• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

أسباب النزول بين العموم والخصوص

د. نعمان جُغيم

أسباب النزول بين العموم والخصوص

ينبغي الإشارة بداية إلى أنّ السبب الحقيقي في نزول القرآن الكريم هو إصلاح أوضاع المجتمع البشري اعتقاداً وسلوكاً، وهداية الناس إلى أقوَمِ السبل لتحقيق الفوز في الدنيا والآخرة. أما الأسباب الخاصة التي تروى لنزول كثير من الآيات فهي في الغالب مجرد مناسبات اختارتها الحكمة الإلهية لتكون توقيتاً لنزول تلك الآيات حتى يكون ذلك أبلغ في الإصلاح والإفهام، فهي وسائل تربوية بمثابة وسائل الإيضاح المُعينَة على الإفهام، أو هي من باب تخول المناسبات المعينة على التأثير في النفوس، وقد أوضح ذلك شاه ولي الله الدهلوي بقوله: (وقد ربط عامة المفسرين كل آية من آيات الأحكام وآيات المخاصمة بقصة تروى في سبب نزولها، وظنوا أنّها هي سبب النزول. والحق أنّ نزول القرآن الكريم إنما كان لتهذيب النفوس الإنسانية، وإزالة العقائد الباطلة، والأعمال الفاسدة.
فالسبب الحقيقي ـ إذاً ـ في نزول آيات المخاصمة هو وجود العقائد الباطلة في نفوس المخاطبين. وسبب نزول آيات الأحكام إنما هو شيوع المظالم ووجود الأعمال الفاسدة فيهم.. أما الأسباب الخاصة والقصص الجزئية التي تجشم بيانها المفسرون فليس لها دخل في ذلك إلا في بعض الآيات التي تشتمل على تعريض بحادث من الحوادث في عهد النبي (ص) أو قبله، بحيث يقع القارئ بعد هذا التعريض في ترقب وانتظار لما كان وراءه من قصة أو حادث أو سبب، ولا يزال ترقبه إلا ببسط القصة وبيان سبب النزول).
ويقول الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: (… ولكني لا أعذر أساطين المفسرين الذين تلقفوا الروايات الضعيفة فأثبتوها في كتبهم ولم ينبهوا على مراتبها قوة وضعفاً، حتى أوهموا كثيراً من الناس أنّ القرآن لا تنزل آياته إلا لأجل حوادث تدعو إليها، وبئس هذا الوهم فإنّ القرآن جاء هادياً إلى ما به صلاح الأمة في أصناف الصلاح، فلا يتوقف نزوله على حدوث الحوادث الداعية إلى تشريع الأحكام).
وليس معنى هذا إنكار أهمية أسباب النزول في فهم معاني القرآن الكريم أو التقليل من شأنها في ذلك، فعامة المفسرين على أنّ لأسباب النزول أهمية كبيرة في فهم معاني القرآن الكريم وإنما ينبغي أن يكون المقصود منه عدم قصر معاني الآيات التي وردت في أسباب خاصة على تلك الخصوصيات إلا إذا ثبت بالدليل خصوصها بها، والإنكار إنما يكون على مَن يذهب هذا المذاهب. فمع الاهتداء بتلك الأسباب في فهم معاني الآيات فإنّ ذلك لا يمنع من إعطائها ما تحتمله من معاني غير تلك الخصوصيات.
وبناء على السبب العام لنزول القرآن الكريم تقررت قاعدة (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب)، إذ الأحكام الشرعية إنما شرعت لضبط حياة الناس وهدايتهم إلى أقوم السبل، أما أسباب النزول فهي مناسبات اختارتها العناية الإلهية لتكون مناسبة لتشريع الحكم لما سبقت الإشارة إليه من حِكَم، ما لم تقم قرينة تدل على قصر الحكم الذي وردت به الآية على سبب النزول، فإذا قامت تلك القرينة كان الحكم مقصوراً على سببه بإجماع العلماء.

