• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

مسؤوليتنا في بناء الحياة

العلّامة الراحل السيِّد محمّد حسين فضل الله

مسؤوليتنا في بناء الحياة

ما معنى أن نوجَد في كلّ هذه العناصر التي تمثِّل حركة هذا الوجود؟ هل لنكون فقاعة تنتفخ وتنتفخ ثمّ تنفجر ولا تترك وراءها شيئاً، أو أنّ وجودنا في إرادة الله، يعني أن نحرِّك القيمة في معنى هذه الإنسانية العميقة التي تتمظهر فينا عقلاً يفجّر المعرفة، ثمّ يتحرَّك ويصارع ويبحث ويكتشف ويدخل في ساحة صراع تتميَّز بأنّها في وعي العقل حركةُ صراع لا يملك إلّا المحبّة، لأنّ المعرفة مهما انفتحت، ومهما اختلفت، فإنّها لابدّ أن تنطلق من محبّة؛ محبّة العقل.. والعقل عندما يحبّ يبدع، والعقل عندما يحبّ ينتج، والعقل عندما يحبّ يضع القاعدة لبناء الحياة على الأفضل؟!

مسؤوليتنا تجاه العقل

لذلك، فإنّ هذا العقل الذي أعطانا إيّاه الله، هو من أجل أن نعطي الحياة عقلاً، وتلك مسؤوليتنا.. مسؤوليتنا في هذا الوجود الذي يعطينا الكثير ويريد منّا أن نعطيه.. مسؤوليتنا هي أن نعقلن هذا العقل، ألا نسمح لهذا العقل بأن تزحف إليه كلّ الطحالب، وأن تزحف إليه كلّ عناصر التخلُّف، وأن يتحرَّك الجهل ليأخذ معنى العلم في داخله.. مسؤوليتنا أن نعقلن العقل، وأن نجعل العقل طاقةً تتحرَّك كما الروح تعطي الحياة، ليعطي العقل الحياة معنى المعرفة الحيّة.

وهكذا أرادنا الله عندما خلق لنا قلباً ينبض ويخفق وينفتح هنا وهناك، قلباً يبكي، وليس بكاؤه سقوطاً، ولكنّ بكاءه يمثِّل معنى الإنسانية في الدموع، وقيمة الدموع عندما تتأنسن، أنّها تحتضن آلام المتألمين، وتتحرَّك في داخل وجودهم، من أجل أن تعطيهم الراحة والطمأنينة، لا راحة التخدير الذي يتخدَّرون به لينتفض الألم بكلّ قوّة، ولكن راحة الإحساس بالمشاركة الإنسانية التي تقوّي للمتألم معنى إنسانيته، لتجعله يثق بنفسه ويثق بالحياة.

كم من كلمات القلب النابض التي تتحرَّك في مواقع الطهارة وفي مواقع الصفاء، كم من كلمات هذا القلب التي استطاعت أن تعطي الناس الذين لا يثقون بأنفُسهم ثقة، وأن تعطي الناس الذين يعيشون الضعف في حالة انهيار، قوّةً روحية! لأنّ معنى أن تكون قوي الروح، قوي الإنسانية، هو أن تحسّ بوجودك، وأن تعرف كيف تحرّكه وتستثمره، لأنّ مشكلة فقدان ثقة الإنسان بإنسانيته، أنّها تُسقط الإنسان، وأنّها تخلق في داخله القلق والحيرة. ولذلك، فإنّك كلّما أعطيت الإنسان في محبّتك سكينةً وراحةً وطمأنينة، أعطيته إحساساً بوجوده، وهيّأته ليكون عنصر إنتاج.

التخلّق بأخلاق الله

أعطانا الله قلباً من أجل أن نصنع منه الحبّ الإنساني الذي إذا تحرَّك في الحياة، فإنّه لا يجد أيَّ حاجز يحجزه عن إنسان آخر، لأنّ المسألة هي أنّ الحبّ ينطلق من الله، فالله محبّة، وعندما تتحرَّك المحبّة من الله صافية نقية طيِّبة مطلقة، فأيّ معنى لأيّ حاجز؟!

الله المطلق لا حدود له، والحبّ الإلهيّ عندما يتأنسن، يأخذ شيئاً من معنى أخلاق الله، وفي الحديث عندنا: «تخلّقوا بأخلاق الله». لذلك، كان الإمام عليّ (ع) يفكِّر من خلال الحبّ الإلهيّ، عندما كان يقول لعامله مالك الأشتر: «فإنّ الناس صنفان؛ إمّا أخٌ لك في الدِّين، أو نظير لك في الخلق». أن تنطلق، فإذا رأيت الناس الذين يتّفقون معك في الفكر وفي الخطّ، أمكنك أن تتحرَّك معهم في عملية تكامل، من خلال وحدة الموقف، وعندما تجد هناك اختلافاً بينك وبين أحد في فكر أو اتجاه أو موقع، فكّر أنّ إنسانيتك تحتضن إنسانيتهم، كما أنّ إنسانيتهم تحتضن إنسانيتك.

بالإنسانية نحلّ مشاكلنا

من خلال إنسانيتنا، التي إذا انطلقت من داخل وجودنا ينبوعاً يتفجَّر ويجري ويعطي الخصب والرخاء، يمكننا أن نحلّ مشاكلنا.

مشكلتنا أنّنا تركنا الإنسانية في معنى وجودنا تغور كما يغور الينبوع في متاهات الأرض، واستبدلنا بها وحشية سميناها حقداً مقدّساً، ولا أدري كيف تقترب القداسة من الحقد!

إنّها من الكلمات التي أرادت أن تصادر فينا معنى القداسة، حيث جعلْنا الحقد مقدّساً، والجهل مقدّساً، والتخلُّف مقدّساً. كم قتلَنَا التخلُّفُ باسم التقدّم! وكم قتلَنَا الجهلُ باسم العلم! وكم قتلتْنا الوحشيةُ باسم القداسة!

مشكلتنا في هذه الفوضى من المفاهيم التي تتحرَّك وتنطلق في حياتنا على أساس أنّها تمثِّل القيمة، ولكنّها في الواقع ضدّ القيمة.

لذلك، عندما أعطانا الله هذا القلب، فللقلب مسؤوليته أن يحبّ الآخرين.. وأن تحبّ الآخرين، أن تلتقي معهم على نقاط اللقاء.. أن تحبّ الآخرين، أن تتحاور معهم في رحلة الوصول إلى الحقيقة.. أن تحبّ الآخرين، أن تستثير كلّ عناصر الخير فيهم لمصلحة معالجة عناصر الشرّ في داخلهم.

إذا أردتم أن تبغضوا، فعليكم أن لا تبغضوا الإنسان في ذاته، أبغضوا عمله.. أحبّوا الإنسان، حتى الإنسان المجرم، ولكن حاولوا أن تبغضوا جريمته.. إنّنا لا نريد أن نقتل الشرّير، ولكنّنا نريد أن نقتل شرّه، ولا نريد أن نُسقِط الكافر، ولكنّنا نريد أن نسقط كفره..

حتى المستكبر الذي يعيث في الأرض فساداً، إنّنا لا نفكِّر في أن نسقطه كإنسان، كشعب، كحكومة، إنما نريد أن نسقط استكباره، فإذا ابتعد عن الاستكبار، أمكننا أن نعانقه عناق الإنسان الذي عاد إلى الخير وإلى التواضع بعد وقتٍ طويل.

الطاقة مسؤولية

وهكذا.. وجودنا، هو وجود العقل في حركة المعرفة، ووجود القلب في حركة الحبّ الإنساني، ووجود الطاقة؛ هذه الطاقة التي نملكها في وجودنا، والطاقة التي أنتجناها من خلال حركة الوجود، سواء كانت طاقة علم، أو طاقة جاه، أو طاقة خبرة، أو طاقة مال، أو أيّ نوع من أنواع الطاقة...

هذه الطاقة، ليست شرفاً نزهو به، ولكنّها مسؤولية نعيشها، والله سوف يسألنا عندما نقف بين يديه كيف حرّكنا هذه الطاقة! وهذا ما جاء به الحديث عن الإمام جعفر الصادق (ع)، عندما كان يقول: «إنّ الله لم ينعم على عبد نِعمة إلّا وقد ألزمه فيها الحجّة من الله، فمن منَّ الله عليه فجعله قوياً، فحجّته عليه القيام بما كلّفه، واحتمال مَن هو دونه ممّن هو أضعف منه، ومَن منَّ الله عليه فجعله موسعاً عليه، فحجّته عليه ماله، ثمّ تعاهده الفقراء بعد بنوافله، ومَن منَّ الله عليه فجعله شريفاً في بيته، جميلاً في صورته، فحجّته عليه أن يحمد الله تعالى على ذلك، وأن لا يتطاول على غيره، فيمنع حقوق الضعفاء لحال شرفه وجماله».

