الشيخ محسن العراقي
إنّ الثروة من وجهة النظر الإسلامية هي وسيلة لخدمة الإنسان، وإنّ الإنسان مسؤول عن استخدام هذه الوسيلة في سبيل تكامله وتكامل الطبيعة من حوله. الإنسان مسؤول عن استخدام جميع الإمكانات والوسائل التي وضعها الله تحت تصرفه من أجل قضاء حوائجه وسد النقصان والعوز.
إنّ الإنسان مسؤول عن الوصول إلى جميع الامكانات الكامنة في الطبيعة، التي خلقها البارئ تعالى لخدمته، للاستمرار في العيش والحياة، واستخدامها لبقائه. وعند هذا الحد لم تنته مسؤولية الإنسان بعد، بل عليه استخدام جميع الإمكانات والوسائل المتاحة من أجل نموه وتكامله وقضاء حوائجه كافة.
إنّ الإنسان يرى نفسه محتاجاً بالفطرة إلى خدمات الطبيعة المختلفة، فحاجاته لن تتوقف عند حدود معينة، وعلى هذا فمسيرة التكامل عنده سوف لن تتوقف أيضاً، فهو عندما يمضي في مسيرته الدائمية نحو التكامل يحتاج إلى بعض المتطلبات، وعليه أن يستخدم جميع الوسائل والإمكانات المتوافرة في الطبيعة هذه، كما جاء في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا...) (المؤمنون/ 51). باعتبار انّ الأنبياء شكَّلوا طليعة حركة الإنسان نحو التكامل، فقد وجهت لهم هذه الآية الخطاب الوارد فيها.
أما الآية التالية:
(وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) (المائدة/ 88).
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأرْضِ حَلالا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ...) (البقرة/ 168).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ...) (البقرة/ 172).
(فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (النحل/ 114).
(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا) (الإسراء/ 70).
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك/ 15).
لقد أكدت تلك الآيات الكريمة الإشارة إلى أمرين:
الأوّل: مسؤولية الإنسان في الاستفادة من جميع مواهب وإمكانات الطبيعة.
والثاني: أن تصب الاستفادة والاستخدام في مسيرة الإنسان نحو الكمال. وقد تم طرح هذين الأمرين في الآيات التي جاء ذكرها ببساطة ووضوح، فمن جهة يشير القرآن الكريم إلى مسؤولية الإنسان في الاستفادة من الإمكانات الموجودة: كلوا من الطيبات، كلوا مما رزقناكم، ومن جهة أخرى؛ يشير القرآن الكريم إلى القصد والهدف من هذه الاستفادة، فيقول البارئ عزّ جلّ: "واشكروا لله". "واشكروا نعمة الله، ولا تتبعوا خطوات الشيطان".
ولا تنتهي مسؤولية الإنسان أمام الطبيعة في السعي لسد احتياجاته ومستلزماته الشخصية، بل انّ مسؤوليته تتعدى ذلك، ويستفاد من آيات القرآن الكريم انّ مسؤولية الإنسان تشمل أيضاً الأحياء، وإعمار الأرض والطبيعة من حوله، وهذا الأمر يعني أنّ الإنسان ليس مسؤولاً عن السير نحو الكمال لشخصه وحسب، بل انّه مسؤول أيضاً عن المسيرة ذاتها بالنسبة لما يحيطه من العالم والطبيعة.
(وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) (هود/ 61).
وتجب الإشارة هنا إلى انّ كمال الطبيعة والعالم من حول الإنسان يكمن في أفضل استغلال لهما، ذلك انّ الآيات القرآنية كثيراً ما أكدت على انّ ما خلق في الطبيعة التي تحيط بالإنسان أعد لحاجات الإنسان في مسيرته التكاملية.
(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (إبراهيم/ 32-34).
وعليه، فإنّ الثروات والإمكانات الموجودة في العالم خُلقت ووجدت لتكامل الإنسان، وعليه تقع مسؤولية استخدامها والاستفادة منها لسد حاجاته وما ينقصه، وكذلك إحياء وإعمار العالم من حوله، نستنتج مما دار من حديث؛ انّ الثروة إذا ما استخدمت في غير المسيرة التكاملية للإنسان تفقد مشروعيتها، وعندها ستتبدل إلى قوة تعيق حركة الإنسان باتجاه الكمال، لأنّ الوسيلة التي يعدّها الإنسان لبلوغ هدف معيّن إذا ما استخدمها لبلوغ هدف آخر فإنّه سيكون عاجزاً عن تحقيق هدفه الأوّل وسيبتعد عنه أيّما ابتعاد. والثروة يجب أن تكون وسيلة توصل الإنسان إلى الكمال.