ـ مفهوم سبب النزول في عرف الصحابة والتابعين:
الناظر في استعمال الصاحبة رضي الله عنهم لعبارة (نزلت الآية في كذا) يجد أنّه غير مقصور على أسباب النزول الخاصة، بل يتعداها إلى إطلاقات أخرى يوضحها ما ذكره ابن تيمية في فتاويه وأورده شاه ولي الله الدهلوي في كتابه (الفوز الكبير في أصول التفسير)، من أن استقراء كلام الصحابة والتابعين في مفهوم سبب النزول عند قولهم: (نزلت الآية في كذا) يشير إلى أنّهم يطلقون ذلك على عدة معاني أهمها:
1 ـ المعنى الحقيقي لسبب النزول، وهو بيان الحادث الذي وقع في عهد النبي (ص)، وكان سبباً لنزول تلك الآية.
2 ـ بيان ما تنطبق عليه الآية مما حدث في عهد النبي (ص) أو بعده، فهو بيان لصورة من الصور التي تصدق عليها الآية. وفي هذه الحال يكون المقصود بقولهم (نزلت في كذا) نزلت في مثل هذا، أو في بيان حكم هذا وأمثاله.

ـ الحالات التي يلزم فيها معرفة أسباب النزول لفهم المقصود من الخطاب:
يرى الإمام شاه ولي الله الدهلوي أنّ كثيراً مما يروى من أسباب النزول لا تدعو الحاجة إليه في تفسير القرآن الكريم، وأنّ اعتبار الإحاطة به شرطاً من شروط التفسير فيه تفويت لحظ النفس من كتاب الله تعالى، وحرمان من إدراك روحه وجوهره، وانّ ما فعله البعض من محاولة تقصي سبب نزول لأكثر آيات القرآن الكريم يُعدّ من باب الإفراط.
وإذا أخذنا أسباب النزول بمفهومها العام عند الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، فإنّ النصوص القرآنية التي يتعذر فهمها بغير الاطلاع على أسباب النزول تنحصر في حالتين:
1 ـ معرفة القصص التي تتضمن الآيات القرآنية التعريض بها؛ فإنّ فهم إيماء هذه الآيات وإشارتها لا يتيسر إلا بمعرفة تلك القصص، فالآية في مثل هذه الحالة تكون مبهمة يتوقف فهم المراد منها على العلم بسبب النزول، ومثال ذلك قول الله تعالى: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (المجادلة/1)، وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (البقرة/104).
2 ـ سبب النزول الذي يفيد تخصيصاً لعام، أو تقييداً لمطلق، أو بياناً لمجمل، أو يدفع تشابهاً، وأمثال ذلك مما يُصرفُ فيه الكلام عن ظاهره المتبادر منه، إذ إنّ فهم مقاصد الآيات ومراميها لا يتأتى بدون ذلك.
والخلاصة أنّ ما كان من الآيات تام المعنى بعموم صيغته مستقلاً فهمه عما يورد بشأنها من أسباب النزول، وعن الحادث الذي كان سبباً للنزول فإنّه لا يُحتاج في التعرف على مقصوده إلى استحضار أسباب النزول، وإنما يفتقر إلى استحضار ذلك ما وقع فيه تعريض بخصوص الحادث ومتعلقاته، إذ تكون الحاجة إذ ذاك ماسة إلى معرفة سبب النزول للتمكن من معرفة سياق الحادث وخلفياته، ومن ثمّ حُسن فهم النص وإدراك مقاصده. وهو ما عبّر عنه شاه ولي الله الدهلوي بالاطلاع على فوائد بعض القيود وأسباب التشديد والتأكيد في بعض المواضع التي تتوقف معرفة حقيقتها على معرفة أسباب النزول..

ـ بين عموم الرسالة وخصوص سبب النزول:
قد يبدو أنّ هناك شيئاً من التعارض بين عموم أحكام الشريعة الإسلامية، وكون كثير من الآيات نزلت في مناسبات خاصة مما قد يَفهم منه البعض قصر تلك الآيات على ما نزلت بسببه من أحداث ووقائع، بل إنّ مثل هذا الالتباس قد وقع لبعض الصحابة رضي الله عنهم في فهم بعض الآيات. وقد تنبه علماء المسلمين إلى هذه القضية منذ القرون الأولى، فبحثوها فيما اشتهر بمسألة (هل العبرة بعموم اللفظ أم بخصوص السبب؟).
وبداية يجب التنبيه إلى أنّ القرآن من حيث سبب النزول على قسمين: قسم نزل ابتداء من غير سبب خاص، وإنما اكتفاء بالسبب العام، وقسم نزل بسبب خاص. أما الأول فلا خلاف في عمومه لكل الناس، أما الثاني فهو على أقسام:

