• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

أخلاق الآباء تنتقل إلى الأبناء

الشيخ مقداد الدجيلي

أخلاق الآباء تنتقل إلى الأبناء

◄- قانون الوراثة:

ينقل الموجود الحي كثيراً من الصفات والخصائص إلى الأجيال التي تليه، والجيل اللاحق يكتسب صفات الجيل السابق، كما يوضح ذلك قانون مندل في الوراثة.

وقانون الوراثة هو الذي يتكفّل بتشكل الصور النوعية للنبات والحيوان والإنسان دون تدخل إرادة الأبوين، حيث أنّ الكروموسومات التي تنفصل عند التكاثر تحمل جينات تنقل الصفات الوراثية للشعر والبشرة وغيرهما.. وقد أطلق الرسول (ص) والأئمة (ع) على عامل الوراثة هذا تسمية (العِرق)، فعن النبي (ص): "انظر في أي شيء تضع ولدك فإنّ العِرق دسّاس".

فالنبي (ص) يوصي أصحابه بالبحث عن التُربة الصالحة التي يُراد أن يُبذر فيها لكي لا يرث الأولاد الصفات الذميمة.

ويعلق بعض المعاجم اللغوية كالمنجد منها فيقول (أي أخلاق الآباء تنتقل إلى الأبناء).

وإضافة إلى قانون الوراثة تحصل طفرات أو شذوذ عن القانون، ويعزى ذلك إمّا إلى التغيّرات في وضع الجينات والكروموسومات، وإمّا إلى الصفات الموجودة في الأجداد والأسلاف البعيدين وظهورها في بعض الآباء.

ويمكن مشاهدة صفات الحيوانات القديمة المندثرة في بعض الحيوانات الحاضرة بلا فرق.

يقول الكسيس كارليل في كتابه الإنسان ذلك المجهول (ص203): "يمتد الإنسان في الزمان مثلما يمتد في الفراغ إلى وراء حدود جسمه... وحدوده الزمنية ليست أكثر دقة ولا ثباتاً من حدوده الاتساعية، فهو مرتبط بالماضي والمستقبل على الرغم من أنّ ذاته لا تمتد خارج الحاضر".

ويقول أيضاً في ص197: "قد يحدث أحياناً أن يبدي أحد الأطفال الذين عرفت ميول أسلافهم لعدة أجيال، اتجاهات جديدة وغير متوقعة".

وبالعودة إلى أربعة عشر قرناً نرى النبي (ص) يوضح جانباً من هذا الموضوع، فعن أبي جعفر (ع) أنه قال: "أتى رجل من الأنصار رسول الله (ص) فقال: هذه ابنة عمي وامرأتي، لا أعلم منها إلاّ خيراً، وقد أتتني بولد شديد السواد، مُنتشر المنخرين، جعد قطط، أفطس الأنف، لا أعرف شبهه في أخوالي ولا في أجدادي، فقال (ص) لامرأته: ما تقولين: قالت لا والذي بعثك بالحقِّ نبياً ما أقعدت مقعده مني منذ ملكني أحداً غيره، قال: فنكس رسول الله (ص) رأسه ملياً، ثم رفع بصره إلى السماء ثم أقبل على الرجل فقال: يا هذا إنه ليس من أحد إلاّ بينه وبين آدم تسعة وتسعون عرقاً، كلّها تضرب في النسب، فإذا وقعت النطفة في الرحم، اضطربت تلك العروق وتسأل الله الشبه لها، فهذا من تلك العروق التي لم تدركها أجدادك ولا أجداد أجدادك، خذي إليك ابنك، فقالت المرأة: فرَّجت عني يا رسول الله.

وعن الصادق (ع): "إن الله تبارك وتعالى إذا أراد أن يخلق خلقاً جمع كلّ صورة بينه وبين آدم، ثم خلقه على صورة إحداهن، فلا يقولنّ أحد لولده: هذا لا يشبهني ولا يشبه شيئاً من آبائي".

فإنّ جميع الصور والصفات القابلة للتوارث في الآباء والأجداد تمتد حتى أبينا آدم (ع) ويمكن أن تتدخل في تشكّل صورة الإنسان.

