البنكرياس غدّة بيضاء اللون أو صفراء فاتحة، وهي ليّنة القوام ومتوضِّعة خلف المعدة في العروة الاثني عشرية.
تفرز البنكرياس العديد من الخمائر الهاضمة والتي من أهمها: التريبسين Tripsin والكيموتريبسين Chymotripsin والأميليز Amylase واللايبيز Lipase والكوليبيز Colipase والإلاستيز Elastase والكاليكرين Kallikrein والكاربوكسي بيبتيديز Carboxypetidase والرايبونوكلييز Ribonuclease والديؤوكسي رايبونوكلييز Deoxyribonuclease وغيرها كثير. تقوم هذه الخمائر بهضم كافة المواد الغذائية البروتينية منها أو الدهنية أو السكرية. يتم ضخُّ هذه الخمائر في قناة البنكرياس التي تعبر الغدة من نهايتها إلى بدايتها حيث تصبّ في الاثني عشر من خلال معصِّرة عضلية تعمل كالصمّام وتخضع للعصبين: الباراسيمبتاوي الذي يُرخيها أو يفتحها، لتسمح بعبور الخمائر إلى الأمعاء، والسيمبتاوي الذي يقلِّصها، وبذلك فإنّه يُغلق السبيل أمام الخمائر.
كما تحتوي البنكرياس على نسيج غديٍّ أصمّ يفرز هورمونات عدّة في الدم مباشرة، وهي لا تشارك في عملية الهضم. من هذه الهورمونات الإنسولين الذي ينظِّم نسبة السكر في الدم، والغلوكاكون الذي يعاكس مفعول الإنسولين.
أمّا العوامل التي تحرِّض نشاط البنكرياس الهضمي فإنّها مشابهة لما رأيناه في المعدة والمراحل هي ذاتها تقريباً:
1- المرحلة الدماغية:
ما إن يرى الإنسان طعاماً شهياً أو يشمّ رائحته الزكية حتى تتهيَّج مراكز متخصِّصة في دماغه فتثير شهيته، وفي الوقت ذاته ترسل هذه المراكز سيّالة عصبية مهيِّجة إلى مراكز العصب المبهم Vagus في البصلة السيسيائية. وبتهيُّج هذه المراكز تنطلق وبسرعة خاطفة سيّالة عصبيّة عبر العصب المذكور لتطلق مادة الأسيتايل كولين acetyl choline من نهاياته العصبية الدقيقة التي تبلغ بتفرعاتها الغزيرة خلايا البنكرياس كافة.
تخرج هذه المادّة من نهاية الألياف العصبية لتتوضَّع في مراكز استقبال خاصة بها على جدار خلايا البنكرياس. وبتحرُّض هذه المراكز ستثار الخلايا وستبدأ عملية تصنيع خمائرها الهاضمة في الشبكة الإندوبلازمية بمساعدة إنزيمات أجهزة غولجي والميتوكوندريا، ثمّ تتجمَّع المفرزات الغنية بالخمائر الهاضمة على الناحية الأخرى من الخلية الملاصقة لقنيَّات البنكرياس على شكل حويصلات إفرازية استعداداً لطرحها في قناة البنكرياس، ومن ثمّ في الاثني عشر.
أمّا آلية تصنيع وإنتاج هذه الخمائر فهي في غاية الدقة والتعقيد.
2- المرحلة المعدية:
عندما تمتلئ المعدة بالطعام تتحرَّض خلايا G في جدارها، فتفرز هورمون الغاسترين الذي سيذهب مع الدم إلى خلايا البنكرياس، فيحرِّضها على إنتاج خمائرها الهامضة تماماً كما يحرِّض إنتاج حمض كلور الماء في المعدة.
3- المرحلة المعوية:
بعد بلوغ الكيموس الاثني عشر والجزء العلوي من الأمعاء الدقيقة سيُنتج هذا العضوان هرمون الكوليسيستوكينين CCK الذي سيبلغ خلايا البنكرياس من طرق الدم فيستقرُّ في المراكز المخصَّصة له على جدارها فيحرِّضها على إنتاج المزيد من عصارتها الغنيّة بالخمائر الهاضمة.
يقوم بالتحرض نفسه مواد معوية – اثني عشرية أخرى كالسيكريتينين والـVIP وغيرها.
وإذا كانت حموضة الكيموس شديدة، تنطلق مواد كيميائية من مخاطبة الاثني عشر والأمعاء الدقيقة كالسيكريتين وغيره لتحرِّض خلايا أخرى متخصِّصة في البنكرياس Centro-aciner cells والخلايا المبطِّنة لأقنية البنكرياس فتفرز كمية مناسبة من الماء ومن بيكربونات الصوديوم تكفي لتعديل الحموضة الزائدة للكيموس.
