• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الإيقاع التناغمي في الذرّات

هارون يحيى

الإيقاع التناغمي في الذرّات

"إذا كانت العقول الراقية في العالم لا تستطيع أن تحل ألغاز أعمال الطبيعة العميقة إلا بصعوبة فقط، فكيف يمكن افتراض أن تلك الأعمال هي مجرد صدف لا عقلانية، وأنها ناتجة عن مصادفة عمياء" (بول ديفز/ أستاذ الفيزياء النظرية)
يعتقد العلماء حسب الحسابات التي بنوا عليها نظريتهم أنّ الإنفجار العظيم حدث قبل حوالي سبعة عشر بليون سنة، وأنّ كل المادة التي صنع منها الكون خُلقت من العدم؛ ومع ذلك فالكون القديم الذي انبثق من الإنفجار العظيم قد يكون أكثر اختلافاً عن ذلك الذي انبثق لنا ونعيش فيه الآن.
فمثلاً: إذا كانت قيم القوى الأربع الأساسية مختلفة، فالكون سيكون مكوناً فقط من الإشعاع ويصبح نسيجاً من الضوء وبدون نجوم ومجرات وكائنات بشرية، أو أي شيء آخر، لذلك يعود الفضل في وجود الكون للتوازن الكامل غير العادي للقوى الأربع التي أنتجت الذرات، تلك القطع البنّاءة التي ظهرت منها المادة للوجود.
والعلماء أيضاً في اتفاق عام وهو أنّ أوّل عنصرين بسيطين ظهرا في الكون هما عنصرا الهيدروجين والهليوم، حيث تشكل هذان العنصران خلال الأربع عشرة ثانية الأولى بعد الإنفجار الكبير. ثمّ تكشّلت العناصر الأخرى نتيجة لإختزال في الأنتروبي الكوني والذي كان يسبب تبعثر المادة في كل مكان. وبكلمة أخرى، كان الكون في البداية عبارة عن أكداس من ذرات الهيدروجين والهليوم، ولو بقيت هكذا فقد لا يوجد اليوم نجوم أو كواكب أو حجارة أو تربة وأشجار أو مخلوقات بشرية، وسوف يكون كوناً لا يصلح للحياة ويحتوي فقط على هذين العنصرين.
إنّ الكربون يمثِّل هو عنصر الحياة الأساسي وهو عنصر أثقل من الهيدروجين والهليوم، ولكن كيف أتى للوجود؟
وفي بحثهم عن إجابة على هذا السؤال، عثر العلماء على واحد من أكثر الإكتشافات إثارة للدهشة خلال القرن العشرين.

- تركيب العناصر:
الكيمياء هي علم يتعامل مع المركبات والتركيب وخواص المواد والتحولات التي تخضع لها، والقاعدة الصخرية للكيمياء الحديثة هي عناصر الجدول الدوري الذي وضعه أولاً الكيميائي الروسي ديمتري ايفانوف مندلييف. فالعناصر مرتبة في الجدول الدوري وفق تركيبها الذري، فالهيدروجين في أول مكان في الجدول لأنّه أبسط العناصر كلها، وهو يحتوي فقط على بروتون واحد في نواته والكترون واحد يدور حولها.
البروتونات هي جسيمات مادون ذرية وتحمل شحنة كهربائية موجبة في نواة الذرة، والهليوم فيه بروتونات ويحتل المكان الثاني في الجدول الدوري. أمّا الكربون، فله ستة بروتونات وللأوكسجين ثمانية، وكل العناصر تختلف في عدد البروتونات والنترونات التي تحتويها ذراتها.
يوجد جسيم آخر في نواة الذرة ذلك هو النترون، والنترونات لا تشبه البروتونات كونها لا تحمل شحنة كهربائية، وبالتالي فإنّ البروتونات والنترونات جسيمات معتدلة.
أمّا الجسم الأساسي الثالث والذي يدخل في تركيب الذرة، فهو الإلكترون، والذي له شحنة سالبة، وفي كل ذرة يكون عدد البروتونات مساوياً لعدد الإلكترونات. وخلافاً لما عليه البروتونات والنترونات في كونها موجودة داخل النواة، فالإلكترونات ليست موجودة في داخلها، وبدلاً من ذلك نراها تدور حول النواة وبسرعة هائلة جداً، بحيث تبقى الشحنات الموجبة والسالبة في الذرة منفصلتين، والفروق في التركيب الذري من ناحية نسبة أعداد البروتونات إلى الإلكترونات هي السبب في اختلاف العناصر عن بعضها البعض.
توجد في الكيمياء التقليدية قاعدة صارمة وهي أنّ العناصر لا تستطيع الإنتقال من عنصر إلى آخر، فمثلاً تغير الحديد -الذي له ست وعشرون بروتوناً- إلى فضلة –لها ثمانية عشر بروتوناً- يتطلب إزالة ثمانية بروتونات من نواة الحديد، لكن البروتونات متحدة معاً بقوة نووية قوية، ومن الممكن تغيير عدد البروتونات في النواة فقط بالتفاعلات النووية، وحالياً كل التفاعلات التي تحدث في ظروف ارضية هي تفاعلات كيميائية تعتمد على تبادل الإلكترونات دون أن تؤثر في النواة.
في العصور الوسطى كان يوجد علم اسمه (السيمياء) أي الكيمياء القديمة، ولم يكن علماء الكيمياء يعرفون الجدول الدوري أو التركيب الذري للعناصر، وظنوا أنّه بالإمكان تحويل عنصر لآخر، وقد اجتهدوا في تحويل الحديد إلى ذهب. غير أنّ تلك المحاولات ما كان لها أن تنجح، لأنّ تحويل طبيعة العناصر عملية لا يمكن تحقيقها إلا وسط درجة حرارة عالية جداً، وهي لا تتوفر إلا في النجوم.

- مختبرات الكيمياء الكونية.. العمالقة الحمراء:
إنّ الحرارة اللازمة لتحويل طبيعة العناصر بين بعضها البعض هي حوالي عشرة ملايين درجة مئوية. ولهذا السبب، فإنّ هذا التحويل (السيمياء) لا يمكن أن يحدث إلا في النجوم. وبالنسبة إلى النجوم متوسطة الحجم مثل شمسنا، فإنّ عملية التحوّل لا تتوقف، حيث يتحول الهيدروجين إلى هيليوم، وبذلك تحدث طاقة عالية جداً.
لنقم بمراجعة ذهنية مختصرة لكيمياء العنصار، وبالتحديد لِنَقُم بعودة إلى الفترة التالية التي أعقبت الضربة الكبرى. فقد ذكرنا أنّ ذرات الهليوم والهيدروجين هي الذرات الوحيدة التي كانت موجودة في الكون بعد الضربة الكبرى. ويعتقد الفلكيون أنّ نماذج النجوم الشمسية (والتي تُعتبر شمسنا واحدة منها) تشكلت في سدم (سحب) من الهيدروجين والهليوم نتيجة لتعرضها لضغوط متزايدة حتى بدأت فيها تفاعلات حرارية نووية، وهكذا صار في كوننا نجوم، ولكن الكون مازال بدون حياة لأنّ الحياة تتطلب عناصر أثقل مثل الأوكسجين وخاصة الكربون، وكان لابدّ من إجراء آخر حيث تستطيع فيه ذرات الهيدروجين والهليوم التحول إلى عناصر أخرى.
وكانت الوحدات الصناعية التي تُحوِّل تلك العناصر إلى عناصر ثقيلة هي العمالقة الحمراء، وهو صنف من النجوم أكبر من شمسنا بحوالي خمسين مرّة.
العمالقة الحمراء هي نجوم أشد حرارة من نجوم النموذج الشمسي، وهذا ما يجعلها قادرة على القيام بما تعجز عنه بقية النجوم. فهي تُحوّل الهليوم إلى كربون، وعلى كل حال حتى هذا ليس بالأمر السهل في العملاق الأحمر. ويقول الفلكي غرينشتاين: "في أعماق هذه النجوم تتحقق تفاعلات خارقة ومذهلة".
الوزن الذري للهليوم هو إثنان، أي في نواته بروتونان، والوزن الذري للكربون هو ستة، وفي درجات حرارة عالية جداً للعمالقة الحمراء تندمج ثلاث ذرات هليوم لتشكل ذرة كربون، وهذه الكيمياء هي التي زوّدت الكون بعناصره الثقيلة بعد الإنفجار الكبير.
لكن كما قلنا: فالعملية التحويلية تلك ليست سهلة ويصعب أن تجتمع ذرتا هليوم لتنضما وتتحدا معاً، فهذا مستحيل طبيعياً، فكيف الأمر مع ثلاث ذرّات، كيف لها أن تجتمع لتكون ذرة الكربون؟ إنّ هذا الأمر يكاد يكون مستحيلاً. إذن كيف كان يتمّ إنتاج الكربون؟
هي عملية ذات مرحلتين (خطوتين). ففي الأولى تندمج ذرتا هليوم لتشكلا عنصراً متوسطاً له أربعة بروتونات وأربعة نترونات، وبعدها ذرة هليوم ثالثة تضاف إلى هذا العنصر المتوسط ليصنع ذرة الكربون ذات ستة بروتونات مع ستة نترونات.
العنصر المتوسطي في هذه العملية هو البيريليون، فالبيريليوم يحدث طبيعياً على الأرض، لكن البيريليوم الذي يحدث في العمالة الحمراء يختلف بطريقة حاسمة وهامة، وذرته تحتوي أربعة بروتونات وأربعة نترونات، بينما البيريليوم الأرضي يحتوي خمسة نترونات، إذن للبيريليوم العملاق الأحمر اختلاف قليل عن ذلك الذي يحدث على الأرض مما يجعله نسخة معدّلة عنه، فيقال له نظير في علم الكيمياء.
هنا تأتي المفاجأة وهي أنّ نظير البيريليوم العملاق الأحمر ليس مستقراً وينقلب بطريقة لا معقولة، وعندما درس العلماء ذلك النظير لسنوات، اكتشفوا أنه ينقسم فور تشكله في جزء من 0000000000001ر0 جزء من الثانية الواحدة، فكيف يتسنى لذلك النظير اللامستقر أن يتشكل ويتحلل في مثل ذلك الوقت القصير جداً سامحاً بذلك للإتحاد مع ذرة هليوم لتتولّد ذرة كربون، وهذه العملية تماثل عملية إلقاء قطعة من الآجر على قطعتين أخريين ليتشكل من ذلك بناء خلال 0000000000001ر0 من الثانية، وهذا مستحيل بالطبع. والسؤال الآن هو كيف تحدث تلك العملية في العمالقة الحمراء؟ وهذا السؤال حيَّر الفيزيائيين لعدة عقود دون أن يظفروا بالإجابة. وكان أوّل مَن عثر على بصيص من الأمل الفيزيائي الفلكي الأمريكي (إدوين سالبتر) الذي اكتشف مفتاح السر الغامض والذي يكمن في مفهوم (الرنّين الذرّي).

- الرنين والرنين المضاعف:
يُعرّف الرنين بأنّه تواترات توافقية (اهتزازات) لمادتين مختلفتين، ومثال بسيط من الخبرة العادية يعطينا فكرة عمّا يقصده الفيزيائيون بما يُسمّى بالرنين الذري.
تخيل نفسك مع طفل في ملعب يُوجد به أراجيح، وجلس الطفل في أرجوحة وأعطيته أنت دفعة ليبدأ بالحركة، ولجعل الإهتزاز متحركاً باستمرار يجب أن تستمر في الدفع ومحتفظاً به من الخلف لكن تزمين تلك الدفعات هام جداً. ففي كل مرة أثناء اقتراب الأرجوحة منك يجب أن تطبق قوة للدفع في اللحظة الصحيحة، أي عندما تكون الأرجوحة في أعلى نقطة من حركتها نحوك. فإذا دفعت سريعاً (فوراً) كانت النتيجة هي تصادم يربك إيقاع الإندفاع للأرجوحة. وإذا تأخرت في الدفع، فإنّ الجهد سوف يضيع لأنّ الأرجوحة تكون مبتعدة عنك.
وبكلمة أخرى التواتر (التردد) ذبذبة لدفعاتك يجب أن تتوافق إيقاعياً مع تردد الأرجوحة المقتربة منك، ويفضل علماء الفيزياء أن يسموا تلك التواترات التوافقية بالرنين أو بالطنين أو بالتجاوب، فمثلاً الأرجوحة تلك كل 1.7 ثانية، وباستخدام ذراعيك فأنت تستطيع الدفع كل 1.7 ثانية. وبالطبع، إذا كنت تريد أن تغير تواتر حركة الأرجوحة، ولكن إذا فعلت ذلك فإنّه يجب أن تغير تواتر الدفعات بالمثل، وإذا فعلت خلاف ذلك، فالأرجوحة سوف لن تهتز بشكل صحيح.
هذا بالضبط ما يحصل في حالة حركة جسمين أو أكثر وبإمكانهما الرنين (التجاوب) معاً، كما يمكن للرنين أن يحدث عندما يتحرك أحد الأجسام فيسبب حركة للجسم الآخر ولو كان ساكناً. وهذا النموذج من الرنين التجاوبي يمكن أن يشاهد في أجهزة الموسيقى ويدعى بالتجاوب الصوتي (طنين سمعي أو صوتي)، ويمكن أن يحدث مثلاً بين آلتي الفيولين تمَّ ضبط أنغامهما بدقة. فإذا عُزف على أحد هاتين الآلتين في الغرفة نفسها التي فيها الأخرى وهي ساكنة، فإنّ أوتار الآلة الثانية سوف تأخذ في الإهتزاز وتنتج صوتاً حتى ولو لم يمس تلك الآلة شخص ما لأن كلتا الآلتين تمَّ ضبطهما نغمياً على التواتر نفسه، وإنّ اهتزازاً في إحداهما يسبِّب اهتزازاً للأخرى وبشكل تلقائي.
التجاوبات الرنينية في هذين المثالين بسيطة ومن السهل تتبع آثارها، ويوجد هناك تجاوبات أخرى في الفيزياء لكنها ليست سهلة إطلاقاً كما في حالة نواة ذرية، فالتجاوبات هنا معقدة تماماً وحساسة.
لكل نواة ذرية سوية طاقة طبيعية توصل لها علماء الفيزياء وتأكدوا منها بعد دراسة مطولة، وتلك السويات الطاقية تختلف تماماً من واحدة لأخرى. وفي حالات نادرة أمكن مشاهدة رنين بين النوى الذرية. وعندما يحدث مثل ذلك الرنين، فإنّ حركة النوى تغدو متناسقة مع بعضها بعض كما في مثال الأرجوحة وفي آلة الفيولين، والنقطة الهامة في ذلك هي أنّ الرنين يسرِّع التفاعلات النووية بتأثيره على النواة.
عند البحث في كيفية تكوّن الكربون في العمالقة الحمراء، اقترح (إدوين سالبتر) أنّه يجب أن يكون هناك رنين تجاوبي بين نوى ذرات الهليوم والبيريليوم وهو الذي يسهل التفاعل بينهما. وهذا الرنين، كما يقول (إدوين)، يجعل ذرات الهليوم تندمج بطريقة أسهل داخل نواة البيريليوم، وربما هذا قد يُفسِّر التفاعل الذي يحدث في العمالقة الحمراء، لكن الأبحاث التالية فشلت في دعم تلك الفكرة.
كان (فريد هويل) هو الفلكي الثاني الذي طرح هذا السؤال ودرسه، فلقد أخذ (هويل) فكرة (سالبتر) لمدى أبعد، وأدخل فكرة الرنين المضاعف. وقال بأنّه يجب أن يكون هناك رنين تجاوبي مرّتين، الرنين الأوّل يُسبِّب لذرة هليوم ثالثة بالإنضمام والإندماج لتلك التركيبة اللامستقرة، ولم يصدق أحد ما قاله (هويل)، لأن فكرة حدوث مثل هذا الرنين الدقيق مرّة واحدة كان من الصعب تقبلها، فكيف بحدوث رنين مضاعف فهذا شيء لا يمكن التفكير فيه إطلاقاً لإستحالته.
تابع (هويل) بحثه لسنوات عديدة وفي النهاية برهن على أنّ فكرته كانت صحيحة، وهذا ما كان يحدث حقيقة فالرنين المضاعف يحدث في العمالقة الحمراء. ففي لحظة واحدة بالضبط يحدث رنين اتحادي لذرتي هليوم فتظهر ذرة بيريليوم في 000000000000001ر0 جزء من الثانية وهي تلزم لإنتاج الكربون.
العالم (جورج غرينشتاين) وصف حقيقة الرنين المضاعف بإعتبار آلية فوق طبيعية (شاذة)، فقال: "يوجد ثلاث تركيبات منفصلة تماماً في قصة الهليوم والبيريليوم والكربون كما يوجد رنينان منفصلان تماماً. ومن الصعب أن نرى لماذا يجب على تلك النوى أن تعمل معاً بدقة فائقة في حين أنّ التفاعلات النووية الأخرى عنيفة ولا تتقدم بمثل هذه السلسلة المميزة من التحكمات الدقيقة المحظوظة.. وهي تشبه اكتشاف حدوث الرنين العميق والمعقد بين ثلاثة أشياء متحركة سيارة ودراجة وشاحنة، والسؤال هنا هو: لماذا يجب على مثل تلك التركيبات المتباينة تماماً أن تتشابك معاً بشكل تام ومتكامل؟ والجواب يهمنا كثيراً لأنّه على هذا يعتمد وجودنا ووجود كل اشكال الحياة في الكون".
في السنوات التالية اكتشفت عناصر أخرى مثل الأوكسجين الذي يتشكّل أيضاً نتيجة لمثل هذه التجاوبات المذهلة. وقد أجبرت اكتشافات العالم المادي المتحمس (فريد هويل) وهي "التفاعلات الفوق طبيعية" إلى أن يعترف في كتابه (المجرات والنوى والكواسارات) أنّ مثل ذلك الرنين المضاعف هو نتيجة لتصميم مقصود وليس نتيجة للصدفة والعبث.
وفي مقالة أخرى كتب قائلاً: "إذا طلب منك أن تنتج كربوناً وأوكسجيناً بكميات متساوية تقريباً وبتركيب نووي نجمي، فهذان المستويان هما اللذان يجب أن تركز عليهما، وتركيزك يجب أن يكون بالضبط حول مكان وجود تلك المستويات فعلاً.. والتعليل السليم للحقائق يقترح أنّ الفكر الذكي الفائق تدخّلت فيه الفيزياء وبطريقة مماثلة أيضاً الكيمياء وعلم الأحياء، وأنّه لا توجد في الطبيعة قوى متهورة مستترة تستحق الحديث عنها، والأعداد التي يحسبها أحدهم من الحقائق تبدو لي شاملة وكثيرة جداً لكي نضع هذا الإستنتاج تقريباً خلف السؤال".
أعلن (هويل) بصراحة أنّ استنتاج هذه الحقيقة الواضحة لا مفر منه ويجب ألا يمر دون أن يلتفت إليه العلماء، وقال: "أنا لا أعتقد أنّ أي علم من الذين فحصوا الدليل سيفشل في استخلاص الإستنتاج التالي: وهو أنّ قوانين الفيزياء النووية صُممت بطريقة متأنية وأُخذ بالحسبان كل الإستنتاجات التي تنتجها القوانين الفيزيائية في أعماق النجوم".
هذه الحقيقة الواضحة عبّّر عنها القرآن قبل 1400 سنة مضت، وبيَّن الله تعالى التناسق في خلق السموات في الآية التالية: (ألَم تَرَوا كَيفَ خَلَقَ اللهُ سَبعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً) (نوح/ 15).

- الشمس.. المختبر الكيميائي الصغير:
إنّ تحول الهليوم إلى كربون – كما وصفناه سابقاً – هي كيمياء العمالقة الحمراء. أمّا في النجوم الأصغر مثل شمسنا، فيحدث نوع أبسط من الكيمياء. فالشمس تحول الهيدروجين إلى هليوم، وهذا التفاعل هو منبع طاقتها.
هذا التفاعل الشمسي ليس أقل أهميّة فيما يتعلق بوجودنا من تلك التفاعلات التي تحدث في العمالقة الحمراء، والأكثر من ذلك أنّ المفاعل النووي الشمسي هو أيضاً مرحلة مصممة بدقة مثل ذلك المفاعل المصمم في العمالقة الحمراء
الهيدروجين هو العنصر الذي يزود هذا المفاعل، وهو أبسط عنصر في الكون لأن نواته تحتوي بروتوناً واحداً. أمّا نواة الهليوم، فهي تحتوي على بروتونين ونترونين، والعملية التي تحدث في الشمس هي تفاعل اندماج لأربع ذرات هيدروجين في ذرة هليوم واحدة.

- التفاعلات الدقيقة في الشمس:
1- فوق: انضمام أربع ذرات هيدروجين لشتكِّل ذرة هليوم.
2- تحت: هذه عملية من مرحلتين: تندمج فيها أوّلاً ذرتا هيدروجين لتشكلا الديوترون، وهذا التحول بطيء يجعل الشمس تحترق بانتظام.
3- الصفحة المقابلة: إذا زادت قوّة التفاعل النووية القوية ولو بنسبة قليلة جداً، فإنّه يتشكّلُ بروتونان بدل الديوترون، ومثل هذا التفاعل لا يمكن أن يمتد لفترة زمنية طويلة لأنّه يقود إلى انفجار كارثي يُدمِّر الشمس خلال ثوان معدودة، ثمّ بعد دقائق قليلة تشتعل الأرض كلّها بلهيب مروّع، ثمّ تنفحم.
تتحرر كمّية هائلة من الطاقة خلال هذه العملية، وكل الطاقة الحرارية والضوئية التي تصل إلى الأرض تقريباً هي نتيجة لهذا التفاعل النووي الشمسي.
مثل التفاعلات التي تحدث في العمالقة الحمراء. فإنّ التفاعل النووي الشمسي ينقلب ليُدخل عدداً من المظاهر اللامتوقعة والتي بدونها لا تحدث هذه التفاعلات، وأنت لا تستطيع ببساطة أن ترص أربع ذرات هيدروجين معاً وتحوِّلها إلى هليوم. وحتى يكون هذا ممكناً، فإنّه يتطلّب إجراء عملية من مرحلتين توازيان تلك التي تحدث في العمالقة الحمراء. ففي المرحلة الأولى تتحد ذرّتا هيدروجين لتشكِّلا نواة وسيطية تدعي الديوترون وتحتوي بروتوناً واحداً ونتروناً واحداً أيضاً.
ما هو مقدار الطاقة الكافية لإنتاج ديوترون واحد برّصِّ نواتين معاً؟ وهذه القوة هي (قوة نووية هائلة)، وهي واحدة من أربعة قوى أساسية في الكون والتي ذكرناها في الفقرة السابقة، وهي أعظم قوة فيزيائية فاعلة في الكون وأقوى ببلايين البلايين البلايين البلايين المرّات من قوة الجاذبية الثقالية، ولا شيء سوى هذه القوة القادرة على توحيد نواتين مثل ذلك.
والآن الشيء المثير للفضول هنا هو أنّ البحث يُبيِّن على أنّه بالرغم من ضخامة القوة النووية، فإنّها لم تتمكّن من تحقيق هذا الإنجاز إلا بصعوبة بالغة. وإذا كانت أضعف حتى بقليل ممّا هي عليه، فسوف لن تكون قادرة على توحيد نواتين. وبدلاً من ذلك، فإنّ البروتين المتقاربين نحو بعضهما البعض سيتنافران فوراً، وبالتالي فالتفاعل الشمسي سوف يخفق حتى قبل أن يبدأ. وبعبارة أخرى، سوف لن تبقى الشمس في هذه الحالة نجماً مشعّاً. وبالتركيز على ذلك، قال (جورج غرنيشتاين) ما يلي: "لو كانت ضخامة القوة النووية أقل بقليل مما كانت عليه، فإنّ الضوء لن يشع في العالم أبداً".
حسناً، تُرى ما الذي يحصل لو أنّ القوة النووية كانت أكبر مما هي عليه؟
للجواب على ذلك يجب أوّلاً أن نلقي نظرة على عملية تحويل ذرتي هيدروجين إلى ديروترون بقليل من التفصيل.
أوّلاً: يتم تجريد أحد البروتونين من شحنته الكهربائية ويصبح نتروناً، ويشكل هذا النترون باتحاده مع بروتون ديوترونا، والقوة المسببة لذلك الإتحاد هي قوة نووية جبّارة. أمّا القوة التي تحول البروتون إلى نترون، فهي قوة مختلفة وتدعى بالقوة النووية الضعيفة، هي ضعيفة مقارنة بالأولى وتتطلب حوالي عشر دقائق لتقوم بذلك التحويل. وعلى المستوى الذري، يكون ذلك الزمن هائلاً في الطول وله تأثير. فيبطئ المعدل الذي يحدث فيه التفاعل في الشمس لنعد الآن إلى سؤالنا: ماذا كان سيحدث لو أنّ القوة النووية أكبر ممّا هي عليه؟ الجواب أنّ التفاعل في الشمس سوف يتغير بشكل مفاجئ وعنيف بسبب إلغاء القوة النووية الضعيفة من التفاعل.
لو كانت القوة النووية الكبرى أعظم ممّا هي عليه، فسوف تتمكّن من دمج بروتونين أحدهما في الآخر فوراً وبدون أن تنتظر عشر دقائق للبروتون كي ينقلب إلى نترون. وكنتيجة لذلك التفاعل، سيكون هناك نواة واحدة لها بروتونان بدلاً من الديوترون، ويسمّى العلماء مثل تلك النواة بثنا-بروتون، أي ثنائية البروتون، وهي جسيم نظري كيفي ولم يشاهد حدوثه طبيعياً. لكن إذا كانت القوة النووية الكبرى أعظم بكثير ممّا هي عليه، عندئذ سيكون هناك ثنا-بروتون حقيقة في الشمس.. وماذا بعد؟ حسناً بالتغلب على تحول البروتون إلى نترون، نكون قد تجاهلنا الصمام الذي يُبقي الشمس (محركها) تجري ببطء كما هي عليه فعلاً، وقد فسّر (جورج غرينشتاين) نتيجة ذلك والتي ستكون حسب قوله كما يلي: "الشمس سوف تتغير لأن أوّل مرحلة في تشكل الهليوم سوف لن تكون بطول تلك التي تشكل الديوترون، وسيتشكّل ثنا-بروتون عندئذ، وهذا التفاعل سوف لن يتدخل في تحول البروتون إلى نترون أبداً. وسوف يُلغى دور القوى الضعيفة مع احتفاظها بالقوى القوية فقط. وكنتيجة لذلك، سيصبح وقود الشمس فجأة جيداً جداً وبشكل فعلي وقدرتها أكبر وتفاعلاتها ضارية بحيث أنّ الشمس وأي نجم آخر يشبهها لن يلبث أن ينفجر فوراً".
سوف يسبب انفجار الشمس وكل شيء عليها إندلاع ألسنة لهب تمتد لتحرق كوكبنا الأرزق وتُدمِّرهُ خلال ثوانٍ. وبسبب الضبط الدقيق جداً للقوى النووية بحيث لا تكون قوية جداً ولا ضعيفة جداً، أدى ذلك إلى حدوث تباطؤ في المفاعل النووي للشمس وصار ذاك النجم قادراً على إرسال الأشعة والطاقة لبلايين السنين. وهذا التنظيم الدقيق هو الذي جعل الحياة ممكنة بالنسبة إلى الجنس البشري.
ولو وجد أبسط خللٍ في هذا الترتيب، فالنجوم – بما فيها شمسنا – سوف لن تبقى، وإن بقيت فسوف تنفجر خلال زمن قصير.
وبكلمة أخرى، إنّ تركيب الشمس لم يأت بالصدفة ويتكوّن عبثاً، فالله هو الذي سخّر الشمس للناس كي يعيشوا كما في الآية الكريمة التالية: (الشَّمسُ وَالقَمَرُ بِحُسبَانٍ) (الرحمن/ 5).

- بروتونات وإلكترونات:
عالجنا في الأقسام السابقة المواد من ناحية علاقتها بالقوى والتي تؤثر بالنوى الذرّية، كما يوجد توازن هام آخر في الذرة يجب أن نأخذه بعين الإعتبار، وهو التوازن بين نواة الذرة والكتروناتها.
لنضع تلك الحالة في أبسط عباراتها ونقول أنّ الإلكترونات تدور حول النواة، والسبب في ذلك هو الشحنة الكهربائية. فالإلكترونات لها شحنة سالبة والبروتونات لها شحنة موجبة والشحنات المتعاكسة تتجاذب لذلك تُجذب إلكترونات نحو النواة، لكن الإلكترونات تتحرّك بسرعة هائلة وفي الظروف العادية ربما أدى ذلك إلى الإلقاء بها بعيداً عن النواة، لكن سرعة دورانها حول النواة يولد قوة نابذة تمنع سقوطها عليها، والقوة الجاذبة الكهربائية تمنع قذفها بعيداً، وهاتان القوتان (الجاذبة والحركة المتباعدة) تتوازنان بحيث أنّ الإلكترونات تتحرّك في مدارات مستقرة حول النواة.
الذرات أيضاً تتوازن بدلالة الشحنات الكهربائية. فعدد الإلكترونات المدارية هو ذاته عدد البروتونات في النواة (مثلاً: الأوكسجين له ثمانية بروتونات وثمانية إلكترونات)، وبهذه الطريقة تتوازن القوة الكهربائية للذرة وتكون الذرة متعادلة كهربائياً.
وحتى الآن وبتلمس الأسس الكيميائية، نجد نقطة في هذا التركيب الذي يبدو بسيطاً، وتلك النقطة أهملها الكثيرون، فالبروتون أكبر بكثير من الإلكترون حجماً ووزناً. فإذا كان الإلكترون بحجم الجوزة، كان حجم البروتون بحجم الرجل، وفيزيائياً هما متباينان تماماً، ولكن شحناتهما الكهربائية لها المقدار ذاته.
بالرغم من أنّ الشحنات الكهربائية متضادة (الإلكترونات سالبة والبروتونات موجبة)، إلا أنّهما متساويتان، ولا يوجد سبب واضح لهذا التساوي، والذي يمكن تصوره منطقياً هو أنّ الإلكترون يجب أن يحمل شحنة أقل بكثير لكونه اصغر حجماً بكثير، ولكن لو حصل ذلك فعلاً، فماذا سيحدث عندئذ؟
الذي سيحدث هو أنّ كل ذرة في الكون ستكون مشحونة موجباً بدل أن تكون معتدلة كهربائياً. وبسبب أنّ الشحنات المتماثلة تتنافر، فكل ذرة في الكون ستحاول أن تتنافر مع أي ذرة أخرى، وكما نعلم فالمادة سوف لن تبقى عندئذ.
ماذا سيحصل إذا حدث ذلك الأمر فجأة؟ وماذا سيحدث إذا بدأت كل ذرة بالتنافر مع غيرها من الذرات؟
أشياء غير طبيعية تماماً سوف تحدث. ولنبدأ بالتغيرات التي ستحدث في جسدك. ففي اللحظة التي يحدث فيها هذا التغير، فإنّ يديك وذراعيك الذين يحملون هذا الكتاب سوف يتلفون فوراً، وليس يداك وذراعاك فحسب، ولكن جسمك أيضاً، وساقاك وعيناك وأسنانك وكل جزء في جسمك سوف ينفجر في جزء من الثانية. الغرفة التي تجلس فيها وعالمك حولك سوف ينفجر في لحظة، وكل البحار والجبال والسهول في النظام الشمسي وكل النجوم والمجرات في الكون سوف تتلف وتتحول إلى غبار ذري. وسوف لن يكون هناك شيء ثانية في الكون لمشاهدته، وسيصبح الكون كلتة فوضوية لا مرتبة من الذرات تتدافع فيما بينها.
بأي مقدار يجب أن تتغير مقادير شحنات البروتونات والإلكترونات لكي يحدث هذا الأمر المرعب ويحصل هذا؟ هل هو واحد بالمائة؟ أم عُشر الواحد بالمائة؟
(جورج غرنيشتاين) عنون هذا السؤال في كتابه (الكون التكافلي)، وقال: "الأشياء الصغيرة مثل الأحجار والناس وما شابه ذلك سوف تتطاير وتتفتت إذا اختلفت الشحنتان بمقدار جزء في مائة بليون جزء. أمّا بالنسبة إلى الأجسام الأكبر حجماً مثل الأرض والشمس، فإنّ التوازن فيها أكثر دقة، وهذا يتطلب تغيراً في أقل من جزء من بليون بليون جزء".
وهذا النوع الآخر من التوازن المضبوط بدقة عالية يدل على أنّ الكون مُصمَّم عن قصد ومخلوق لهدف خاص. وقد سجّل العالمان (جون. د. بارو وفرانك. أ. تبلر) في كتابهما (مبدأ علم الكون الإنتروبي) القول التالي: "هناك تصميم ذكي للكون يساعد على استمرار الحياة فيه".
وطبعاً كل تصميم يدلّ على وجود مُصمِّم مُدرك واعٍ هو الله الواحد، ربّ العالمين، ذو القدرة والعظمة، الذي خلق الكون من العدم، وصَمَّمه وبناه كما شاء، ويصرح القرآن بذلك في الآية التالية: (أأنتُم أشَدُّ خَلقاً أمِ السَّماءُ بَنَاها * رَفَعَ سَمكَهَا فَسَوَّاهَا) (النازعات/ 27-28).
إنّ العناصر الموجودة في الكون والتي درسناها في الفقرات السابقة، قد حافظت على استقرارها ونظامها وذلك بفضل التوازن العظيم الذي يحكمها، وهذا دليل على قدرة الله وعظمته في خلقه، وفي ذلك يقول تعالى: (وَمِن آياتِهِ أنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرضُ بِأمرِهِ ثُمّ إذا دَعَاكُمْ دَعوَةً مِنَ الأرضِ إذا أنتُم تَخرَجُونَ) (الرُّوم/ 25).


المصدر: كتاب خلق الكون

ارسال التعليق

Top