-        التأثير الآخر:

هذا من ناحية التأثير الجسدي، أما من ناحية الأثر التربوي والنفسي والسلوكي على الأطفال فإنّ الإسلام يرى أنّ في سلوك الآباء والأمهات تأثيراً كبيراً على سلوك أبنائهم الذين يرثون صفاتهم الصالحة أو الطالحة.

ونجد ذلك في القرآن الكريم على لسان نوح (ع) بعد أن يئس من هداية قومه طيلة 950 عاماً (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا)(نوح/ 26-27)­.

فإما أن يُفسدوا البيئة (عامل المحيط)، أو يلدوا أولاداً طالحين (عامل الوراثة).

يقول الطبرسي في تفسير مجمع البيان: "إنّ الباري تعالى أخرج من أصلابهم (خلال سنيّ   تبليغ نوح (ع) كلّ من يكون مؤمناً، وأخبر الله نوحاً بأنهم لا يؤمنون (مستقبلاً) ولا يلدون مؤمناً، فلذلك دعا عليهم بالهلاك".

ويقول الإمام عليّ (ع) في الفضائل العائلية: "إذا كرم أصل الرجل كرُم مغيبه ومحضره".

فمن ينتسب إلى نسب عريق في الفضائل، كان ملازماً للصفات الخيرة في حضوره وغيابه، وذهابه وإيابه، أي بكلِّ الأحوال.

وكذلك عنه (ع): "عليكم في طلب الحوائج بشراف النفوس ذوي الأصول الطيّبة، فإنها عندهم أقضى، وهي لديهم أزكى".

ويقول (ع) أيضاً: حسن الأخلاق برهان كرم الأعراق".

فيلزم البحث عن الشرفاء في العوائل العريقة بالشرف والتقوى لأنه لابد أن يكون رجالها في الصفوف الأولى دائماً، وبالتالي يكونون أهلاً لمساعدة الفقراء، وعطوفين تملأ قلوبهم الرحمة.

بعكس الأسر المنحطة البعيدة عن المروءة، والغارقة في أنانياتها أو في الجبن والبخل، ولذا حذر النبي (ص) في موضوع الزواج من اختيار المرأة إذا كانت جميلة فقط حيث قال (ص): "إياكم وخضراء الدمن، قيل يا رسول الله ما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في منبت السوء".

وفي عهد الإمام عليّ (ع) للأشتر النخعي حينما ولاّه مصر وهو أحسن العهود، نجد فقرات منه عديدة تُشعر بالاهتمام بأصالة النسب، فيوجهه وينصحه بأن يختار الأصحاب من العوائل الشريفة وذلك بقوله (ع): "ثم الصق بذوي الأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة، ثم أهل النجدة والشجاعة والسماحة، فإنهم جماع من الكرم، وشعب من العرق".

ويقول (ع) في انتخاب الموظفين الأكفاء: "وتوخّ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام المتقدمة، فإنهم أكرم أخلاقاً، وأصلح أعراضاً، وأقل في المطامع إشرافاً، وأبلغ في عواقب الأمور نظراً".

فيشترط في الموظف الإداري في الموقع الحسّاس، أن يكون عفيفاً، من أسرة عريقة في الإسلام، أي أجداده مؤمنون وهو ورث عنهم هذا التقى والاستعداد القويّ للتديّن، ليؤدي واجبه بإخلاص فلا يستغلّ المنصب للغايات الشخصية.

وبالعودة إلى موضوع الطفل وتأثره نجد إذاً أنه من رحم أمّه يحمل مجموعة من الصفات الظاهرية والمعنوية لآبائه وأجداده القريبين والبعيدين، وهناك عوامل كثيرة صغيرة أو كبيرة، مضرّة أو حسنة، تؤثر عليه، فإن كانت المؤثرة هي الحسنة فهنا يبدأ مسلسل حياته السعيدة من بطن أمّه، وإن كان العكس فهو شقيّ من بطن أمّه لأجل هذه التأثيرات التي تولد بشكل استعدادات قد تهذّبها التربية فيما بعد.

والطفل قد يتأثر من بطن أمّه، بالجنون والحمق والعمى والشلل، فمن الطبيعي أن يبدأ الشقاء معه من هناك.

عن الرسول (ص): "الشقي من شقي في بطن أمّه، والسعيد من سعد في بطن أمّه".

سُئل الباقر (ع) عن أَمَة مجنونة قال: "إن كانت عنده أمَة مجنونة فلا بأس بأن يطأها ولا يطلب ولدها".

والإسلام يبيح للزوجة فسخ الزواج إذا بان جنون زوجها، ولم تكن تعرف ذلك.

"ويجب أن يعلم كلّ فرد أنّ التزويج من الأسر المصابة بالجنون أو الحمق أو البلادة أو الإدمان على الخمرة يؤدي إلى تحطيم كيان المجتمع، وهدم قانون التكاثر والتناسل، مما يجرّ معه سلسلة من المعايب والجرائم التي لا تحمد عقباها".

كما عن النبي (ص): "إياكم وتزوّج الحمقاء، فإنّ صحبتها بلاء، وولدها ضياع".

إذاً اكتشف العلم الحديث، مع إنباء الإسلام قبل ذلك بـ(14) قرناً أنّ الصفات الخلقية تنتقل للجنين.

"إنّ قلة الذكاء واختلال القوة العاقلة ينشآن من الخمر والسلوك الإفراطي في جميع جوانب الحياة... ومن بين الدول المتقدمة علمياً وصناعياً نجد فرنسا أكثرها استعمالاً للخمرة في حين أنها أقلّ تلك الدول حصولاً على جوائز نوبل".

وبالمقابل في الإسلام يروى عن الصادق (ع) أنّ: "مَن زوّج كريمته من فاسق فقد قطع رحمها".

ويقول العالم الغربي الدكتور كارل في هذا الصدد: "إن سكر الزوج أو الزوجة حين الاتصال الجنسي بينهما يعتبر جريمة عظيمة، لأنّ الأطفال الذين ينشأون في ظروف كهذه يشكون في الغالب من عوارض عصبية ونفسية غير قابلة للعلاج".

ولا نقول هنا إنّ الذي يولد من أبوين غير مؤمنين يكون العامل المؤثر عليه فقط رحم الأم، بل هو جزء مؤثر أو جزء علة يوفر الأرضية في الاستعداد، ثم تقوم التربية الصالحة أو الطالحة بالتأثير الكبير، وليس الوحيد في سلوك الطفل.

وفي هذا الصدد يقول الرسول (ص) "السعيد قد يشقى، والشقي قد يسعد".

فالرحم يصنع الطفل ويحوّل البويضة الملّقحة إلى إنسان كامل، يحمل جميع الاستعدادات التي كانت في الخلية الملّقحة فتظهر إلى عالم الفعلية في رحم الأم.

إذاً المقدرات التفصيلية للطفل من صلاح وفساد وقبح وجمال، ونواقص وكمالات، ظاهرية وباطنية كلّها تُخطط في الرحم.

لذا نجد الرسول (ص) والأئمة (ع) بالرغم من عنايتهم بأصلاب الآباء وأرحام الأمهات حول سعادة وشقاء الطفل يركّزون اهتمامهم على رحم الأم أكثر، لأنّ الطفل بعد تلقيح البويضة يتغذى من الأم، ولسلامة الأم ومرضها وطهارتها ورذالتها، سكرها وجنونها، أثر مباشر على هذا الجنين. "فالأم تهب نصف المادة النووية وكلّ البروتوبلازم المحيط بالنواة، فهي تلعب دوراً أهم من الأب، إذ إنّ دور المرأة يمتد تسعة أشهر يتغذى الجنين فيها بمواد كيماوية تُرشح من دم الأم من خلال الأغشية".

-        الانحرافات الكامنة:

إنّ الاستعدادات الكامنة المكتومة في سلوك الفرد تبدأ بالظهور إلى الفعلية بعد الولادة، يقول الإمام عليّ (ع) "الأيام توضح السرائر الكامنة".

وعن الجواد (ع): "الأيام تهتك لك الأمر عن الأسرار الكامنة".

وإنّ النماذج الإفراطية من ضعف العقل والاختلال الروحي والبكم والبلادة تدلّك على وجود عيوب وراثية – بدنية وروحية – .

فالإسلام يعد الخُلُق السيء مثلاً مرضاً بل سبباً يؤدي أحياناً إلى اختلالات بدنية فضلاً عن الروحية والعصبية.

فنجد الأمهات المصابات بالأمراض الخُلُقية والمعنوية يلدن أطفالاً مصابين أيضاً بذلك، لكن البعض مع الأسف يعتبر الأمراض الخُلُقية والإنسانية والتقوى أموراً ثانوية في غنىً عنها.