عندما يبلغ تحريض البنكرياس أشدَّ، ستزداد كمية عصارتها من (0.3مل) في الدقيقة الواحدة إلى (5 مل)، أي سيزداد الإنتاج أكثر من (15) ضعفاً.
أثناء ذلك ترد تيارات عصبية باراسيمبتاوية إلى قناة الغدة فتقلِّصها لتدفع بمحتواها عبر معصِّرة أودِّي التي تنصاع هي الأخرى للأوامر العصبية فتسترخي لتسمح بعبور عصارة البنكرياس إلى القناة الهضمية من دون مقاومة تذكر.
نرى مدى أهمية هذه المعصِّرة أو هذا الدسام الأمين إذا علمنا أن بقاء المعصِّرة مفتوحة على الدوام قد يؤدّي إلى دخول الطعام وحامض المعدة والجراثيم إلى قناة البنكرياس فتسدَّها لتسبب إلتهابها وتخرُّبها، وهي حال وخيمة.
عندما تلتقي خمائر البنكرياس باللحوم والبروتينات الغذائية وبالدهون والنشويات والسكريات فإنها ستذيبها وستهضمها وتحلِّلها إلى موادَّها الأساسية البسيطة التي تتركّب منها فتصبح جاهزة للمرور عبر جدار الامعاء إلى الدورة الدموية البابيّة (وهذا ما نسميه بالإمتصاص).
فإذا كان الهضم وظيفة هذه الغدّة، فلماذا لا تهضم نفسها؟ علماً بأنها مكوَّنة من المواد نفسها التي سُخِّرت لهضمها؟ أليست هذه معجزة تستحق الوقوف والتأمل وبإمعان كبير؟ كيف تُنتج خلايا البنكرياس الضعيفة الرخوة والمتناهية في الصغر هذه الخمائر الهاضمة من دون أن تفتك بها هذه الخمائر؟ لماذا لا تشرع هذه الخمائر بأداء مهمّتها وهي ما زالت داخل مصنعها الخلوي الذي لا يزيد قطره عن بضعة ميكرونات (والميكرون واحد من ألف من الميليميتر)؟ هل تسلّحت هذه الخلايا الرخوة بدروع حديدية لتقاوم ولتحمي نفسها؟ أم ماذا؟
الجواب سرٌ من أسرار الخالق لا يعلمه إلا هو سبحانه. إنّه إعجاز علميٌّ إلهيٌّ أراد منه العليُّ القدير لفت أبصارنا وبصيرتنا إلى عظيم قدرته وحكمته وعلمه الواسع جل جلاله.
ولكي تدرك عزيزي القارئ أهمية هذا الخلق الفذّ، عليك أن تعلم أنّ البنكرياس ستهضم نفسها في حالات مرضيّة معيّنة، أهمها تعاطي المشروبات الكحولية التي حرّمها ربّ العزّة والجلال، وعند انسداد قناة البنكرياس بحصيّات مرارية أو بغير ذلك. عندها فقط سيختلُّ بنيان ونسيج هذه الغدة فتفقد حصانتها ومناعتها تجاه خمائرها التي ستهضمها وتفتك بها، ثمّ تنطلق هذه الخمائر كالجنود الغازية أو كالسرطان الخبيث فتفتك بكل ما تصادفه من أعضاء في البطن فتهضمها وتذيبها وتجعلها سائلاً مستحلباً.
هذه الحال شديدة الوخامة وهي سبب مباشر للموت في الغالبية العظمى من الحالات.
إني أتساءل وأقف مذهولاً وخاشعاً أمام عظمة الخالق الحكيم كلما جالت في خاطري هذه الحقيقة العلمية وكلّما شاهدتها في الجراحات التي نجريها لمثل هذه الحالات: يا ترى لماذا لا تهضم خمائر البنكرياس نسيج الاثني عشر والأمعاء عندما تكون في مكانها المعتاد (أي داخل تجوفهما) بينما تهضمهما كما تهضم غيرها من أعضاء البطن وتفتك بها فتتموَّت وتتحوّل إلى أشلاء إذا لامستها من السطح؟
علماً أنّ سطح الأمعاء مدرَّع بغطاء بريتواني وبطبقتين عضليتين أقوى بكثير من الغشاء المخاطي الواهن الذي يبطِّن جدارها والذي لا يتأثر إطلاقاً بعصارة البنكرياس الهاضمة!؟
أليس هذا من العجب العجاب؟ ألا تسطع هذه الحقائق العلمية المذهلة بنور الحقِّ سبحانه؟ ألا تبيِّن مدى عظمة الخلق وحكمة الخالق وعلمه المذهل جل جلاله؟
(وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (الذاريات/ 20-21).
(مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (يونس/ 5).
(هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) (لقمان/ 11).
المصدر: كتاب الإعجاز الإلهي في خلق الإنسان
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق