• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الإرادة الإلهية عند علماء الكلام

علي الهبداشتي

الإرادة الإلهية عند علماء الكلام

   تحتل مسألة معرفة الله تعالى المرتبة الأولى من حيث الأهمية من بين سائر المعارف البشرية، لكن حيث إنّ الذات المقدسة، وكما يصفها الإمام علي (ع): "لا يدركه بُعد الهمم ولا يناله غوص الفطن" فمن الأفضل التمعن في كلام الإمام علي بن موسى الرضا (ع) حيث يقول: "إنّ الله عزّ وجلّ تدرك معرفته بالصفات والأسماء..." أي أنّ "الصفات والأسماء تدل على الكمال ووالوجود" فلابدّ من التعرف على صفاته تعالى لنشق من خلالها جدولاً يصب في بحر وجوده اللامتناهي، لتعود نفوسنا بيتاً من البيوت (أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) (النور/ 36).

الخوض في تفاصيل الأبواب المتعلقة بصفاته تعالى، خارج عن طاقة هذا البحث، فسنقتصر في بحثنا هذا على باب من أبواب معرفة صفاته تعالى، أو إرادته، وذلك بوحي من كتابه الكريم، مع التدبر في أقوال نبيه الأكرم (ص) وأوصيائه الأطهار (ع) وسالكي صراطه المستقيم على أمل أن نوفق في تمييز الحق من غيره من أقوال لتلك الثلة من الفلاسفة والمتكلمين وأصحاب الحديث الذين شحنوا تاريخ علم الكلام بنزاعاتهم التي لا تسمن ولا تغني من جوع. وحيث إنّ الإرادة هي من صفاته تعالى، فلابدّ أوّلاً من القاء نظرة عامة على صفاته تعالى للوقوف عليها، ثمّ الخوض في آراء الفرق المذكورة في باب الصفات ليتسنى لنا في ختامة المطاف البحث في المسألة الأساسية ألا وهي الإرادة الإلهية.   - صفاته تعالى على رأي مختلف المذاهب: البحث عن صفاته تعالى يمكن أن يتم من جهتين: 1- من خلال معرفة الوجود (النظرية الكونية). 2- من خلال نظرية المعرفة. طبقاً للنظرية الأولى يمكن القول بأنّ: صفاته تعالى هي كمالات وجوده اللامتناهية والمتحدة مع ذاته البحتة البسيطة اللامتناهية. من خلال النظرية الثانية، نريد التعرف على كيفية إمكان صب ما اكتسبناه عن طريق العقل أو الوحي أو الإلهام في قالب المفاهيم بحيثُ يكون حاكياً عن مصاديق اللامتناهي، ونواجه هنا هذا المحذور، وهو أنّ عملية وصفنا للذات اللامحدودة بالمفاهيم التي هي محدودة، يعني تقييدها بالتقيد المفهومي، لكن على أيّة حال لابدّ من هذه الألفاظ في مقام الوصف والتسليم أخيراً لـ(سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (الصافات/ 159). ونظراً إلى ضرورة البحث عن هذه المسألة، بشكل مقارن بين الحكماء والمتكلّمين وأصحاب الحديث، فمن الأفضل الدخول في لب الموضوع دون الإطالة. سنتناول أوّلاً رأي المتكلمين (المعتزلة والأشاعرة والشيعة الامامية) ثمّ آراء أصحاب الحديث (الشيعة الامامية وأهل السنة) وأخيراً نستعرض كلمات حكماء الإسلام المتعلقة بصفاته تعالى لنقف على ما يطابق العقل بحسب تشخيصنا، حتى نتفرغ أخيراً للبحث الأصلي وهو الإرادة الإلهية.   - رأي المتكلمين في صفات الله تعالى: 1- المعتزلة: ينقسم رأي المعتزلة بشكل عام إلى ثلاثة أقسام: أ- نظرية واصل بن عطاء واتباعه الذين أنكروا الصفات الإلهية، وقالوا بنيابة الذات عن الصفات. ب- نظرية أبي الهذيل العلاف ومؤيديه الذين اعتقدوا باتحاد الصفات مع الذات وقالوا باتصاف الله تعالى بصفات هي عين ذاته. ج- نظرية أبي هاشم واتباعه الذين اعتقدوا بـ"الحال" وقالوا في تعريفه: "الحال صفة لموجود لا موجود ولا معدوم" كما افترضوا مثل هذه الحالة بالنسبة لصفات الله تعالى – أي "لا هي الله ولا سواه". 