• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

نهاية أمل

د. مازن صافي

نهاية أمل

عاشت سنوات من النعيم في كنف زوج كفيف كان يعمل في شركة للاتصالات ، حيث أنه كان يؤدي مهامه في استقبال المكالمات الواردة وإرسالها بكل دقة ، تمتع بقدرة غريبة وفريدة في حفظ الأرقام وتخزينها في ذاكرته ، مما أدى إلى اهتمام المسئول عنه وبل تكريمه وإضافة الكثير من الحوافز له .

وفي ليلة سوداء أصيب الزوج بضيق في الصدر ، نقل على أثرها الى المستشفى القريب ، وهناك تم تشخيص الحالة على أنها مرض في القلب ، سرعان ما تطور ، وخلال أقل من ساعة لم تعد أنفاسه تسعد زوجته وابنته الوحيدة ، فلقد توقف النبض تماما ، ولم يجد الطبيب إلا أن يخبر الزوج بالخبر الأليم ، أعانكم الله ، لم يصمد كثيرا ، لقد عاني من ذبحة صدرية شديدة توقف معها القلب . الليلة السوداء انتقلت إلى قلب الأم ودموع الابنة الوحيدة ، وأظلمت الدنيا ، مات المعيل وراعي البيت ، فماذا يمكن أن يفعلا . بدأت المصاريف تزداد وتتراكم ، وما تبقى من أموال مدخرة شارفت على النفاذ ، وازدادت تلميحات الدائنين ، هذا صاحب البيت وهذا البقال وتلك الصيدلية ، الحمل ثقيل والهم يضغط على الأنفاس ، ولا مفر. انتقلوا إلى بيت آخر متواضع جدا ، على وعد أن يسددوا ما تبقى من أموال مستحقة للمؤجر القديم ، وذهبت الأم المكلومة الى أكثر من مكان للعمل ، وكان الرد دائما أن هناك أزمة في البلد ولا مجال لاستيعاب موظفات أكثر بل يتم تسريح موظفين على رأس عملهم ، أظلمت الدنيا مرة أخرى واشتدت أوجاع الحاجة ، ونظرات الطفلة تفجر الأخاديد الموجعة في قلب الأم ، ولكن لا حلية لها ولا قوة . وفي مساء عاصف بك الظروف المأساوية وضيق الحال وانسداد أفق الخروج من الأزمة ، أحضرت بعض المسامير وقامت بإغلاق شباك غرفة النوم والوحيدة بالمنزل ، وسألتها الطفلة بعفوية ، لماذا تغلقين الشباك أماه ، كي لا يدخل اللصوص منه ، وبكت بحرقة ، كانت تكذب وتعرف أنه لا مجال إلى انتظار آخر. ومع تعانق نور النهار مع ما تبقى من عتمة الفجر ، ذهبت الأم إلى المطبخ وفتحت أمبوبة الغاز فتحة صغيرة ، وذهبت للغرفة واحتضنت ابنتها ، وكان هناك سؤال يطرق أذنيها ، لماذا تعودين للنور أمي ، نامي ابنتي الآن ، أمي هناك رائحة غاز تبعث من المطبخ ، أنت تعرفين تسربه دائما لا تهتمي ، احضنيني أكثر ، وبكت وسالت دموعها على وجه طفلتها . وفجأة سمعت صوتا ينساب إلى أركان غرفتها يهز جسدها بقوة : "  وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا" كيف ابتعدت عن خالقي ، عن الرازق ، عن الواحد القهار ، تحدث نفسها وتعاتبها ، وأبعدت طفلتها عنها وهرعت إلى المطبخ لتغلق أنبوب الغاز ، دخلته وهي تكاد تتنفس وتصدر صوت مرتفع من السعال ، ونادت عليها ابنتها ، غاز يا أمي ، الغاز يخنقنا ، الغاز ........ الغاز . أفات الأم لتجد نفسها في مكان آخر ، إنها غرفة في المستشفى المجاور ، أول ما فتحت عينيها ، كانت تمتم " أمل .. أمل .. أمل " أين أمل .. أين أمل .. سؤال أبكى كل من حولها .. عوضك الله خيرا .. لقد توفت "أمل" ، لقد كانت تعاني من مشاكل في القلب ، والغاز خنقها ، ولقد أنقذناك في اللحظات الأخيرة . ما الذي حدث معكم .. كيف تسرب الغاز ..   صمتت الأم طويلا وهي تبحلق في الوجوه ولا تسمع إلا صوت ابنتها .. الغاز .. الغاز ماما .. ماما الغاز .. صوت اختلط بنداء في أعماقها "  وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا" .. ماما .. ماما .. ماما .. تعالي نخرج من البيت .. مدت الأم يديها الى طفلتها واستندت عليها ، وخرجا مسرعتين من البيت ، لقد أضاء النهار ذاك الأمل ، كانت البداية بعد نهاية أمل الحياة .ضحكت الأم بصوت أضحك معها أمل .. نجونا من النار يا إبنتي .. الله أرحم بنا من الظروف .

ارسال التعليق

Top