طاقتك مسؤوليتك؛ أن تنمّيها وأن تكبّرها، وأن تجعلها طاقة الإنتاج وطاقة الإبداع، وأن تحرّكها في كلّ موقع من مواقع حاجات الإنسان في الحياة.

لصوصٌ من نوع آخر

إنّنا نتحدَّث دائماً عن الأُمّة، عن المجتمع، عن الشعب؛ هل هناك شيء معلّق في الهواء اسمه الأُمّة؟ هل هناك شيء معلّق في الهواء اسمه المجتمع؟ مَن الأُمّة؟ مَن المجتمع؟ هي أنا وأنت والآخرون. إذا كانت المسألة هكذا، فمعنى ذلك أنّ في كلّ منّا شيئاً تملكه الأُمّة؛ علمك هو جزء من علم الأُمّة، وعقلك كذلك، وخبرتك كذلك، وطاقتك كذلك... عندما تمنع الأُمّةَ من الطاقة الموجودة فيك، فأنت لصّ تسرق الأُمّة طاقتها.. الأُمّة تحتاج إلى علمك، لأنّ علمك ليس لك، علمك جزء من علم الأُمّة، وعقلك ليس لك وحدك، وخبرتك ليست لك وحدك... لذلك، أنت تسرق، ولكن ليس هناك قانون يمكن أن يحاكمك على هذه السرقة. وكم ينطلق اللصوص؛ لصوص الحرّية، ولصوص الحقّ، ولصوص الأوطان، كم ينطلقون في الحياة من دون أن تكون هناك مادّة قانونية تحدّد عقوباتهم! لأنّ المسألة هي كما قال النبيّ (ص): «إنّما أهلك الذين قبلكم، أنّهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ. وأيم الله، لو أنّ فاطمة بنت محمّد سرقت لقطعت يدها».

لذلك، نحن في الحياة هنا عمّال الله (يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ) (الانشقاق/ 6). وفي ضوء ذلك، لابدّ أن نعرف أُصول العمل، ولابدّ أن نعرف ساعات العمل، ولابدّ أن نتحمَّل مسؤولية العمل، ولابدّ أن نراقب نتائج العمل، ولابدّ أن نرصد كيف تتحقَّق أهداف العمل.

مسؤولية بناء الحياة

لذلك، كما قلنا في البداية، إنّنا في هذا الوجود الإنساني الكامن في داخل شخصيتنا وذواتنا، نتحمَّل مسؤولية أن نبني الحياة، وأن نبني الإنسان؛ أن نبني الإنسان فينا، وأن نبني الإنسان في الآخر، حتى نستطيع أن نحقِّق شيئاً للحياة.. أن لا نترك الحياة، إلّا بعد أن نترك شيئاً فيها منّا؛ أن يموت الجسد، ولكن تبقى عصارة العقل التي كانت فيه، وعصارة القلب التي كانت فيه، وعصارة الطاقة التي كانت فيه، أن تبقى في الحياة.

إنّكم تنتجون الكثير من العصير، يذهب القشر ويبقى العصير، ولكنّ عصيراً واحداً لا نهتمّ به؛ عصير مؤنة السنة، ولكن هذا من مؤنة الحياة، عصير العمر؛ أن تعتصر عمرك، أن تعتصر كلّ دقيقة، كلّ ثانية..

مشكلتنا في هذا الشرق، أنّ تعابيرنا الأدبية تقول نريد أن نقطّع الوقت، أن نضيّع الوقت، أن نقتل الوقت... أليس كذلك؟ ولكن القضية هي أن نربح الوقت، أن نعتصره.. هذا الإحساس بالزمن، أن تحسّ بالدقيقة التي أنت فيها كيف تملؤها تفكيراً وحركةً وحياةً، عند ذلك، سوف لن تضيّع أيّ دقيقة، لأنّ هناك إحساساً بمعنى الدقيقة في عمرك، ومعنى عمرك في حركة الحياة.

ارسال التعليق

Top