• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

مراتب حضور القلب في العبادة والمعبود

مراتب حضور القلب في العبادة والمعبود
يقول أهل المعرفة: العبادات بأسرها، ثناء للمعبود، ولكن كل منها ثناء للحق سبحانه بواسطة نعت من النعوت واسم من الأسماء، إلا الصلاة فإنها ثناء للحق سبحانه مع جميع الأسماء والصفات. فكما نعرف أن ثناء المعبود والخضوع للكامل والجميل والمنعم والعظيم المطلق، من الفطرة التي جُبل عليها جميع الناس، وباعتبار أنّ الثناء متوقف على معرفة الذات والصفات للمنعم من جهة، ومن جهة أخرى فإن كيفية ارتباط عالم الغيب بعالم الشهادة، وعالم الشهادة بعالم الغيب غير متيسر لأي شخص إلا عن طريق الوحي والإلهام الإلهي، صارت العبادات بشكل عام توقيفية، وبيد الحق تعالى، ولا يحق لأحد أن يشرع من عنده، ويبتدع عبادة على مزاجه، ولا يمكن قياس التواضع والخضوع المعهود أمام السلاطين والزعماء بما ينبغي أمام عظمة ساحة قدس رب العالمين. بعد أن عرفنا هذا، يمكننا أن نفهم مراتب حضور القلب، حيث إنّه ينقسم بصورة عامة إلى قسمين مهمين:   الأوّل – حضور القلب في العبادة: إنّ حضور القلب في العبادة له مراتب، عمدتها وأساسها مرتبتان اثنتان: إحداهما: حضور القلب في العبادة إجمالاً، فالإنسان لدى إنجازه لعبادة مهما كانت هذه العبادة، كالوضوء أو الصلاة أو الصيام أو الحج... يعرف إجمالاً انّه يثني على المعبود، رغم عدم معرفته بتفاصيل هذا الثناء، أو أي اسم من أسماء الحق يدعو. كما لو أن شخصاً ينظم قصيدة في مدح أحد ثم يعطيها لطفل ليلقيها أمام الممدوح، فعندما يقرأ الطفل هذه القصيدة، يعلم إجمالاً أنّه يثني على الممدوح رغم جهله لكيفية ثنائه عليه ولمعاني الكلمات التي يتلوها. ثانيهما: حضور القلب في العبادة بصورة تفصيلية: إنّ المرتبة الكاملة من هذا الحضور القلبي غير متيسرة إلا للخلّص من أولياء الله وأهل معرفته. ولكن بعض مراتبها الدانية متيسرة الحصول للآخرين. - فالمرتبة الأولى منها هي الالتفات إلى معاني الألفاظ في مثل الصلاة والدعاء. - والمرتبة الثانية أن يعرف حسب الإمكان أسرار العبادة، ويعلم كيفية ثناء المعبود في كل من الأوضاع والأحوال.   الثاني – حضور القلب في المعبود: وهذا له مراتبه الخاصة أيضاً، وعمدتها والأساس فيها ثلاثة مراتب: المرتبة الأولى: حضور القلب في تجليات الأفعال: وله مراحله الأربعة: العلم، الإيمان، الشهود، والفناء. - حضور القلب في تجليات الأفعال العلمية: هو أن يدرك الإنسان بعقله من خلال البرهان أن كل الوجود بما فيه من عالم الغيب والشهادة هو فيض من كرم الله سبحانه وتعالى، وإنّ الجميع حاضرون عنده بلا تفاوت وكلهم مظهر مشيئته. ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (ع): "خلق اللهُ المشيَّةَ بنفسها ثمّ خلق الأشياءَ بالمشيَّة". فإذا فهم العابد ذلك، فهم أنّه وعبادته وعلمه وإرادته وقلبه وحركاته وظاهره وباطنه حاضرون في ساحة قدسه. حضور القلب في تجليات الأفعال الإيمانية: إذا انتقل دليل العقل لينتقش في القلب واعتقد به عبر الترويض العلمي والعملي، فصارت مسألة يقينية إيمانية في قلبه. حضور القلب في تجليات الأفعال الشهودية: إذا حصل كمال الإيمان، وبعد المجاهدة والترويض والتقوى الكاملة للقلب، تشمله الهداية الإلهية، ويصل إلى مرتبة الشهود والمعاينة، فيرى الحقائق ماثلة أمامه. حضور القلب في تجليات الأفعال الفنائية: إذا تكاملت مرحلة الشهود والعيان حتى يصبح القلب كلياً مرآة تتجلى فيها الحقائق ليحصل له بعد ذلك الفناء، فناء في تجليات الأفعال. المرتبة الثانية: حضور القلب في تجليات الأسماء: إذا كان الإنسان مؤهلاً فإنّه لن يبقى متوقفاً في مرحلة تجليات الأفعال، وإنما سينتقل إلى مرحلة يكون فيها مورداً لتجليات أسماء الله وصفاته، فيطوي تلك المراحل الأربعة أيضاً في هذه المرحلة "العلم، الإيمان، الشهود، والفناء". ولعله الكلمة القائلة: "إنّ أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري" إشارة إلى هؤلاء الأولياء. المرتبة الثالثة: حضور القلب في تجليات الذات: إذا استطاع الإنسان أن يعبر المرتبة الثانية، فسيصير محلاً للتجليات الذاتية ويطوي المراحل الأربعة. قال بعض: إنّ الآية الكريمة (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (النساء/ 100)، تشير إلى هذه الطائفة من أولياء الله والسالكين إليه وأجرهم لا يكون إلا على الذات المقدسة تبارك وتعالى. وقد يقدر أن ينهض الإنسان من هذه المرحلة ليقوم بهداية الناس: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ) (المدثر/ 1-2). فإن كان هذا الشخص وصل إلى مرحلة الإحاطة بجميع الشؤون وهي مرحلة معرفة الاسم الأعظم تم الكشف الكلي واختتمت النبوة بوجوده المقدسة كما اختتمت بالنبي المعظم صلوات الله وسلامه عليه وآله. فلو فرضنا أن شخصاً من أولياء الله تبعاً لذات النبي (ص) وهداية الله سبحانه وتعالى، استطاع أن يصل إلى نفس المقام، فلن يفتح هذا باب النبوة من جديد لأنّه لا يجوز التكرار في التشريع، فدائرة النبوة انتهت في وجوده المقدس (ص). إنّ هذا الموضوع لا حظّ لنا فيه إلا الألفاظ، والمهم لأمثالنا المحرومين من مقامات الأولياء أن لا نجحد هذه المقامات بل نسلم بها، فإن في التسليم لأمر الأولياء فوائد كثيرة، وفي الإنكار والعباذ بالله مفاسد. اللّهمّ إني مسلم لأمرهم صلوات الله عليهم أجمعين.   - التفرغ في العبادة يوجب الغنى في القلب: إنّ الغنى هو من الصفات الكمالية للباطن والنفس والذات، لذلك يعتبر الغنى من الصفات الذاتية للحق تعالى. إنّ الثروة والأموال لا توجب غنى في النفس، بل نستطيع أن نقول إن من لا يملك غنى في النفس يكون حرصه تجاه المال والثراء أكثر، وحاجته أشد. ولمّا لم يكن أحد غنياً حقيقياً أمام ساحة الحق جل جلاله الغني بالذات، وكانت الموجودات كلها بجميع مراتبها ودرجاتها، فقيرة ومحتاجة، لهذا كلما كان تعلق القلب إلى غير الحق، وتوجه الباطن نحو تعمير الملك والدنيا أشد، كان الفقر والحاجة أكثر، على جميع المستويات: أما الحاجة القلبية والفقر الروحي، فواضح جدّاً، لأن نفس التعلق بتلك الأمور والتوجه إليها هو فقر. وأما الحاجة الخارجية التي تؤكد بدورها الفقر القلبي، فهي أيضاً أكثر، لأن أحداً لا يستطيع النهوض بأعماله بنفسه، فيحتاج في ذلك إلى غيره. والأثرياء وإن ظهروا بمظهر الغنى، ولكن بالمتعن يتبين أن حاجتهم تتضاعف على قدر تايد ثرواتهم. فالأثرياء فقراء في مظهر الأغنياء، ومحتاجون في زي من لا يحتاج. وسينتج عن ذلك كله غبار الذل والمسكنة وظلام الهوان والحاجة، وفي الحديث "انّ لا تفرغ لعبادتي أملأ قلبك شغلاً بالدنيا ثمّ لا أسدّ فاقتك وأكِلُك إلى طلبك". وعكس ذلك من وضع تحت قدميه التعلق بالدنيا، فإنّه سيحوّل وجه قلبه إلى الغني المطلق، ويؤمن أن كل تلك الموجودات لها فقر ذاتي وحاجة أبدية، لا تملك لنفسها شيئاً. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (فاطر/ 15). وهكذا سيزداد غنى كلما استغنى عن العالمين أكثر، حتى يبلغ مستوى استغنائه درجة لا يرى لِمُلْكِ سليمانَ قيمة، ولا يأبه بخزائن الأرض عندما توضع بين يديه مفاتيحها. يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) لابن عباس: "وإنّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها". ويقول الإمام علي بن الحسين (ع): ""أستنكف أن أطلب الدنيا من خالقها فكيف بطلبها من مخلوق مثلي". عندما يعطي الإنسان قلبه إلى صاحبه الحقيقي ويعرض عن غيره ولا يسلم هذا القلب للغاصبين، سيتجلّى فيه صاحبه الغني المطلق، ليدفع هذا القلب نحو الغنى المطلق، فيغرق القلب في بحر العزة والغنى. (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (المنافقون/ 8). وسيوصد باب الفقر لدى العبد نهائياً ليستغني عن العالمين، كما في الحديث القدسي: "وإنّه ليتقرب إلي بالنافلة حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به ويده التي يبطش بها". وسيكون نتيجة ذلك أيضاً إرتفاع الخوف من جميع الكائنات، ليحلّ الخوف من الحق المتعالي محله.

ارسال التعليق

Top