معرفة الحكم الشرعي، هو الغاية من علم الفقه وأصوله، ولكن علم الأصول ينظر إليه من جهة وضع القواعد والمناهج الموصلة إليه، وعلم الفقه ينظر إليه باعتبار استنباطه فعلاً، بتطبيق ما وضعه علم الأصول للتعرف عليه.
والحكم عند الأصوليين هو: خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء، أو التخيير، أو الوضع.
والمقصود بخطاب الله: كلامه مباشرة وهو القرآن، أو بالواسطة: وهو ما يرجع إلى كلامه من سنة، أو إجماع، وسائر الأدلة الشرعية التي نصبها الشارع لمعرفة حكمه.
فالسنة: وهي ما يصدر عن الرسول (ص) على وجه التشريع، راجعة إلى كلامه لأنها مبينة له، وهي وحي الله إليه، قال تعالى: (وما ينطق عن الهوي إن هو إلا وحي يوحى) النجم: 3.
والإجماع لا بد له من دليل من الكتاب والسنة، فكان راجعاً إلا كلام الله بهذا الاعتبار.
وهكذا سائر الأدلة الشرعية، كلها كاشفة لخطاب الله، ومظهرة للحكم الشرعي لا مثبتة له.
والمقصود (بالاقتضاء): الطلب، سواء أكان طلب فعل أم تركه، وسواء أكان هذا الطلب بنوعيه على سبيل الإلزام، أم كان على سبيل الترجيح.
والمراد (بالتخيير): التسوية بين فعل الشيء وتركه، بدون ترجيح أحدهما على الآخر، وإباحة كل منهما للمكلف
والمراد (بالوضع): جعل شيء سبباً لآخر، أو شرطاً له، أو مانعاً منه.
فقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) المائدة: 1، حكم شرعي: لأنه خطاب من الله تعالى تعلق بفعل من أفعال المكلفين، وهو الإيفاء بالعقود على جهة الطلب له.
وقوله تعالى: (ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلاً) الإسراء: 32، حكم شرعي: لأنه خطاب من الشارع، طلب به الكف عن فعل، وهو الزنى.
وقوله تعالى: (وإذا حللتم فاصطادوا) المائدة: 2، حكم شرعي: لأنه خطاب من الشارع بإباحة الاصطياد بعد التحلل من الإحرام.
وقوله تعالى: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض) الجمعة: 10، حكم شرعي: لأنه خطاب من الشارع بإباحة الانتشار في الأرض بعد الفراغ من الصلاة.
وقوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً) آل عمران: 97، حكم شرعي: لأنه خطاب من الشارع بوجوب الحج على المكلفين.
وقوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا) المائدة: 38، حكم شرعي: لأنه خطاب من الشارع بجعل السرقة سبباً لوجوب قطع يد السارق أو السارقة.
وقوله تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس...) الإسراء: 78، حكم شرعي: لأنه خطاب من الشارع بجعل دلوك الشمس سبباً لوجوب الصلاة.
وقول النبي (ص): ((رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق))، خطاب من الشارع بجعل النوم والصغر والجنون أموراً مانعة من التكليف.
ومن تعريف الحكم عند الأصوليين يعرف أمران:
الأول: إن خطاب الله تعالى المتعلق بغير أفعال المكلفين، لا يسمى حكماً عند الأصوليين، مثل خطابه تعالى المتعلق بذاته وصفاته، كقوله تعالى: (والله بكل شيء عليم)، وخطابه المتعلق بما خلقه من جمادات كقوله تعالى: (والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره) الأعراف: 54، وقوله تعالى: (ألم نجعل الأرض مهاداً والجبال أوتاداً) النبأ: 6، وكذلك خطابه المتعلق بأفعال المكلفين، ولكن لا على سبيل الطلب والتخيير والوضع، كما في القصص القرآني كقوله تعالى: (ألم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين..) الروم: 1 ـ 2، وكما في إخباره عن خلقه للمخلوقات، مثل قوله تعالى: (والله خلقكم وما تعملون) الصافات: 96.
الثاني: إن الحكم عند الأصوليين هو نفس خطاب الله، أي نفس النصوص الشرعية، أما عند الفقهاء، فالحكم: هو أثر هذا الخطاب، أي ما يتضمنه هذا الخطاب، فقوله تعالى: (ولا تقربوا الزنى) هو الحكم عند الأصوليين، أما عند الفقهاء: فهو أثر هذا الخطاب، أي ما تضمنه هذا النص الشرعي، وهو حرمة الزنى.
المصدر :الوجيز في اصول الفقه
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق