أ. توفيق حوري
◄ثمّة تعابير شائعة على ألسنة الناس تتناول موضوع الخلاف والاختلاف في الآراء والمواقف، ومنها القول بأنّ اختلاف الأئمة رحمة للأُمة، وانّ في تعدد الآراء فرص للتيسير على الناس من قبل هؤلاء الفقهاء، وهذه التعابير أضحت مع الزمن، وكأنها قواعد راسخة في نفوس الناس دون تمحيص أو تدقيق، حتى أصبح القول بأنّ (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار) شائعاً بين الخطباء دون مقارنته بقول رسول الله (ص): "من سنّ سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها" الأمر الذي يطرح السؤال الكبير حول الاختلاف ما بين النعمة والنقمة وكيف نزن الأمور بميزانها الصحيح، خاصة بعدما بتنا نعيش في عصر الفتن التي يستغل أصحابها أدق التفاصيل الخلافية لدينا لينفذوا منها لتحقيق الاختلاف فيما بيننا لدفعنا إلى الخلاف.
مفهوم النعمة:
وابدأ هنا بمفهوم النعمة، فالنعم هي الأمور التي تحمل في طياتها الرحمة والفائدة للإنسان، فعلى سبيل المثال كانت الصفوف المدرسية تعتمد على اللوح الخشبي المطلي باللون الأسود على الغالب أو الأخضر، ويستخدم الطبشور الأبيض أو الملون، ثمّ جاء من يقول أنّ الغبار الآتي من كلس الطبشور على الألواح الخشبية يؤدي إلى الأمراض الصدرية، فتم استبدال الألواح الخشبية بألواح من البلاستيك، وقيل فيما بعد أنّ هذا البلاستيك يجعل القراءة غير سهلة، وخاصة عندما تكون الإنارة قوية أو غير متناسقة؛ عندما تكون غير متناسقة، وعندما تكون المسافة بعيدة بين الطالب واللوح فلا يستطيع قراءة الكلمات المكتوبة بشكل واضح أو سريع، فعادوا إلى اللوح الخشبي ولكن استخدموا هذه المرة نوعاً من الطبشور لا ينتج غباراً، ومنهم من اختار أقلاماً ذات ألوان قوية للكتابة بها فوق لوح البلاستيك بما يسهّل قراءتها.
في هذه المسألة هناك تباين في الرأي، بسبب الاختلاف في تقييم انعكاسات الموضوع، وهذا التباين وإن كان اختلافاً يشابه الاختلافات التي تحصل أحياناً بين بعض الرجال وزوجاتهم حول طرق التعامل مع الأبناء أو نوعية المأكل أو الملبس، إلا أنّه اختلاف لا يفسد للود قضية لأنّه لا يتدخل في أمور جوهرية.
مفهوم النقمة:
وفي المقابل النقمة تحمل في طياتها العذاب وما يتبعه من ضيق ومشاكل متنوعة، ففي مسائل الفقه المتعلقة بكيفية الوضوء أو إسقاط الجنابة أو الوقوف في الصلاة لا يشكل الاختلاف في الآراء مشكلة، ولكن إذا دخل هذا الاختلاف في مسائل جوهرية وتدخل التعصب في المسألة وصار الناس يتقاتلون لانتمائهم إلى مذاهب مختلفة نقمة.
وفي تاريخنا الإسلامي أدى الاختلاف في بعض الأمور إلى نشوء قضاة للمذاهب، وإلى أن تصبح نقاط عبور من طرف إلى طرف ذات يوم أشبه بالحواجز المتنقلة التي تقتل بناءً للانتماء المذكور على البطاقة الشخصية، كما حصل خلال الحرب اللبنانية، حيث صار الناس تعقد قرانها عند قاض معيّن وتتم المحاسبة في أحكام الزواج وفقاً لمذهب القاضي الذي عقد القرآن، ووصل الأمر أحياناً إلى حد إقامة الصلاة الواحدة أربع مرات في المسجد الأموي في دمشق كما في الأزهر الشريف في القاهرة، وكانت في كل مرة تقام الصلاة وفق مذهب معين، إلى أن ألغي هذا فيما بعد ووحدت الصلاة.
لذلك فإنّ النقمة هي من نقاط الخلاف القابلة للتحول إلى عصبيات تجيش حولها الناس؛ فقد تدفعهم إلى الاختلاف والانقسام، لكن هذه النقمة تكون قابلة للاستيعاب عندما تكون هناك سلطة تحول دون تحوّل الخلافات إلى عصبيات.
