• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

وأخيراً اكتشف العلم الحُب

د. أسامة عانوتي

وأخيراً اكتشف العلم الحُب
◄هكذا قال "هوارد ويتمان". فعنده أن مردّ الأمراض العقلية – في كثرتها الكاثرة – إلى انعدام الحب. فالحب، في رأيه، بل في رأي علماء الاجتماع هو الحل لمشكلة الجريمة، ولمشكلة الأحداث. ويذهب أطباء النفس مذهباً غريباً حين يقرّرون أن ضرب الطفل وعدمه سيّان. ما دام الطفل محبوباً! وقد أحسن الدكتور "أريك فروم" الإحسان كله لما عرّف الحب بما يلي: "ان حبك لشخص يتضمن الاهتمام به والشعور بالمسؤولية عن حياته، ونمو كل قواه الإنسانية". لقد غدا الحب عقّاراً تستخدمه الهيئات العاملة في ميادين العلاقات الإنسانية. وفي مستشفى "مننجر" وفي ولاية "كنساس" بأمريكة، يعمدون إلى معالجة المرضى بأمراض عقلية، بما يدعونه: "الحب التلقائي". فالمرضى الذين نشأت عللهم عن فقدان المحبة يواجهون مواجهة خاصة بالحبّ الذي يستحقونه والذي لا يستحقونه. وفي رأي الدكتور "الكسندر ريد مارتن": ان كثيراً من هذه الحالات المرضية تعزى، أساساً، إلى انعدام حب النفس: "فإذا أحبّ الناس أنفسهم حباً سليماً بدلاً من أن يحملوا أعباء رهيبة من ازدراء النفس، فإنّ المرض العقلي يقلّ إلى النصف". وعند الدكتور "روبرت فليكس" مدير المعهد القومي للصحة العقلية في "واشنجتون" أن أصدق تعريف لحب النفس" أن يكون لدى الإنسان شعور بقدر نفسه، وكفايته، مع إحساس سليم بالتواضع في نفس الوقت". فالإنسان الناضج، السوي، الذي أوتي القدرة على الحب، لا يقف حبه عند زوجه، أو نفر من صحبه، بل يجب أن يحب الجميع. والذي يتدبر الأقوال التي تقدمت يدرك انّ الإلحاح على "عمومية" المحبة يعزى إلى أنّ المحبة تورث – في ما تورث – سكينة النفس واستقرارها. كما ان غيابها يعقب – في ما يعقب – اضطراب النفس وتمزقها، والحقد، ثمّ الخروج على البيئة والمجتمع. إنّ مثل المجتمع، إذا عمّه الحب والتآلف، كمثل البيت تشدّ أفراد أسرته وشائج التعاطف والتراحم، أي الترابط، الاتساق والتلاحم. فإذا هو تناغم الفرد والفرد، ومن ثمّ توافق الأفراد وبيئاتهم ومجتمعاتهم. وما أروع بساطة قول سيدنا عيسى المسيح، عليه السلام: "الله محبة". فكأنما يريد أن يقول بالكلام المبسوط: "انّ الكون يعمر بالحب، ويرسو على التراحم والتآلف"!. دخل قيس بن عاصم على رسول الله (ص)، وفي حجره بعض بناته يشمها. فقال: ما هذه السخلة (ولد الشاة) تشمها؟ فقال: هذه ابنتي. فقال: والله لقد ولد لي بنون ووأدتّ بنيّات ما شممت منهنّ أنثى ولا ذكراً قط. فقال رسول الله (ص): فهل الا أن ينزع الله الرحمة من قلبك". وإذا علمنا أن قيساً اقتدت به العرب في وأد بناتها، وأنّه وأد ابنة له ولها من العمر بضعة أسابيع، إذ ولدت وهو في سفر. ومغزى قول الرسول (ص) رائع، بعيد المرمى: انّ القدرة على حب الآخرين امارة من امارات النضج النفسي وسلامة الشخصية. بل هذا، في رأي بعض علماء النفس، هو الحب الصحيح. يقول الدكتور "أوفر ستمريت": "إذا لم يخلق ما نسيه حباً لشخص أو أشخاص قلائل القدرة على ابداء النيات الطيبة حيال الكثيرين فنحن نشكّ في أننا جرّبنا الحب فعلاً". بل يذهب الدكتور بروك تشيشولم (المدير العام السابق للهيئة الصحية العالمية) أبعد من هذا، فعنده أن مستقبلنا العالمي منوط بما فيه من أفراد ناضجين، يعدّون ليكونوا قادرين على التحابّ، وعلى ان يروا حل مشاكل عالمنا المبتدّل، المتغيِّر أبداً بالمحبة، لا بالكره والبغضاء. ولله در "المقنّع الكندي" (نحو 70هـ/ 690م) حينما صوّر الفرد المحب، الذي تنطوي نفسه على السماحة والبر، يهب قومه الحبّ، ويعفو عن اساءتهم: فإن يأكلوا لحمي وفّرت لحومهم وان ضيّعوا غيبي حفظت غيوبهم وان هم هووا غيّي هويت لهم رشدا وان يهدموا مجدي بنيت لهم مجداً وإذا كان الطب، حديثاً، قد أدرك أنّ الحب أساس سعادة المجتمع ورضا أفراده، فإذا ارتفع من بين الناس مرضوا في نفوسهم وعقولهم ثمّ في أجسادهم، فإنّ الرسول (ص) جعله أساس الإيمان الذي لا جنة بدونه". ففي الحديث الشريف: "والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا. أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ افشوا السلام بينكم". ويا له من مفتاح سحري تفتح به النفوس: "التحية"! أجل بكلمات قليلة، بسيطة، خالية من زخرف القول تتهيأ النفوس للمودة، ثمّ يقع التواصل بين الأنفس بعد أمد، يقصر أو يطول. وقد قال أحد علماء الفرنجة: "الحبّ ليس غاية في نفسه. بل هو وسيلة إلى غايات كثيرة.. فأنت تراه بين زوجين من الناس فائداً إلى انشاء خلية جديدة في المجتمع (البيت)، وإذا تجاوز الاثنين إلى الجماعة كان من ورائه عافية المجتمع وسلامة نفوس أبنائه وعقولهم وأبدانهم. وليس غريباً، بعد، أن ينادي الأطباء اليوم بأن "دفء البيت يشفي" مرضى الأمراض العقلية، لأنّ الحنان والاهتمام الشخصي بهؤلاء المرضى ألزم لهم من كل علاج، وهما بعد عنصران لا تجدهما إلّا في البيت.►   المصدر: مجلة الموقف/ العدد 8 لسنة 1984م

ارسال التعليق

Top