فإن لم تستخدم الثروة في بلوغ الهدف المنشود ستبعد الإنسان عن بلوغ هدفه وطريقه، وستتحول من نصر مفيد ونافع إلى عنصر ضار، وستقف حائلاً بوجه الإنسان باتجاه تحقيق أهدافه الأساسية. حيث يقول البارئ في محكم كتابه:
(ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (٣١)فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣٢)وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) (المؤمنون/ 31-33). حتى نصل في استمرار السورة إلى:
(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (المؤمنون/ 41)، ويقول الله في محكم كتابه أيضاً: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) (الإسراء/ 16).
تشير هاتان الآيتان بوضوح إلى حقيقة مفادها: انّ الثروة الطائلة ستتحول إلى مانع وحاجز إذا لم تُستخدم في طريق طاعة الله. كذلك أشارات الآيتان إلى حقيقة أخرى، وهي انّ السنّة الإلهية الثابتة قضت بمسيرة الإنسان صوب الكمال، وانّ الحواجز التي تقف بوجه هذه المسيرة ستزول بالضرورة. وعلى هذا الأساس، فإنّ الثروة غير المشروعة ليست مدانة من الناحية القانونية والتشريعية فحسب، بل انها محكومة بالفناء من وجهة نظر تكوينية، طبقاً للسن الإلهية الحاكمة على عالم الوجود.
الخصائص الأساسية لنظام التوزيع في الاقتصاد الإسلامي:
قلنا في البحث السابق؛ إنّ الثروة من وجهة النظر الإسلامية هي وسيلة لخدمة الإنسان، وعليه الاستفادة منها في طريق بلوغه الأهداف والمقاصد التكاملية. وفي هذا المبحث نشير إلى انّ استخدام الثروة من قبل الإنسان يكون جماعياً، ونقصد بهذا؛ انّ الإنسان انما يستخدم هذه الثروة ضمن حياته الاجتماعية وحينها تكون له علاقات اجتماعية متنوعة تربطه بالآخرين من حوله، وأساساً، فإنّ الثروة تكسب معناها عندما يشترك الإنسان في المجتمع وعبر علاقات اجتماعية خاصة مع الآخرين بالعمل من أجل استخدام مصادر وإمكانات الطبيعة. وهنا نصل إلى انّ الاستخدام السليم للثروة ونعني به استخدامها من أجل توفير الاحتياجات الحقيقية للإنسان وتحقيق الأهداف والغايات المعيشية له، يحتاج إلى نظام للتوزيع يحقق من خلال استخدامه للثروة الأهداف المنشودة، ومن أجل ان يوفّق نظام التوزيع هذا في تنظيم علاقة الإنسان بالثروة بشكل يمكنه من الاستفادة من الثروة في سبيل تحقيق أهدافه المنشودة، عليه أن يتحلّى بخصيصيتن أساسيتين:
الخصيصة الأولى: العدالة، والمقصود بها احترام الحقوق الذاتية والفطرية للإنسان، فإنّ كل إنسان يتمتع بثلاثة حقوق فطرية وذاتية في داخل المجتمع:
1- حق الحياة: فلكل إنسان الحق في أن يتمتع بعيش سليم ولا يستطيع أحد انتزاع هذا الحقّ منه أو أن يحول دون استفادة الآخرين من هذا الحق (إلّا إذا كان استمراره في العيش يمنع استمرار حياة الآخرين) وهذا حق ذاتي وفطري، ولا يحتاج إلى وضع قانون أو اتفاق حوله، فالجميع يعترفون بالفطرة بهذا الحق، فالإنسان يعتبر هذا الأمر حقاً مسلَّماً به لباقي أبناء جلدته.
2- حق العمل واستثمار الطبيعة من أجل تأمين احتياجاته: يعني حق العمل والسعي للإنسان، وحق استخدام مصادر الثروة الكامنة في الطبيعة، في طريق توفير احتياجاته فيما يتعلق بالحفاظ على الفرد والمجتمع الإنساني وبقاء الحياة لهما من جهة وتوفير مستلزمات التطور والتكامل للفرد والمجتمع من جهة أخرى، وهذا يُعد حقاً ذاتياً وفطرياً، ويعني أساساً، انّ الإنسان مهيأ لهذا العمل، وانّ الطبيعة وجدت وخلقت لذلك، ومن أجل هذا نرى أنّ الطبيعة خضعت واستسلمت للإنسان، وما أسلفنا ذكره من الآيات في سورة إبراهيم، وآيات كثيرة أخرى في القرآن الكريم تؤكد هذه الحقيقة.
3- حقّ ملكية الإنسان: وهذا يعد حقاً ذاتياً وفطرياً للإنسان، ولا يستطيع أحد أن يصادر أتعاب الآخرين، لأنّ جميع البشر متساوون في الخلقة، ولا يملك أحد حقّ حرمان أخيه الإنسان من العمل بقواه وطاقته الشخصية والذاتية.
يجب أن يعد نظام التوزيع بشكل يوفر فيه هذه الحقوق الثلاثة للبشر كافة، وفيما يخص الحق الأوّل يجب أن تتوافر من خلاله للجميع إمكانية العيش والتزود من مناهل الطبيعة الواسعة، وعلى هذا الأساس، فإنّ بعض بني البشر من العاجزين عن الاستفادة من ثروات الطبيعة لتأمين متطلباتهم المعيشية، كالشيوخ والعجزة والضعفاء والصغار واليتامى، أو المرضى أو المعاقين وغيرهم، على نظام التوزيع؛ أن يضمن حق هؤلاء من الثروة الموجودة في الطبيعة ويؤمّن ذلك عبر الثروة المستحصلة من الجهود المبذولة، حيث البارئ عزّ وجلّ: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (المعارج/ 24-25).
وفيما يخص الحقّ الثاني، يجب أن توفّر فرصة العمل والإنتاج للجميع، وكذلك الوقوف بوجه سيطرة بعض الأفراد على مصدر العمل والإنتاج وحصرها لأنفسهم بشكل يمنع الآخرين من الاستفادة من حقهم في الثروة الموجودة في الطبيعة، وليس لأحد الحق في سلب الآخرين حق العمل والإنتاج وحصر الأمر لصالحه. انّ الثروة الموجودة في الطبيعة متاحة للجميع بشكل متساوٍ، وليس لأحد أحقية أو أفضلية على سائر أبناء بلدته في استخدامه لمصادر الطبيعة.
وفيما يخص الحق الثالث، فعلى نظام التوزيع أن يضمن للإنسان حقه في تملّك نتيجة عمله، وأن يقف بوجه من يريد الإعتداء على حقوق الآخرين: (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 188)، (وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) (النساء/ 32).
نلاحظ انّ الآية الأولى منعت من تطاول الإنسان على أموال الآخرين، فيما أشارت الآية الثانية إلى حق الإنسان في إمتلاك نتيجة عمله وثمرة جهوده التي بذلها وكسبه الذي مارسه من دون أن يكون لأحد الحقّ في التعرض له.
ويقول سبحانه وتعالى في آية الخمس: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى) (الأنفال/ 41).
إذا اعتبرنا أنّ المراد من كلمة الغنيمة في الآية أعلاه الفائدة والمنفعة الحاصلة، وهو معناها اللغوي أيضاً، فإنّ المدلول الالتزامي لثبوت الخمس المذكور في الآية والمخصص لله والرسول وذوي القربى، يعني أنّ ما بقى من الغنيمة يكون لصاحبها، اما لماذا يدفع خمس الفوائد للحكومة الإسلامية فإنّه المقصود بحق "الله والرسول وذوي القربى" فهو يكمن في رعاية حقوق الآخرين، حيث تمت الإشارة إليه من شرح الحق الأول من الحقوق الثلاثة المذكورة، وليس هناك مجال للخوض فيه. على آية حال، فلا ريب انّ للإنسان حقاً في امتلاك نتيجة أتعابه وجهوده، كما وانه ليس هناك أدنى شك في انّ الاقتصاد الإسلامي يحترم هذا الحق ويؤكد عليه.
انّ النتيجة التي نخرج بها من هذا البحث هي: انّ الخصيصة الأولى التي لابدّ من توافرها في النظام السليم للتوزيع، وهو تحقيق العدالة قد توافرت في نظام توزيع الاقتصاد الإسلامي على أفضل الوجوه الممكنة، فإنّ نظام التوزيع في الاقتصاد الإسلامي يولي للحقوق الثلاثة التي أشرنا إليها عناية كاملة، وهو مبيّن على أساس توفير هذه الحقوق الفطرية.
الخصيصة الثانية: الفاعلية في التطبيق، يجب أن يتمتع نظام التوزيع بفاعلية، والمقصود بالفاعلية هو:
1- أن لا يقف نظام التوزيع في طريق تطوّر الإنسان وتوجّهه نحو الكمال في الأبعاد المعنوية والمادية.
2- أن يكون محركاً ودافعاً للاستعدادات الإنسانية الكامنة في مسيرة الكمال. وأن يثير في الذات الإنسانية دوافع الحركة والنشاط ويستثيرها للسعي والمضي قدماً في مسيرة الوصوف إلى الأهداف الكمالية في الجهات المعنوية والمادية.
إنّ المقصود من الفاعلية في بعدها الأوّل، هو أن لا يحوي نظام التوزيع عوامل رادعة تقف حائلة بوجه النمو المادي والمعنوي للإنسان، وبعكسه لا يمكننا توجيه الإنسان في مسيرته التكاملية، انّ تجويز استخدام أسباب الضياع والفساد الأخلاقي والمعنوي في المجتمع وكذلك السماح لنمو الثروات الاجتماعية عبر جهود لا أخلاقية، كالبيع وتعاطي المواد المخدرة والمقامرة، ستكون مانعاً في وجه النمو المعنوي والمادي للمجتمع الإنساني. والمراد من الفاعلية في بعدها الثاني هو توفير الأرضية للمسعى الاقتصادي الإيجابي، ومنح الحرية الواعية والموجهة، وتوفير الأرضية المناسبة لمنافسة المواهب والاستعدادات والطاقات المبذولة في مسيرة الأهداف الاقتصادية السامية والإيجابية. يتمتع نظام التوزيع للاقتصاد الإسلامي بهذه الخصيصة (التي تعد الخصيصة الثانية من التوزيع العادل والمنشود) من أعلى المستويات، وفي الحقيقة انّ كل ما ذكر تحت عنوان خصائص النظام الأصلح والأسلم للتوزيع كان بمثابة نموذج وخلاصة مضغوطة لنظام التوزيع من الاقتصاد الإسلامي، وبقليل من التأمل نستطيع أن ندرك الاختلاف الجذري والأساسي الواسع بينه وبين نظامي التوزيع الرأسمالي والاشتراكي.
3- الآثار المتقابلة للنظام الاجتماعي والسنن الطبيعية. انّ العلاقات داخل المجتمع الإنساني مبتنية على نوعين:
1- العلاقات الإنسانية، ونعني بها العلاقات النابعة من اختيار وإرادة الإنسان.
2- العلاقات الطبيعية، ونعني بها العلاقات التي ليس للإنسان دخل في اختيارها أو تعيين شكلها وكيفيتها.
ونطلق على الحالة التي تنظّم العلاقة الأولى اسم: "النظام الاجتماعي"، والحالة التي تنظم العلاقات الثانية نطلق عليها اسم: "السنن الطبيعية". وعلى سبيل المثال؛ فإنّ الحرية الاقتصادية في الاقتصاد الرأسمالي تنظمها العلاقات الاقتصادية التي تحكم المجتمع، لكننا نرى أنّ الاقصاد المركزي الذي تشرف عليه الدولة هو الحاكم في المجتمع الاشتراكي، وعلى هذا؛ فإنّ العلاقات الاقتصادية داخل المجتمع الاشتراكي متفاوتة مع العلاقات الاقتصادية داخل المجتمع الرأسمالي.
إنّ هيمنة نظام الاقتصاد الاشتراكي في المجتمعات الاشتراكية أو هيمنة نظام الاقتصاد الرأسمالي على المجتمعات الرأسمالية سيتم عبر انتخاب معيّن، فتارة يتم الأمر عبر انتخاب شعبي وتارة عبر نخبة معينة، ليتم تعميمه على البقية. فعلى أيّة حال، إذا تم الأمر عبر انتخاب معيّن وفرض من خلاله نظام خاص في العلاقات الاقتصادية يمكننا تسمية هذا النوع من الانتخاب بأنّه "انتخاب اجتماعي" وهذا الانتخاب يشابه تحكّم الإنسان في تصرفه مثلما يريد، فينتخب نوع وشكل لباسه أو طريقة تصرفه.
انّ المجتمع يختار إطار علاقاته الاجتماعية بنفسه، وأنّ النظام السياسي أو الاقتصادي أو الأخلاقي والثقافي نماذج من العلاقات الاجتماعية، حيث يتم انتخاب وتحديد نوعها وخصوصيتها بواسطة المجتمع، وعلى هذا فإنّ تحديد كيفية العلاقات الاجتماعية ونوعيتها أمر منوط باختيار الإنسان الذي يلعب هذا الدور الأساس والكبير. لكن الأمر في السنن الطبيعية غير ذلك فليس للإنسان دخل في شكل علاقة المنظومة الشمسية، بعضها مع البعض الآخر، أو علاقة الأرض بالماء، الضوء بالحرارة، الشمس بالنبات، الإنسان بالحيوان أو علاقة أجهزة الإنسان المختلفة بعضها مع البعض الآخر، وانّ الإنسان ليس له أدنى دور في طريقة ونوعية القانون الذي ينظّم هذه المجموعة من العلاقات أيضاً. انّ السنن الطبيعية لا تختص بالمخلوقات غير العاقلة فحسب بل انها تشمل حتى الإنسان، انّ كثيراً من السنن الطبيعية سائدة وجارية في المجتمع الإنساني، وفي مجال العلاقات الاقتصادية التي تنظّم عمل المجتمعات، مثل الترشيد والتطوير الاقتصادي، أو الركود والتخلف الاقتصادي والتضخم، البطالة، ارتفاع وانخفاض نسبة الأجور وأسعار السلع والخدمات، زيادة وانخفاض الإنتاج، وكذلك الأزمات الاقتصادية المختلفة، مثل الأزمات التي تعاني منها بلدان العالم الثالث حالياً فيما يخص عدم التوازن الموجود بين التسديد والقروض وأمثالها، تعود إلى قوانين يطلق عليها اسم: السنن الطبيعية المهيمنة على اقتصاد المجتمع.
العلاقة بين السلوك الاجتماعي والسنن الطبيعية:
وهنا سؤال يطرح نفسه وهو: هل هناك علاقة بين السنن الطبيعية والنظام المهيمن على العلاقات الاجتماعية؟ وإذا كانت فكيف، وبأيّة صورة؟
ومن وجهة النظر القرآنيّة؛ هناك علاقة بين السنن الطبيعية والنظام المتحكم في العلاقات الاجتماعية، وبشكل عام فإنّ طريقة اختيار الأفراد في ميادين العمل والتعامل الاجتماعية تترك آثارها في العلاقات الطبيعية، وبعبارة أشمل؛ فإنّ الطبيعة ليست خاملة ازاء سلوك الأفراد، بل انّها تبدي ردود فعل مختلفة بما يناسب ما يواجهها من أنواع السلوك المختلفة ولإيضاح ما تمت الإشارة إليه نورد المثال البسيط التالي، هناك أجهزة مختلفة تنشط في جسم الإنسان كالجهاز الهضمي، والجهاز العصبي، نظام الدورة الدموية، نظام المناعة وغيرها من الأجهزة والنظم الأخرى، وانّ هذه الأنظمة تعمل عبر قانون لا إرادي، وليس للإنسان دور في توجيهها ونشاطها. ومع هذا فإنّ ذلك لا يعني أنّ الإرادة الإنسانية عديمة الصلة بهذه الأنظمة لا تستطيع التأثير فيها، فمن الممكن أن يعتري هذه النظم خلل نتيجة عدم مراعاة الإنسان للمقررات الصحية، ربما امكننا في هذا الأمر الإشارة إلى مرض "الإيدز" المعروف، كنموذج في هذه العلاقة، فإنّ الاختلال الذي يعتري نظام المناعة عند الإنسان ناتج من إهمال الإنسان وعدم مراعاته للأصول التي يجب عليه أن يراعيها في تصرفاته الإرادية، وعبر هذا المثال، لاحظنا الآثار التي يتركها السلوك الإرادي للفرد على السنن الطبيعية. وبهذا الشكل يمكننا التصرف في العلاقة الموجودة بين السلوك الاجتماعي للفرد والسنن الطبيعية المهيمنة على العلاقات الاقتصادية، وقد كشف القرآن الكريم صراحة الستار عن قانون عام، حيث يقول تعالى:
(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأعراف/ 96). واستناداً إلى طريقة التفكير القرآني هنا علينا التأمل وبعمق عند محاولة تحليل الكثير من الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، والإلتفات بدقة إلى العلاقات الإنسانية الموجودة عند تبلور الأزمة، لأنّ كثيراً من الأزمات ناجم عن العلاقات الإنسانية المؤثرة في المحيط المتأزم، والتي تخفي بداخلها جذوراً متأصلة لأسباب الأزمة، حيث يجب كشف تلك الجذور والأسباب الأساسية والتأمل في إيجاد مخرج لها.
في هذا المقال نشير على سبيل المثال إلى ثلاث أزمات أساسية في العالم، وسنحاول تبيان رأي الإسلام حول أسباب تبلور هذه الأزمات الثلاث بشكل عام وإجمالي وسريع.
الأزمة الأولى: إنعدام التناسب بين النمو السكاني وزيادة الانتاج.
إنّ سرعة النمو السكاني الآخذة بالإزدياد على شكل متوالية هندسية، لا تتناسب إطلاقاً وسرعة زيادة الإنتاج الآخذة بالنمو على شكل متوالية عديدية، وانّ عدم التناسب هذا سيقود البشرية إلى أزمة حقيقية... وانّ طرق تنظيم النسل، حتى إذا طبقت بدقة عالية – وعلى نطاق واسع – فإنها ستكون عاجزة عن حل هذه الأزمة، ولو فرضنا أنّ عملية تحديد النسل قد طبقت بأفضل صورها، وفرضنا على سبيل المثال انّ العملية طبقت بشكل دقيق حيث حددت لكل عائلة طفل واحد فسنكون قادرين على المحافظة على معدل النمو من كل جيل بنسبة 50%، ومع هذا أيضاً سنظل عاجزين عن حل الأزمة، ذلك إذا ما حسبنا انّ معدل عمر كل جيل هو 25 عاماً، فإننا لا نستطيع معه رفع وتيرة الإنتاج خلال ذلك المعدل، 50% أضف إلى أنّ النتائج السلبية الناجمة عن العمل بمثل هذا النظام ستجلب بدورها، مشاكل جديدة أخرى أهمها – اضمحلال القوة البشرية المنتجة.
إذا كان نظام تحديد النسل وتنظيم الأسرة قد أخفق في تهدئة الآلام الناجمة عن الأزمة، فإنّه سيعجز بالطبع عن معالجتها، وبالتالي ستفعل الأزمة فعلتها، وانّ عملية تقطيع الأغصان والأوراق ستكون عاجزةً عن القضاء على شجرة عملاقة. فعلينا الخوض لاكتشاف السبب الأصلي ومكافحته.
الأزمة الثانية: أزمة سباق التسلح بين القوى الكبرى. انّ سباق التسلح بين القوى يهدد مستقبل الإنسانية بالمخاطر، الأمر الذي سلب من خلاله الأمن والهدوء من الناس. ماذا يعني تدمير عدد من الصواريخ متوسطة المدى، وكم سيحل من مشاكل البشرية؟! إنّ القضاء على كمية من الأسلحة، بالرغم من كونه أمراً مهماً وحيوياً، لكنه لا يستطيع معالجة أصل المشكلة هنا تحت معالجة المعلول دون التطرق إلى العلة الأساسية.
الأزمة الثالثة: إنعدام التوازن في ميزان التسديد أو المدفوعات مع حجم القروض في العالم الثالث.
إنّ لظهور هذه الأزمة جذوراً عميقة وعلينا معرفتها، والخوض في الجذور والأسباب والتفكير في حلها جذرياً. لقد أشار القرآن الكريم إلى أساس وجذور هذه الأزمة:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران/ 130).
لقد نهت الآية الكريمة عن أخذ الربح الربوي المضاعف، فليس المقصود هنا أنّ حرمة الربا تختص بما إذا كان الربا مضاعفاً على رأس المال المأخوذ، فهل إذا كان الربا لا يتعدى عدة أضعاف رأس المال يجوز لنا أن نقول انّه حلال؟ كلا، فقد أشارت آيات أخرى أنّه مهما تضاءل الربا فهو حرام، وعلى أصحاب المال أن يسترجعوا رؤوس أموالهم فقط، وليس لهم حق تسلم مبالغ إضافية، فقد أشار القرآن الكريم إلى الأمر التالي:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) (البقرة/ 278-279).
