الشيخ ظهير الدين الرحماني
إنّ المعاني الواسعة والمفاهيم الكثيرة التي يحملها لفظ: "الوسطية" لا يمكن أداء حقها بلفظ واحد آخر، وقد كانت هناك مساعي ومحاولات لبيان معانيه بألفاظ الاعتدال والتوازن، وغيرها من الألفاظ، كما تم ترجمة الوسطية بألفاظ الأفضل والعادل.
أمّا تحديد مفهوم الوسطية، وحاجة تطبيقه، والاستفادة من إيجابياته، فكانت ماسة في كل عصر من عصور التاريخ، وقد ذكر من الحكماء القدامى: أفلاطون، وأرسطو هذه الأصول وأهميتها في صحفهم؛ حيث إنّ الشرح البسيط لأصول الاعتدال لدى الحكماء القدامى هو عدم تغليب المشاعر على الأعمال، وعدم إطلاق عنان المشاعر لتغلب على تصرفات العقل، وإنّ السبيل الوسط لديهم هو أن يشارك العقل والشعور جنباً إلى جنب في تعيين طريق العمل واختياره.
وقال بعض الحكماء الآخرين: بأن سبيل الحق والتوازن هو ألا تغلب قوة من ذات الإنسان على قوة أخرى، وأن يترك للعقل السليم خيار الحكم على وجود التوازن والتناسب بين هذه القوى.
وإذا عدنا إلى التوجيهات الإسلامية فنرى بأنّ الإسلام يقبل تماماً هذا الأصل للاعتدال والتوازن، ويتجلى لنا من خلال دراسة التوجيهات الإسلامية للوسطية والاعتدال – ومقارنتها بتعليمات الأديان والمذاهب الأخرى – أنّ الإسلام هو أصدق وأحسن وأعدل دين بين أديان العالم ومذاهبها، ولكن بشرط أن يُدرس من خلال مصدري الكتاب والسنة، لا بأفكار الناس وآرائهم.
عندما قام القرآن الكريم بشرح وبيان سمو الإسلام وعظمته، وصدقه وقبوليته عند الله تعالى؛ فقال: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ) (آل عمران/ 19)، وقال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا) (المائدة/ 3).
والميزة الكبرى التي بيَّنها القرآن الكريم للدين الإسلامي أنّه دين الفطرة، قال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم/ 30).
ولفظ "الفطرة" يحمل كذلك معاني ومفاهيم عديدة، وقام المفكرون والفلاسفة بوضع بعض المقامات لإيضاح مفهوم الفطرة؛ حيث قالوا بأن ظهور الشيء لا يحدث فجأة؛ بل كل شيء يتواصل في قبول التأثيرات من الأشياء الأخرى في بيئته، ويرتبط بها، كما أنّ هذا الشيء يؤثر كذلك على الأشياء الأخرى، وهذه العملية المتواصلة للتأثير والتأثُّر تؤدي إلى ظهور طبيعة خاصة، وقد عبر المفكرون عن هذه الطبيعة بـ"الفطرة" لتسهيل الأمر وتقريب الفهم، كما عبر عنها أهل اللغة بـ"الخلقة والجبلة".
ويتبيَّن من هذا أنّ التوازن والتوسط من مستلزمات بقاء الفطرة وتطورها؛ ومن هنا؛ فإنّ الطريق والسبيل الذي وضعه الله – بكونه خالق الإنسان، وهو أعلم بطبيعة البشر – لإبقاء الإنسان على الفطرة وتطويرها، جعله متوسطاً ومتسماً بغاية من التوازن والاعتدال، وهو الذي سماه "الإسلام"، وأهله بـ"المسلمين" (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) (الحج/ 78). وقد تم إيجاز معاني الدين من خلال عبادة الله وحده، والإيمان برسله وأنبيائه، واعتبار محمد (ص) خاتم النبيين، واختيار تلك العقائد والأعمال التي بيَّنها الكتاب والسنة، وهذا هو دين الفطرة، كما كان ديناً لسائر الأنبياء والرسل السابقين: (وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (البينة/ 5)؛ والقيِّمة عند أكثر أهل العلم هي: الملة المتوازنة المعتدلة المستقيمة.
هذا ولم يَخْفَ على الدارس في التعاليم الإسلامية، والمتدبر فيها أنّ الإسلام الخالص يتسم بغاية من التوازن، ويخلو من جميع أنواع الإفراط والتفريط والغلو والتقصير، كما أنّ الأُمّة التي تحمل هذا الدين هي أمة تتحلى بالوسطية والتوازن بين الأُمم الأخرى، يقول الدكتور محمد باكريم: "فإن من نعم الله على هذه الأُمّة المحمدية، وتشريفه لها، أن جعلها أمة وسطاً، خياراً، عدولاً"؛ فقال: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) (البقرة/ 143). فهي خير الأُمم التي أخرجت للناس قاطبة، كما وصفها، وشهد لها ربها وخالقها بذلك؛ فقال: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران/ 110).