2- الأشاعرة: تقريباً يمكن الحكم باتفاقهم على القول بقدم الذات وبوجود صفات الله تعالى زائدة على الذات قديمة بقدمها، أي كما صرح بذلك أبوالحسن الأشعري مؤسس هذا المذهب حيث يقول: "انّ لله صفات زائدة على الذات لازمة لها قديمة بقدمها". وفي معرض إثبات رأيه يؤكد: "كما أنّ الأفعال تدل على أنّ الله تعالى عالم، قادر ومريد (أي صاحب إرادة) فهي تدل كذلك على العلم والقدرة والإرادة... لا شك من اتصاف العالم بصفة العلم، والقادر بصفه القدرة، والمريد بصفه الإرادة... وبالجملة نقول: الباري تعالى عالم بالعلم، وقادر بالقدرة وحيّ بالحياة، ومريد بالإرادة و... وإنّ هذه الصفات أزلية قائمة بذاته تعالى ولا نقول بأنها عين ذاته ولا هي غير ذاته تعالى". وقد سلك مشايخ المذهب الأشعري سبيل الأشعري نفسه، غير أنّ الغزالي اطلق اسم "الأعيان الثابتة" على هذه المعاني، وقال: "اعلم انّ الصفات السبعة: العلم، الحياة، القدرة، الإرادة، السمع، البصر، والكلام، الزائدة على الذات هي (الأعيان الثابتة) ومعنى الأعيان الثابتة، هو أنّ هذه الصفات لا هي عين الذات ولا هي خارجة عن الذات...". 3- متكلمو الإمامية: أغلب أفكار هؤلاء نشأت من مدرسة الوحي وورثتها الأئمة الهداة (ع). وقد لا نتردد في القول باتفاقهم على مقولة عينية الصفات للذات، لا كالمعتزلة المنكرين للصفات، ولا كالاشاعرة القائلين بوجود صفات زائدة على الذات، أي كما يقول الشيخ المفيد: "أقول انّ الله عزّ وجلّ اسمه حي لنفسه لا بحياة، وانّه قادر لنفسه وعالم لنفسه لا بمعنى ما ذهب إليه المشبهة من أصحاب الصفات، والأحوال... وهذا مذهب الإمامية عامة...". وقد وافقه على رأيه هذا، العلماء الذين خلفوه مثل الشريف المرتضى والشيخ الطوسي والخواجة نصير الدين الطوسين وباقي أعلام الإمامية وإلى العصر الحاضر. فهذا الخواجة نصير الدين الطوسي يقول: "وجوب الوجود يدل على نفي المعاني والأحوال والصفات الزائدة عيناً" أي انّ كون الحق تعالى واجباً للوجود يدل على نفي المعاني والأحوال والصفات الزائدة، مشيراً فيه إلى ردِّ رأي أبي هاشم وأصحاب الحديث من أهل السنة والأشاعرة.   - رأي أصحاب الحديث: نظراً للبون الشاسع بين آراء أصحاب الحديث من أهل الحديث السنة والامامية في هذا المجال، فلابدّ من ذكر آرائهم تلك كلٍّ على حدة. 1- أصحاب الحديث من أهل السنة: وهم أتباع أصحاب الصفات القدماء الذين يعتقدون بزيادة الصفات على الذات، وقد خَطَوْا خُطُواتٍ أوسعَ من الاشاعرة في هذا المجال، كما قالوا أيضاً بثبوت الصفات الجسمانية لله تعالى تمسكاً بظواهر الآيات، نظراً لتعطيلهم لأي تأويل أو تفسير للآيات والروايات، والقيام بحملها كلها على المعنى الظاهري، يقول الشهرستاني في مقام توضيح عقائدهم: "أهل الصفات نسبوا لله تعالى صفات أزلية من قبيل العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والكلام والإكرام... وكذلك بعض الصفات التي ثبتت عن طريق الأخبار والتي أطلقوا عليها الصفات الخبرية مثل اليدين والوجه، كما منعوا من مطلق تأويلها... وكانت هذه هي طريقة أحمد بن حنبل و...". 2- أصحاب الحديث من الشيعة الإمامية: من بين أهل الحديث المتقديمن يمكن ذكر الشيخ الصدوق الذي تحدث كثيراً حول عقائد الامامية وألف في ذلك كتباً كثيرة أيضاً، كما قام بارجاع الصفات الثبوتية لله تعالى إلى نفي الصفات السلبية عنه، حيث يقول: "مرادنا من كل الصفات الثبوتية لله تعالى التي نصفه بها، هو نفي ضدها عن ذاته المقدسة". لكن عقيدة الصدوق هذه لم تلقَ قبول اخلافه من أصحاب الحديث الذين سلكوا الطريق نفسها التي سلكها متكلموا الامامية والحكماء الإلهيون، فيما يتعلق ببيان صفاته تعالى، ومن هنا سنغض الطرف عن التعرض لآرائهم قصداً للاختصار.   -رأي الحكماء: الحكماء المسلمون من المشائين والإشراقيين وانصار الحكمة المتعالية، يعتقدون بعينية الذات للصفات، كما عبر عن ذلك المعلم الثاني الفارابي: "قولنا الله حي، يعني كونه تعالى عين الحياة...". كما أنّ الشيخ الرئيس ابن سينا، وعن طريق القاعدة الفلسفية القائلة بأن "واجب الوجود بالذات واجب في جميع الجهات"، قام باثبات كل الصفات الكمالية وبعينيتها للذات، كما ويرى لها مفهوماً واحداً في ساحة الباري جلت قدرته. صدر المتألهين الذي تعد حكمته "الحكمة المتعالية" نقطة الانعطاف في تاريخ الفكر الفلسفي في العالم الإسلامي، يقول: "واجب الوجود، وإن وصف بالعلم والقدرة وغيرها، لكن ليس وجود هذه الصفات فيه إلا وجود ذاته بذاته، فهي وإن تغايرت مفاهيمها لكنها في حقه تعالى موجودة بوجود واحد" كما انّ اتباع الحكمة المتعالية هم أيضاً على مثل هذا القول.   - إرادة الله تعالى من وجهة نظر المدارس الفكرية: تعد مسألة أرادة الله تعالى من بين المسائل الفكرية والفلسفية المهمة التي خضعت للبحث والنقاش على طول التاريخ الإسلامي، والبحث عن إرادة الله تعالى يمكن أن يتم من خلال نظريات ثلاث: أ- رأي النظرية الكونية، أي أإنَّ الله تعالى متصف بصفة المريد في مرتبة الذات، أم أنّ الإرادة هي مجرد صفة لفعله تعالى؟ أوَ إن ارادته تعالى هي صفة قديمة، أم حادثة؟ وعلى الأوّل أهي عين الذات، أم زائدة على الذات؟. ب- من خلال نظرية المعرفة، أي ما هي الكيفية التي نطلق بها هذا اللفظ على الله تعالى بحيثُ يتناسب ومقامَ الربوبية. ج- من حيث ارتباطُ إرادة الله تعالى بإرادة الإنسان، وبعبارة أخرى البحث في الجبر والاختيار. الآن ولبيان حقيقه الإرادة بشكل مقارن، سنتناول الأبعاد الفكرية للمذاهب الخاضعة للبحث وتقييمها طبقاً لنظرتي الكون والمعرفة المتقدمتين.   - رأى المتكلمين في الإرادة الإلهية: 1- المعتزلة: أغلبهم، مثل واصل بن عطاء والسائرين على منهجه، قالوا بنفي صفة الذاتية عن الإرادة، بالضبط مثل نفيهم لتعلق الصفات بالذات من قبل، لكن بعضهم مثل أبي الهذيل العلاف والجبائي وأبي هشام، قالوا بحدوث الإرادة طبقاً للنظرية الكونية، في حين اعتبرها بعضهم الآخر مثل عبدالجبار، صفة للفعل لا في محل. أما من جهة نظرية المعرفة فبعضٌ مثل النظام وأبي القاسم البلخي، قد فسر الإرادة بصفة السلب وبعدم اضطرار الله تعالى إلى الفعل، في حين أنّ بعضهم الآخر مثل أبي الهذيل وأبي الحسن البلخي والنظام قد اعتبر إرادة الله تعالى من سنخ الإدراك وفسرها بـ"اعتقاد النفع" في أفعاله، كما سماها أبو الحسين بـ"الداعي". 2- الاشاعرة: يعتقد هؤلاء – وكما ذكرنا سابقاً – بزيادة الصفات على الذات وبقيامها بها، إذن فالإرادة – وحسب المنظار الأوّل – هي إحدى الصفات السبع القديمة الزائدة على ذاته تعالى، وهي المخصص لأحد المقدورين قياساً إلى قدرته تعالى بالحفاظ الثاني، أي أنّه لابدّ من مخصص غير القدرة التي شأنها الإيجاد مع تساوي نسبتها إلى الجميع، ليقدم أو يؤخر بعض الممكنات المتساوية النسبة بعضها على بعض في مرحلة التحقق الخارجي، وذلك المخصص هو الإرادة، أي كما قال صاحب كتاب "المواقف" في تعريفه للإرادة في كتابه هذا الذي يُعد من الكتب المعتبرة في الفكر الاشعري: "صفة مخصصه لأحد طرفي المقدور بالوقوع". فالخلاصة هي أنّ الاشاعرة يقولون: بالإرادة في كل من مقامي الذات والفعل معاً. 