انّ الآيتين تشيران إلى ثلاثة أمور:
الأوّل: إنّ عملية الربح العائد من الربا مرفوضة أساساً، وما يجب إعادته لأصحاب المال هو رؤوس أموالهم فقط وليس لهم حق في استلام أرباح اضافية، وهذا يوضح ما أشارت إليه الآية الأولى. والمقصود بالربح المضاعف هو تبيين الآثار والنتائج المترتبة على أكل الربا، وانّ الربا (أساساً) يعني انّه في مقابل تسليم رأس المال تسلُّم عدة أضعاف منه كربح. ومن أجل توضيح الحقيقة المطروحة في الآية، علينا الانتباه إلى هذه الملاحظة: لقد حددت الطبيعة لنا أنّ لكلِّ ربح ومدخول قانوناً، وانّ العملية ليست اعتباطية، وعلى الإنسان أن يدفع الثمن المناسب إذا رغب في الحصول على شيء، وانّ كل مكافأة تحتاج إلى بذل مشقة معينة، وهذا قانون حتمي في الطبيعة بل ويعد جزءاً من السنن الطبيعية التي أشرنا إليها!.
وعلى هذا الأساس، فإنّ نمو الثروة لا يكون بلا نفقات، فزيادة الثروة في كل مجتمع تتطلب نفقات مناسبة، وانّ النمو الطبيعي للثروة في أي مجتمع يتأتى عبر حساب "القوة العاملة + الإمكانات المتاحة= رأس المال" أما إذا كان هناك سياق يؤدي إلى نمو الثروة وزيادتها دون حساب عامل القوة البشرية ورأس المال (النفقات) فمن الطبيعي أن يكون إزدياد الثروة إزدياداً غير طبيعي، وبالنتيجة تتضاعف الثروة لمرات عديدة. انّ هذه الأسلوب هو طريقة خاصة، لا يتم خلالها دفع نفقات في سياق زيادة الثروة، إلا انّ هذا لا يعني انّه لا يتم دفع نفقات حقيقية، بل المقصود أنّ ناتج العمل، ورأس المال الذي يضعه الآخرون يتم جمعهُ ومصادرته من قبل الحركة المذكورة. وبما انّ هذه الحركة هي جزء في إطار مجموعة واحدة فإنّ ظهورها سيؤدي إلى نوع من اللاتعادل في هذه المجموعة وحصيلتها تضاعف الثروة في نقطة أو عدة نقاط محددة على حساب باقي أعضاء المجموعة، ومن ناحية أخرى، ستكون عندنا حالة انعدام التناسب بين النفقات والأرباح، وبمعنى آخر، زيادة النفقات وانخفاض الأرباح في أجزاء أخرى من هذه المجموعة. في الحقيقة انّ إزدياد الثروة الناجم من هذه الحركة الخاصة في المجتمع أدى إلى إنخفاض نسبة الإنتاج، وفي المحصلة النهائية إنخفاض من الدخل في القطب الثاني من هذه المجموعة، وإنّ النشاط الربوي داخل المجتمع يمثّل ذلك الفريق الذي يمارس نشاطه دون اللجوء إلى العمل ورأس المال في إطار مساعٍ إقتصادية داخل مجتمع واحد يسفر عن إزدياد ونمو الثروة غير المتعادلة، والوصول في النهاية إلى مضاعفة الثروة، وينجم عن ذلك إزدياد الثروة التي يتحمل عبء مخارجها ونفقاتها الآخرون. لقد أشار القرآن الكريم وعبر أوضح الأمثلة إلى اللاتعادل الناجم عن النشاط الربوي يقوله تعالى:
(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) (البقرة/ 275).
حيث تشير الآية الكريمة إلى وصف سلوك الذين يتعاملون بالربا، وتقول: إنّ مسيرة الربا هي خلاف للطرق الاقتصادية العملية العادلة في المجتمع بشكل واضح. وعلى هذا، فإن سر إزدياد الثروة في مسيرة الربا أضحى واضحاً، فهو امتصاص تدريجي للثروة الناتجة عبر جهود جميع أبناء المجتمع، ومن خلال كون هذه الطريقة غير العادلة، المخالفة للنهج الاقتصادي في المجتمع القائم على حساب النفقات في العمل ورأس المال، وكذلك محدودية الثروة في كل مجتمع، فإنّ المحصلة النهائية ستكون بالطبع إزدياد الثروة في قطب، وإنخفاضها بشكل كبير في قطب آخر، واختلال التعادل والموازنة بين المدفوعات والعائدات، أو النفقات والواردات في المجتمع. وفي الوقت الحاضر، تقلصت فيه الفواصل والمسافات بين الشعوب وأصبحت لها علاقات ووشائج اقتصادية وسياسية وثقافية وتحولت عبر ذلك إلى مجتمع واحد أصبحت فيه الشعوب المختلفة أعضاءً. عوضاً عن الأفراد. وهنا يتحقق مصداق الآية القرآنية، ولكنه في مجال أوسع.
الثروة والنموّ الاقتصادي:
طبقاً لما يستفاد من آيات القرآن المجيد، فإنّ الثروة العامة للمجتمع البشري الحالي ثروة محدودة. وعلى هذا، فإنّ جميع شعوب العالم المتطورة والنامية المتخلفة تعد مشاركة في مسيرة انتاج الثروة العامة للمجتمع البشري، وانّ النهج الطبيعي لإزدياد الثروة يكمن عبر حساب نفقات العمل وترأس المال الأوّلي، للوصول إلى زيادة ونمو اقتصادي، ولكن ما هي العلة الكامنة في البلدان النامية العاجزة عن تحقيق النموّ المناسب رغم دفعها لنفقات العمل ورأس المال الذي يؤدي يوماً بعد آخر إلى إزدياد النفقات على حساب عدم إزدياد حجم المداخيل؟ إنّ العلة الأساسية – حسب الرأي القرآني – ناجمة عن الخلل الحاصل في طريقة تداول الثروة في المجتمع العالمي، وبعد أحد أكبر الغلل التي تؤدي إلى هذا الخلل، هو خطوة البلدان المتقدمة إلى زيادة الثروة دون تحملها عبأً حقيقياً، حيث تم ويتم في الحقيقة دفع هذه الزيادة من ثروات الشعوب في العالم الثالث.
لقد اقترح القرآن الكريم طريقاً أساسياً لحل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع البشري، واعلن في هذا المضمار، أنّ الإنسان سوف لن يجد طريق الخلاص من الدوّامات والأزمات التي يعاني منها والتي تمت الإشارة إليها إلا عبر اقتضاء الطريق المنشود، حيث قال البارئ عزّ وجلّ:
(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأعراف/ 96).
وحول الخلل الناجم عن النشاط الربوي والذي أوجد حالة من عدم التعادل بين المدفوعات في العالم الثالث، والقروض، أي عدم التعامل بين مجموعة النفقات والمدفوعات، قدّم القرآن الكريم حدّاً واضحاً عبر الآيتين (278 و279) من سورة البقرة اللتين ورد ذكرهما سابقاً، واللتين تدعوان إلى التزام التقوى والورع واتباع السُبل الإلهية العادلة، وإقامة العلاقات الاقتصادية الفردية والاجتماعية، واكتفاء أصحاب المال برؤوس أموالهم الأولية وإلغاء النظام الربوي.
وكما أشرنا، فإنّ الطريق الأساسي الذي اقترحه الإسلام هو إلغاء العلاقات الظالمة السائدة في عالم اليوم وإبدالها بعلاقات عادلة، أساسها التقوى والورع، والتي سيكون من نتائجها، القضاء على النظام الربوي في العلاقات الاقتصادية، وعدم تسديد مبالغ إضافية فوق الفروق الممنوحة.
وهذا الموضوع الذي يمكن الاستفادة منه من خلال الآيتين المذكورتين (278 و279) من سورة البقرة.
نستفيد هنا بأنّ الربا هو حرب مع الله ورسوله، وإذا أمعنا النظر وتفحصنا في الآية الثانية سندرك بأنّ الحرب مع الله والرسول هي مصداق للفساد في الأرض: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا...) (المائدة/ 33)، إلى آخر الآية. وكذلك الآية التي تقول: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ...) (البقرة/ 205). وتنتهي من ذلك إلى انّ الربا من وجهة نظر قرآنية هو حرب مع الله ورسوله وفساد في الأرض يوجبان هلاك الحرث والنسل، وهذا يعني ظهور أزمة اقتصادية ومجاعة، وانعدام الأمن ووقوع الحروب.
ونأمل أن يفكر الخيّرون والواعون والحريصون على المجتمع الإنساني، ومن أجل رفع مخاطر انتشار الظلم المتحكم في العلاقات الاقتصادية التي تهدد عالم اليوم – أن يفكروا في مستقبل البشرية بشكل جدي، وأن يساعدوا المجتمع، عبر المطالعات المخلصة والمحايدة والمعمّقة، وتقديم أنجع الحلول الإسلامية والقرآنية للمشاكل التي يعاني منها المجتمع حالياً، من أجل إيجاد طريق الخلاص من التخبطات العديدة التي تقف بوجه سعادته.
المصدر: مجلة التوحيد/ العدد 67 لسنة 1993م
ارسال التعليق