القسم الأول: أن يكون اللفظ مكافئاً لسبب النزول من حيث العموم والخصوص، بأن يكون كل منهما عاماً أو خاصاً. ويكون حكمُ اللفظ هنا مساواة السبب، فإن كان السبب عاماً واللفظ عاماً كان اللفظ العام متناولاً كل أفراد سببه في الحكم، ومثال ذلك آيات سورة الأنفال التي نزلت في غزوة بدر، وآيات سورة آل عمران التي نزلت في غزوة أحد. وإذا كان اللفظ خاصاً ونازلاً في سبب خاص فإنّ حكمه مقصور على شخص سببه الخاص، ومثال ذلك قول الله تعالى: (وَسَيُجَنَّبُهَا الأتْقَى *الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى) (الليل/ 17ـ 18)، فقد قيل إنّها خاصة في أبي بكر الصديق على اعتبار (ال) في (الأتقى) للعهد، والمعهود هو الصديق رضي الله عنه.

القسم الثاني: أن يكون السبب خاصاً واللفظ عاماً، وهذا الذي اختلف فيه العلماء: هل العبرة بخصوص السبب أم بعموم اللفظ؟
نُسِبَ إلى أبي الحسن الأشعري والمزني وأبي ثور والشافعي وبعض أصحابه القول بأنّ العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ، أي ان الآيات التي نزلت في أسباب خاصة تثبت أحكامها لمن نزلت فيهم حصراً ولا تعم غيرهم. ولكن لما كان هؤلاء يقرون بعموم الشريعة لكل الناس، وحاجة الناس إلى نصوص تحكم تصرفاتهم، فقد قالوا إنّ ثبوت الأحكام التي نزلت بها تلك الآيات لما يشبه الحالات التي نزلت فيها إنما يكون بدليل آخر، وهو إما القياس بشروطه، بأن يقاس بقية الناس على سبب النزول، أو قول الرسول (ص) (حكمي على الواحد حكمي على الجماعة). وقد استدل هذا الفريق بأدلة لا داعي لإيرادها في هذا المقام، ومَن أراد تفصيلها فلينظرها في مواطنها.
أما جمهور العلماء فقد ذهبوا إلى أنّه ما دام اللفظ عاماً فإنّ الحكم يتناول كل أفراد اللفظ، سواء منها أفراد سبب النزول، وغيرها مما يمكن أن ينطبق عليه.
وأقوى دليل على ما ذهب إليه الجمهور من أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب هو أنّ الشريعة قد نزلت عامة زماناً ومكاناً وأشخاصاً، دلّ على ذلك نصوص كثيرة، منها قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (سبأ/28)، وقوله: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) (الأعراف/158)، وكونها هي الشريعة الخاتمة يؤكد ذلك. وما دامت الشريعة عامة فلا يعقل حصر نصوصها في أسباب محدودة وأشخاص معدودين، وإنما يكون الأصل عموم أحكامها إلا ما دلّ دليل على خصوصيته فإنه يقصر على ما جاء خاصاً فيه. وإنما أسباب النزول الخاصة ـ كما سبقت الإشارة ـ في أغلبها مناسبات اختارتها العناية الإلهية لتكون مناسبة لتنزيل بعض الأحكام ليكون ذلك أبلغ في التأثير والإفهام.
وقد استدل الجمهور على مذهبهم بأدلة أبرزها احتجاج الصحابة رضوان الله عليهم بعموم تلك الألفاظ مع ورودها على أسباب خاصة من غير لجوء إلى القياس أو إلى أي دليل خارجي لتعدية الحكم من سبب النزول إلى ما يشبهه.
والخلاصة أنّ الفريقين متفقان على أن ما نزل من الأحكام بصيغة العموم فهو على عمومه ولو كان وارداً في سبب خاص، وإنما الخلاف في طريقة تعدية الحكم: هل هو بعموم اللفظ مباشرة دون حاجة إلى دليل خارجي، أم بواسطة دليل آخر؟ وفي ذلك يقول ابن تيمية: (والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب: هل يختص بسببه أم لا؟ فلم يقل أحد من علماء المسلمين: إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخصين المعين، وإنما غاية ما يقال: إنّها تختص بنوع ذلك الشخص، فيعم ما يشبهه ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ. والآية التي لها سبب معين إن كانت أمراً أو نهياً فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته).

المصدر: كتاب طرق الكشف عن مقاصد الشارع

ارسال التعليق

Top