ويعدّ مكابرة إنكار تركّب الإنسان من روح وجسد، وتأثير الجهود الجسمانية على النفس والعكس صحيح، فإنّ الذي يخجل أو يخاف ينعكس هذا الشعور النفساني على الجسد فيصفّر لونه، وإنّ توقف غدة (الثايارويد) عن افراز (الثايروكسين) في بلازما الدم يضيّع الشعور بالأخلاق وتدفق الجمال والإحساس المعنوي، والخبر المفاجىء قد يؤدي مثلاً إلى توقف القلب أو الموت المفاجىء أحياناً، وهذا دليل أخر على الترابط.

-        الأمراض النفسية والوراثية:

إنّ الانحرافات الخُلُقية يسميها الإسلام أمراضاً (أي نفسية) (...فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) (البقرة/ 10).

ويحذر نساء النبي من مرضى القلوب: (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) (الأحزاب/ 32).

يقول الإمام عليّ (ع): "الحقد داء دويّ ومرض موبيّ".

(ولا يقلّ خطر الحسد عن ميكروب الطاعون).

وهناك أثر لهذه الأمراض الخُلُقية والنفسية يتمثل بردّة فعل حاصلة منها في أجساد المصابين بها، فالرجل السيء الخلق ليس مأسوراً للانحراف الروحي فقط، بل إنّ ذلك الانحراف يؤثر في جسمه فيصاب بعوارض مختلفة.

فهناك بعض العادات التي تقلّل من القدرة على الحياة العادية، كالأنانية والحسد والتعوّد على الانتقاد في كلِّ شيء واحتقار الآخرين وعدم الاطمئنان إليهم، لأنّ هذه العادات النفسية السلبية تؤثر على الجهاز السمتاوي الكبير والغدد الداخلية، وبإمكانها أن تؤدي إلى اختلالات عملية وعضوية أيضاً.

والروايات تؤكد ذلك حيث ورد أنّ: "الحسد يذيب الجسد" و"الحسود دائم السقم".

وإنّ الاضطرابات العصبية للأم أثناء الحمل قد توجه ضربات قاسية إلى مواهب الجنين قبل تولّده، إلى درجة أنها تحوّله إلى موجود عصبي لا أكثر، ومن هنا يجب أن تلتفت الأم إلى مدى أهمية دور الحمل ودورها أثناءه في الابتعاد عن الأفكار المقلقة، والهم والغم، والاحتفاظ بجو الهدوء والاستقرار.

ولقد أثبت أطباء الأمراض النفسية أنّ من بين الأطفال المصابين بتلك الأمراض يوجد 26% منهم قد ورثوها من أمهاتهم.

-        الخلاصة:

إنّ القرآن الكريم يعبر عن قوانين الكون – التي تعتبر قوانين الوراثة جزءاً منها – بالسنن الإلهية (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا) (فاطر/ 43). والإنسان جزء من الكون فهو يخضع لهذه السنن، ويتأثر بتلك القوانين منذ اللحظة الأولى التي تنعقد فيها نطفته في رحم أمّه، وفي كلِّ أدوار حياته الأخرى، وهذا الخضوع والانطباق قهريّ لا يختلف ولا يتخلّف، بل قد نجهل الكثير من شروطه وأجزائه، فنرميها بعدم الانطباق.

والعاقل هو الذي يحاول معرفة الشروط فيوفّق بين ميوله وبين السنن الإلهية، ويتجنب ما يخالف الموازين الصحيحة، ليضمن الحياة السعيدة.

يقول الإمام عليّ (ع): "إنّ الله يُجري الأمور على ما يقتضيه لا على ما نرتضيه". فسنن الله ماضية، لا تجري حسب مصالحنا ومشتهياتنا.

يقول الإمام عليّ (ع): "من كابر الزمان غُلب". ويقصد بالزمان القوانين الإلهية التي من ضمنه قوانين الوراثة. ويقول الجواد (ع): "من عتب على الزمان طالت معتبته".

لذا يتحتم على الآباء الذين يريدون أطفالاً سالمين أن يراعوا جميع القوانين التكوينية للجانَبين الجسدي والروحي، فكلّ عيب في سلوك الأطفال مهما صغر سببه التخلّف عن بعض تلك السنن الإلهية.

 

ارسال التعليق

Top