3- متكلموا الامامية: أن تقارب وجهات نظر متكلمي الامامية في بحث الصفات، لا يمكنه أن يغطي اختلافهم بالرأي في مبحث الإرادة الذي هو مما لا يخفى، بعضهم أمثال الشيخ المفيد والشيخ الطوسي – يعتبرها من صفات الفعل- أي كما يقول الشيخ المفيد: "انّ الإرادة من الله جلّ اسمه نفس الفعل...". وبعضهم الآخر – أمثال السيد المرتضى والخواجة نصير الدين الطوسي – يقول: بالإرادة الذاتية لله تعالى. فهذا السيد المرتضى يقول: "فوصفه عند التحقيق بانّه مريد ليس من صفات الأفعال...". والخواجة نصير الدين الطوسي في شرح رسالة العلم نراه يقول: "كانت القدرة والعلم والإرادة شيئاً واحداً في ذاته مختلفاً بالاعتبارات العقلية..." بمعنى انّ القدرة والعلم والإرادة مصداقاً واحداً في ذاته تعالى بلحاظ النظرية الكونية ومفاهيم متعددة متغايرة من ناحية المفهوم. الخواجة نصر الدين الطوسي يفسر الإرادة بـ"الداعي" الذي يعيّن العلم بالمصلحة والخير في الفعل ويقول: "وليست زائدة على الداعي وإلا لزم التسلسل أو تعدد القدماء" وبعض – كالشيخ الطوسي – ينفي الإرادة الذاتية، ويعتبرها صفة حادثة من صفات الفعل مستقلة عن الموصوف.   - رأي أصحاب الحديث: 1- أصحاب الحديث من أهل السنة: الإرادة في نظر هؤلاء – وكما تقدم في باب الصفات – صفة زائدة على الذات بلحاظ نظرية الوجود الكونية، وهي المشيئة والشوق بلحاظ نظرية المعرفة، أي كما يقول عبدالقادر البغدادي عن عقيدة أهل السنة والجماعة: "اتفق أهل السنة على انّ إرادته تعالى هي مشيئته وشوقه وتعلق إرادته يكون بشيء تكون كراهته في عدمه...". 2- أصحاب الحديث من الشيعة الامامية: بعض هؤلاء ، نظير ثقة الإسلام الكليني صاحب أصول الكافي والشيخ الصدوق والعلامة المجلسي صاحب بحار الأنوار اعتبر الإرادة – واستناداً إلى بعض الروايات – من صفات الفعل وانّ إرادته تعالى هي عين الخلق والإيجاد. اما أصحاب الحديث المتأخرون كالفيض الكاشاني، فيقولون بالإرادة في مرتبتي الذات والفعل، إذ يقول في بيان الإرادة الذاتية: "انّ الإرادة والمشيئة أيضاً لهما معنىً ثابت في الأزل وهو كون ذاته بذاته في الأزل يكفي علمه بالخبر في خلقه إياه على حسب القدرة والاختيار فيما لا يزال وهو من صفات الذات".   - رأي الحكماء: بعضٌ من أقطاب الفلسفة كالفارابي، ابن سينا، شيخ الإشراق، والملا صدرا، يرى الإرادة ثابتة في مرتبة الذات بلحاظ النظرية الكونية، كما يقول الفارابي: "يجب أن يكون في الوجود وجود بالذات... وفي الإرادة إرادة بالذات حتى تكون هذه لأمور في غيره لا بالذات". وقال ابن سينا في إثبات الإرادة في "المبدأ والمعاد": أما واجب الوجود فلا يجوز أن تكون ذاته حاملة لإرادة وقدرة غير الماهية... المعقولة التي هي ذاته...". ويقول صدر المتألهين في إثبات الإرادة الذاتية: "انّ كل كمال يلحق بالأشياء بواسطة الوجود فهو مبدأ الوجود لذاته ولغيره بسببه فهو تعالى الحي... المريد بذاته لا بالصفات الزائدة". بديهي انّ اثباتهم للإرادة في مرتبة الذات، ينطوي على إثباتها في مقام الفعل أيضاً، فهذا الملا صدرا يعتبرها من أجل ضروب الإرادة، لكن تفسير الإرادة لا يخلو من الخلاف بين ابن سينا وصدر الحكماء والمتألهين فابن سينا يعتبر الإرادة عين العلم من ناحية المفهوم، حيث يقول: "... فواجب الوجود ليست إرادته مغايرة الذات لعلمه ولا مغايرة المفهوم لعلمه..." أي أنّ إرادته هي عين علمه سواء من جهة الذات أو المفهوم. في حين أنّ صدر المتألهين يرى الإرادة نفس العلم مصداقاً لا مفهوماً، كما أشرنا إليه في بحث الصفات، يقول الملا صدرا في تفسير الإرادة: "الإرادة والمحبة معنىً واحد، كالعلم، وهي في الواجب تعالى عين ذاته، وهي بعينها عين الداعي". كما سار أتباع الملا صدرا على منواله هذا نفسه كالسبزواري والملا عبدالله الزنوزي في اثبات وجود الإرادة الذاتية وتفسيرها، وقد تركناها مراعاة للاختصار.   - تحليل وتقويم للآراء: تعرفنا فيما تقدم على شتى نظريات المذاهب الفكرية في باب الصفات، وخصوصاً الإرادة الإلهية، لكن ما هو الصواب من بين تلك الآراء يا ترى؟. إنّ رأي تلك المجموعة من الحكماء الإلهيين والمتكلمين، وأصحاب الحديث القائلين بعينية صفاته تعالى لذاته مصداقاً، وتغايرهما مفهوماً، وببداهة كونه تعالى مريداً في كل من مرتبي الذات والفعل، وبأنّ "الإرادة" صفة وجودية متحددة مع سائر الصفات الكمالية بلحاظ النظرية الكونية، وبإفادتها لمعنىً يقرب من معنى الحب والعلم، بلحاظ نظرية المعرفة، هذا الرأي هو الذي يمثل الحق، وهذه الدعوى تؤيدها الأدلة الفعلية والنقلية.   - الأدلة العقلية والنقلية: 1- قد ثبت بالبراهين القاطعة لحكماء الإسلام بساطة حقيقة واجب الوجود بالذات، ووجوبه من جميع الجهات، أي أنّ الواجب بالذات وجود بحت لا يسلب عنه أي كمال وجودي، إذ على حد قول الفارابي وتأييد وتأكيد ابن سينا وصدر المتألهين، لابدّ أن يكون في ساحة الوجود وجود بالذات وفي العلم علم بالذات والإرادة إرادة بالذات، ليتحقق في غير الواجب بنحو امكاني وغير ذاتي، إذ انّ فاقد الشيء (الكمال) لا يعطيه. 2- الأدلة النقلية من الآيات والروايات في اثبات صفات الجمال والكمال، وكونه تعالى مريداً هي مما لا يعد ولا يحصى من جملتها القرآن الكريم، حيث يقول تعالى: (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإكْرَامِ) (الرحمن/ 78)، وقد فسر المفسرون الجلال بالصفات السلبية، والجمال بالصفات الثبوتية. كما اكتفينا من بين كل تلك الروايات المنقولة عن النبي (ص) أئمة أهل البيت (ع) بذكر رواية واحدة عن الإمام الصادق (ع)، يثبت فيها – اثباتاً صريحاً – عينية صفاته تعالى لذاته: "عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبدالله (ع) يقول: لم يزل الله عزّ وجلّ ربنا والعلم ذاته ولا معلوم، والسمع ذاته ولا مسموع، والبصر ذاته ولا مبصر، والقدرة ذاته ولا مقدور". بهذه الرواية تثبت عينية الصفات للذات المتعالية وقدمها، وبأنّ كل واحد منها عين الأخرى. والآن نستعرض الآيات والروايات الواردة في باب الإرادة الإلهية: أ- الآيات الدالة على كونه مريداً نظير (فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) (البروج/ 16)، و(فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا) (الفتح/ 11). ب- الروايات: يقول الإمام علي (ع): "مريد لا بهمة، صانعة لا بجارحة". وهذه الصفة نعتبرها ثابتة في مرتبة الذات بدليل الرواية التالية: "والإرادة في المراد قبل قيامه". كما نقول بثبوت الإرادة في مقام الفعل، ونعتبر إرادته تعالى في مرتبة الفعل عين فعله، بدليل هذه الرواية: "فإرادته إحداثه لا غير ذلك... فإرادة الله الفعل لا غير ذلك". والذي عليه الإمامية هو انّ إرادة الله تعالى إرادة مطلقة، ولا يتنافى هذا مع كون الإنسان مريداً ومختاراً، لأنّ إرادة واختيار الإنسان هي موهبة إلهية في طول الإرادة الإلهية، لا في عرضها، ليستلزم إثبات احداهما نفي الأخرى.   المصدر: مجلة التوحيد/ العدد 80 لسنة 1996م

ارسال التعليق

Top