حتى الثمالة. هم أشخاص تنتهي كل صداقاتهم بخيانة الصديق، ومغرمون تمر قصص الغرام لديهم بنفس المراحل لتنتهي بالنهاية ذاتها، إلخ".

يربط فرويد هذا النوع من المصائب بما أسماه "عصاب القدرية" وقد اعتبر أنّ وجوده خاضع لنوع من الحذر، ويصفه في كتابه (معجم التحليل النفسي) بالقول: "إنها أحداث يبدو الفرد خاضعاً لها كما لو أنها قدر خارجي في حين يجدر به، بحسب التحليل النفسي، أن يبحث عن أسبابها في اللاوعي وبشكل خاص في إلزامية التكرار".

بيد أنّ سلسلة المصائب العاطفية هذه لا يمكن بالطبع أن تكون نتيجة الصدفة أو سوء الحظ، وفي كثير من الأحيان يجب أن تنسب إلى حالة مازوخية لدى فاعل الخير، وهذه الحالة التي تُسبِّب لدى المستفيد موقفاً سادياً قوامه عدم الإعتراف بما تلقاه. أمّا الآلية اللاواعية التي تقف على أساس هذا النوع من السلوك لدى الواهب، فهي تنجم عن عوامل عديدة وأكثرها أهمية هو قلة تقدير الذات التي يحملها تجاه نفسه، فهو على قناعة أنه لا يساوي شيئاً ولا يستحق شيئاً فيقلل من قيمة عطاياه ويصير عاجزاً عن قبول "الهدية" التي يودّ المتلقي أن يُقدِّمها له في مقابل ما تلقاه منه. حينذاك يتبنّى موقفاً رافضاً غير واع ما يجبر المتلقي على أن يظل مديناً له، لذا يعمل على التخلص من هذا الفرض المزعج ناكراً الهبة التي تلقاها.

إنّ سلوكاً من هذا النوع، بقدر ما هو مؤلم للواهب الذي يشعر أنه يتعرّض للتخلي والخيانة، يقدم له في المقابل تعويضات نرجسية كبيرة: من ناحية، هو يشعر أنه يتحلى بطيبة قلب كبيرة، لأنه لا ينتقم بالطبع أبداً ولا يسمح لنفسه كذلك بأن يوجه أي لوم. ومن ناحية أخرى، يظل شعوره بالتفوُّق على المتلقي، وهو شعور مكبوت بعمق، كاملاً غير منقوص.

يُضاف إلى هذا فانتزم القوّة المصلحة الذي تذكره ميلاني كلاين حين تكتب قائلة: "فانتزمات الإصلاح تشكل، في أدقّ التفاصيل، نقيض الفانتزمات السادية: ففي مقابل الشعور بالقوّة المطلقة ثمة شعور بالقوّة المصلحة".

عند دراسة هذه الأنماط من السلوك، نكتشف كذلك أنواعاً أخرى من مشاعر الرضى النرجسية الفرعية، كالقدرة مثلاً على إيجاد شيء رائع في النفس، فعند تطبيق نصيحة "إدارة الخد الأيسر لمن يصفعك على الخد الأيمن"، يتلذذ الواهب بشعور الرضى عن نفسه لأنه جزء من "معسكر الخير" وأنه يضحي بنفسه أو على الأقل يقبل بأن يضحي بنفسه.

في الواقع، يُسبِّب الواهب، من دون أن يعلم، عذاباً للمتلقي لأن هذا الأخير، حين يرى أنّ هديته تظل مرفوضة، يستمر في الإحساس بأنه مدين وبأنه بالتالي في مرتبة أقل من الواهب.

وحين يتعلق الأمر بطفل، عندما نُقدِّم له الإمكانية أو نحثّه على ردّ الهدية التي تلقّاها، نعلمه متعة العطاء ونُجِّنبه التحوُّل إلى كائن عاجز عن الإعتراف بالجميل.►

ارسال التعليق

Top