النقمة الكبرى:
هذا من جهة النعمة والنقمة، ولكن الاختلاف في مسائل السياسة الشرعية يشكل حدّاً يتجاوز حدود النقمة كما ليس بالطبع بنعمة، لأنّ السياسة الشرعية تمس الأُمّة ككل ولا تلمس المسلم كفرد، كالسكوت عن نزول الأمريكيين في بلاد المسلمين وإعطائهم أجزاء كبيرة منها، لتصبح قواعد مغلقة لهم فوق أرضنا، لا يستطيع حتى أبناءها الدخول إليها إلا بترخيص من الأمريكيين، واحتلال الأمريكيين لبعض بلاد المسلمين ووضعها تحت تحكم عسكري أمريكي مباشر لإعدادها لمهاجمة بلاد إسلامية أخرى وانقسام السادة العلماء ما بين مؤيد ومعارض وساكت، فهنا يشكل الاختلاف نقمة كبرى ليس لأنّ حكامنا جيدون أو سيئون، ولكن لأنّ الاختلاف هو صميم السياسة الشرعية التي هي سياسة الأُمّة، وبالتالي فإنّ بعض المواقف قد تفسر على أنها تدخل في باب الخيانة؛ ذلك أنّ هذه الخيانة في القضايا التي تمس الأُمّة ككل قد تكون بالتعامل المباشر مع أعداء الأُمّة، كما شهدنا في عهد الرسول (ص) منها رسائل موجهة إلى الكفار في ضفائر إحدى السيدات، ومنها مساعدة العدو بالفكر؛ كالدراسات التي يقوم بها بعض طلاب العالم الثالث والدول الإسلامية في الجامعات الغربية عن بلادهم وأوضاعهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها، فيظهرون فيها نقاط ضعف أمتهم ومجتمعاتهم بما يفيد العدو من هذه الدراسات التي تمولها عادة أجهزة المخابرات، ومنها أيضاً مساعدة العدو بالإعلام الذي يمكن له أن يرفع المعنويات أو يحطمها، أو مساعدته بالتخطيط أو التمويل أو من خلال موقع المرء في السلطة، ومنها ما يكون بالتعامل غير المباشر كالخيانة بالتقصير واللامبالاة والصمت، واللاعمل هو خيانة، لأنّ العمل الإيجابي غائب والتقصير حاصل والعدو لا يرحم.
واقع السياسة الشرعية:
والسياسة الشرعية هنا لا يمكن ربطها بوجود خليفة واحد للمسلمين، فقد مرت على أمتنا أوقات كان لدينا فيها خليفة بغداد، وآخر في القاهرة، وثالث في الأندلس لكن الأُمّة لم تنهار؛ لأنّ السياسة الشرعية كانت سليمة، وكان وجودها ضرورياً بغضّ النظر عما إذا كان الحاكم فاسقاً أو صالحاً.
ولعل آخر ما شهدناه من تعدد في عهد الخلافة العثمانية يعطينا صورة أوضح، فقد كانت لدينا خلافة عثمانية في تركيا والبحر الأبيض المتوسط حتى المغرب، وخلافة ثانية في أفريقيا في سوكوتو استمرت حتى العام 1906 حين سقطت بأيدي الإنكليز، وثالثة قائمة على أساس سلطة المغول في الهند سقطت عام 1848 تقريباً، لكن السياسة الشرعية أي الفرق بين الإسلام وغير الإسلام، بين الحرص على الأُمّة أو السماح بالعبث بها كانت موجودة، لكن الاختلاف الذي هو النقمة الكبرى في هذه القضايا يتركز عبر فتاوى علماء السلاطين التي كيفوها لمصلحتهم.
ولنوضح الفكرة بصورة أكبر نرى أنّ إحدى الحكومات رفعت الدعم عن الشمندر السكري الذي ننتج منه السكر كلياً، وهو مادة تعتبر من الأولويات في بلادها ورغم ذلك منعت المساعدة عن المزارعين لكن الحكومة نفسها تساعد زراعة التبغ ومزارعِه مع أنّ التبغ مادة مضرة بصحة الإنسان وكل ذلك لأنّ جهات معينة عدوة لأمتنا حولتنا جميعاً إلى مرتهنين ورهائن للغذاء والسلام الأمريكي.
مثال آخر، قامت إحدى الدول الإسلامية بمشروع استخراج المياه التي فيها شيء من الملوحة من الآبار ووسعت زراعة القمح في أرضها مستخدمة هذه المياه للري، وكانت في آخر كل موسم تشتري محصول القمح بسعر أعلى من السعر العالمي من أجل تثبيت الناس في أرضهم، وتعمير فكرة الزراعة والأمن الغذائي الداخلي الناجم عنها، وتوفير دخل مالي معقول للناس وتأمين الاستقرار في الزراعة، فكان أن تنبهت الإدارة الأمريكية إلى هذه الدولة إن استقلت من الناحية الغذائية في بعض المواد الأساسية صار بإمكانها التحرر من سيطرتها على صعيد الأمن الغذائي فضغطت على تلك الدولة العربية لوقف مساعدتها عن المزارعين على أساس أنّه يجب تخفيف العبء عن الدولة بشراء القمح بالأسعار العالمية، وهكذا لم تعد قيمة الإنتاج تتوازن مع نفقات الإنتاج فتوقفت مشاريع زراعة القمح. وهكذا وجدنا أنفسنا جميعاً شعوباً وحكومات رهائن للقمح الأمريكي مما جعلنا تحت سيطرتها، وكلنا يعلم أنّه عندما احتاجت روسيا إلى القمح لإطعام شعبها الجائع اضطرت للموافقة على المطلب الأمريكي بالسماح لهجرة اليهود إلى فلسطين.
الفتوى مقابل المال:
أيضاً هناك الاختلاف في أمور المعاملات الذي لا يعتبر الاختلاف فيها اختلافاً بمعنى تباين الرأي بل هو نقمة، كونها تشكل الكثير من الأخطاء على حياة الناس، وهنا نؤكد أنّ الاختلاف نقمة، لأنّه يشكل خطراً على حياة الناس ومصالح الأُمّة ويقود إلى المفسدة، وأيضاً عندما نسمح باستيراد أدوية مرفوضة في بلادها وندفع أسعاراً عالية لأشياء فاسدة في مضمونها وفي طبيعة كينونتها كاللقاحات التي يثبت دائماً أو قسماً كبيراً منها إما منتهية الصلاحية أو فاسدة أو أنها استبدلت.
مظاهر مختلفة:
ومن مظاهر الخلاف التي هي نعمة للأُمّة رغم التباين في الرأي فيها:
موضوع رجم إبليس في الحج، ففي العام 1960 عندما حججت كانت أعداد الحجيج لا تزيد عن مائتي ألف، فكان الرجم سهلاً، ولكن عندما أصبح تعداد الحجيج أربعة ملايين ولابدّ لهم من الذهاب إلى موقع واحد في وقت واحد سيحصل التدافع وتسقط الضحايا أو يتساقط نفق من الأنفاق وهو ما حصل، فهنا عندما يتدخل الأئمة ويفتون بما يخفف المشقة عن الناس ويحولون دون التدافع فيسمحوا بتعداد أوقات رمي الجمار أو التكيل في ذلك أو بناء طبقات للراجمين يكون هذا التدخل نعمة كبرى مقابل النقمات الكبرى التي نشعر بها جميعاً.
أيضاً في موضوع الذبائح والأضحية في الحج التي كانت تذبح وترمى أينما كان فتؤدي إلى الكوارث البيئية فإنّ إصدار فتوى تجيز بأن يدفع مالاً فتقوم إحدى الإدارات بالنيابة عنه الذبح وترسل الذبائح إلى بلاد المسلمين الفقيرة، وكذا الأمر في الطواف والسعي وفي قول البعض بكفاية الإشارة إلى الحجر الأسود في حين يتشدد البعض بضرورة الوصول إليه.
إنّ الاختلاف هنا نعمة لأنّه ليس خلافاً في الجوهر بل هو اختلاف يهدف إلى تحقيق مصالح الأُمّة.
القول الفصل:
القول الفصل في هذا السياق؛ إنّ استغلال الحكام لسلطاتهم لاستصدار الفتاوى لصالحهم وفق إرادة الحاكم الذي يعتبرون إرادته أهم من إرادة الله تعالى (أستغفر الله من هذا) والدخول في إطار التكفير بسبب الاختلاف في الرأي بين المجموعات الإسلامية هو نقمة كبيرة.
إنّ علينا أن نتذكر ونحن نتحدث عن الاختلاف بين النعمة والنقمة ما حصل يوم الهجوم الفرنسي – الإنكليزي على تركيا لاحتلالها بعد الحرب العالمية الأولى، حين قاتل قادة الحركات الإسلامية ومنهم سعيد النورسي ورفعت اتلخان مع الحكومة التركية كي لا تسقط تركيا على الرغم من معرفتهم بعداء مصطفى كمال اتاتورك لهم وكيف اتاتورك ما كاد ينهي المعركة الخارجية حتى اعتقل الاثنين وسجنهما وكانا يعلمان النتيجة مسبقاً لكن البلاد سلمت وإن سجنا.
والأمثلة كثيرة في هذا المجال تبدأ من زيارة الإمام الشافعي لقبر الإمام أبي حنيفة في بغداد وصلاته الفجر بدون دعاء قنوط، إقتداءً بالأحناف، وعندما سأله الناس كيف فعلت ذلك وأنت تقنط في صلاة الفجر؟ فقال: ألا يستحق صاحب القبر أن نحترم رأيه؟
والفارق بين النعمة والنقمة هو ابتعادنا عن تكفير بعضنا البعض واستعدادنا لسماع الرأي الآخر، واختيار ما يفيد الأُمّة لا ما يضرها، وما يحررها لا ما يأسرها ويرهنها للآخرين.
المصدر: مجلة رسالة التقريب/ العدد 45 لسنة 2004م
ارسال التعليق