وإنّ مصطلح: "أمة وسطاً" يحمل في أعماقه معانٍ عديدة، وكثيرة وعظيمة، والذي يراد منه تلك الطائفة المنصورة، والفرقة الناجية التي تتمسك بالعدل والوسطية، وتحتل مرتبة الصدارة والرئاسة بين الأُمم الأخرى، وترتبط بعلاقات الحق والصدق، ولا تفرط في حق الآخرين، ولا تظلم أحداً.
يقول الإمام ابن جرير الطبري – رحمه الله –: "وأرى أنّ الله – تعالى ذكره – إنما وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم في الدين، فلا هم أهل غلو فيه غلو النصارى الذين غلوا بالترهب، وقالوا في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود الذين بدَّلوا كتاب الله وقتلوا أنبياءهم، وكذبوا على ربهم، وكفروا به، ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك؛ إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها".
إنّ الدعاء الذي تم تعليمه لهذه الأُمّة في سورة الفاتحة، والتي أُمرت الأُمة فيها بأن تجعل هذا الدعاء لطلب الهداية إلى الصراط المستقيم، والحماية من الإفراط والتفريط شعاراً دائماً لها: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) (الفاتحة/ 6-7).
وقد بيَّن التنزيل الكريم تفاصيل المنعم عليهم في موضع آخر: (فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) (النساء/ 69)، وهو سبيل طاعة الله ورسوله (ص) بعيداً عن الإفراط والتفريط، ويتميز بميزة التوازن والاعتدال، كما يظهر من بعض الروايات بأنّ المراد من: (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) (الفاتحة/ 7)، هم اليهود، والنصارى من: (الضَّالِينَ)؛ وقد ابتلي اليهود بالشدة والإفراط في الدين، كما أنّ النصارى أصيبوا بالغلو والتفريط في دينهم.
يقول الإمام السخاوي – رحمه الله –: "إنّ الذي يتدبر في عقيدة هذه الأُمّة وعبادتها، ومعاملاتها، وسلوكها سيدرك أنّ الميزة الكبرى التي تميزت بها هذه الأُمّة هي الوسطية والتوازن، التي فُقِدت في الأمم الأخرى".
يقول الله – تبارك وتعالى -: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) (الإسراء/ 29)، الغل وتعليق اليد كناية عن الشح والبخل، كما أنّ البسط كناية عن الإسراف في الإنفاق، والآية تعلِّم أدب الإنفاق بأن على الإنسان أن يتخذ الاعتدال والتوازن بين البخل والإسراف.
وقال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (الفرقان/ 67)؛ بمعنى أن تجاوز حد التوازن في النفقات الواجبة يدخل في الإسراف؛ فيجب أخذ الحيطة والحذر في الإنفاق، وقبل الهجرة كانت فترة ضعف المسلمين بمكة، وكان الصحابة – رضوان الله عليهم – مأمورين بوضع إيمانهم رهن السرية والخفاء إلى أن تنكشف الغمة؛ ولكن النبي (ص) كان يجهر بصوته في الصلاة؛ فكان المشركون ينهالون بالسباب والشتائم على المسلمين بسماع القرآن الكريم؛ فنزلت الآية الكريمة: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا) (الإسراء/ 110)؛ حيث أمر الله – تبارك وتعالى – نبيه في الآية الكريمة باتخاذ التوازن بعدم الجهر بالصوت؛ حتى لا يسب المشركون بسماعه، ولا خفضه إلى الحد الذي يشق على الصحابة سماعه، كما أمر النبي (ص) أبا بكر وعمر بالتوازن في صلوات التهجد.
هذا وإنّ الوجه الظاهر لوصف الأُمّة المحمدية بهذه الصفة هو أنّ الأمة التي تستحق الإمامة والسيادة والزعامة بين أقوام وأمم العالم لا يمكن أن تكون غير الأُمّة التي تتصف بهذه الصفة، ويرى بعض مفكري العالم بأنّ الذكاء المفرط صفة سيئة كالغباء، ولا يليق في السياسة والحكومة إلا لأصحاب الذكاء المتوسط، وأن عضواً في الكنيست البريطاني حيَّر الناس مرّة؛ عندما قال: "نرى أن زعماء وحكام البلدان الكبرى في العالم في عصرنا هم أصحاب العقول المتوسطة؛ حيث إنّ التوسط هو المطلوب".
المصدر: كتاب المنهج الإسلامي للوسطية والإعتدال
ارسال التعليق