وكما كان الشأن مع مفهوم "العقد الاجتماعي"، فقد صار الحديث عن "حقوق الإنسان" على كلِّ لسان منذ نحو عقدين من السنين. والظاهرة اللافتة للنظر هي أنّ الذين رفعوا هذا الشعار وروّجوا له واتخذوه ذريعة لكثير من تصرفاتهم ومواقفهم، بحق أو بغير بحق، هم من "الأقوياء" في هذا العالم، أعني "الدول العظمى": الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا الغربية. هذا في حين أنّ شعار "حقوق الإنسان" هو شعار المستضعفين في الأرض، شعوباً وأفراداً؛ فهم الذين هضمت حقوقهم وتهضم باستمرار.
ليس هذا وحسب، بل إنّ مما لا يجوز للملاحظ اليقظ النزيه أن يغفل عنه، أو يتغافل، هو أنّ الحكومات التي ترفع شعار "حقوق الإنسان" لا تحترمها ولا تتصرف بموجبها في بلدانها هي ذاتها إلّا بالنسبة إلى فئة من مواطنيها. أما غير هذه الفئة، فهم يعاملون معاملة تهضم فيها كثير من الحقوق التي يجب أن يتمتعوا بها بموجب حق المساواة بين الناس، وهو الحق المؤسس لغيره من حقوق الإنسان الأخرى. يمكن أن نضرب مثلاً على ذلك بوضعية السود والهنود الحمر في الولايات المتحدة الأمريكية، ووضعية المهاجرين من أصل غير أوروبي في الدول الأوروبية.
هذه المفارقة تطرح قضية أخلاقية من قبيل: "لا تنه عن خلق وتأتي مثله"! ومعلوم أنّ مثل هذا السلوك هو محل ريبة دوماً، فالذي يأتي سلوكاً ينهى عنه، أو يمتنع عن إتيان فضيلة يحثّ هو الناس على التحلي بها، يفقد المصداقية ويفسح المجال للشك في نياته الحقيقية. إنّ حكومة ترفع شعار حقوق الإنسان سياطاً تلوّح بها في وجه غيرها من الحكومات، وفي الوقت نفسه تسكت عن غياب بعض حقوق الإنسان في بلدها، أو بلدان مرتبطة بها، لا يمكن أن تمنع الناس من الشك في مدى إخلاصها في دعواها، ولا في مشروعية ما تلوّح به من تنديد أو عقاب إزاء انتهاك غيرها من الحكومات لحقوق الإنسان. إنّ انتهاك حقوق المستضعفين من المهاجرين والسكان الأصليين وغيرهم من فئات الشعب الأمريكي أو الشعب الفرنسي أو البريطاني أو الألماني... إلخ، يطعن في مصداقية حكام هذه الشعوب عندما يعاتبون أو يعاقبون حكومات أخرى تنتهك فيها حقوق المستضعفين من أبنائها أو من الطوائف المتساكنة فيها. كما أنّ سكوت حكومات الدول الغربية عن انتهاك حقوق الإنسان الفلسطيني في إسرائيل، أو الإنسان العربي في بعض الدول العربية، والتنديد بالمقابل بانتهاك حقوق الإنسان في دول عربية أخرى، سلوك يفتقد المصداقية لكونه يخرق أهم دعامة في حقوق الإنسان، وهي المساواة. فالأمر لا يتعلق هنا بالكيل بمكيالين وحسب، بل أيضاً بالتمييز في الشعوب بين من يستحق أن تكون حقوقه المهضومة المنتهكة موضوع دفاع، ومن لا يستحق!
هذه المسألة تطرح سؤالاً عويصاً يمكن صياغته كما يلي، هل الدفاع عن حقوق الإنسان حق لكلِّ إنسان، أم أنّه حقّ فقط لمن يحترم حقوق الإنسان ويلتزم بها إزاء البشر جميعاً من دون تمييز؟ المشكلة المطروحة هنا هي مشكلة: الحق في الدفاع عن الحق!
لقد اعتاد الناس تجاوز هذه المشكلة العويصة، بل إلغاءها بالمرة، بالتمييز ابتداء بين "الحق" و"الواجب"، وبالتالي تصنيف السلوك البشري إلى قسمين: قسم ينتمي إلى "الحق"، وقسم ينتمي إلى "الواجب". وبناء عليه، فالمطالبة باحترام حقوق الإنسان هي حق لمن تنتهك هذه الحقوق في شخصه، ولكنها واجب بالنسبة إلى من يرى حقوق الإنسان تنتهك في شخص غيره. والقاعدة الأخلاقية العامة، على الأقل كما تواضع الناس عليها، هي أنّ الحق والواجب فضاءان مستقلان لا يتوقف أحدهما على الآخر. فليس من شرط التمتع بالحقِّ أداء الواجب، كما أنّ أداء الواجب لا يشترط فيه التمتع بالحقِّ، إلا إذا كان عدم التمتع به يفقد القدرة على أداء الواجب. فمن حقّ الفرد التمتع بالحرية والمساواة والعدل... إلخ، حتى ولو كان مقصراً في واجباته الدينية والاجتماعية وغيرها، أو كان هو نفسه يعرقل بصورة أو بأخرى تمتع غيره بتلك الحقوق. ومن واجبه أن يقوم بما هو واجب عليه حتى ولو لم يكن يتمتع بحقوقه كاملة، مادام غير محروم من حقوق يتوقف عليها عملياً أداء الواجب.
لنأخذ مثالاً من الميدان الديني، فهو ميدان الحقّ والواجب بامتياز: من حقِّ الفقير أن يحصل على نصيب من الزكاة، فالزكاة للفقراء والمساكين بنصّ القرآن. ولكن من واجبه أن يؤدي الصلوات الخمس في أوقاتها، سواء حصل على نصيب من الزكاة أو لم يحصل. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فتارك الصلاة ليس محرماً عليه أن يأمر الناس بالصلاة. وبصورة عامة، ليس من شرط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكفّ عن كلِّ منكر. وقد واجه المسلمون ويواجهون هذه المسألة في شخص الحاكم: هل تجوز ولاية الحاكم الفاجر إذا فرض نفسه بالشوكة والقوة وأقام الأمن؟ قال معظم الفقهاء بجوازها. وجوازها يعني الصلاة وراءها، والقتال تحت قيادته... إلخ.
أما من الناحية الأخلاقية، فيمكن أن نسوق المثال التالي: لنفرض أنّ هناك شخصاً منهمكاً في إغراق رجل في البحر، وفي الوقت نفسه ينبّه من حوله من المتفرجين إلى أنّ هناك شخصاً آخر يغرق بجانبه لكونه لا يعرف السباحة. فهل يجوز للمتفرجين أن يدعوا هذا الغارق الأخير يغرق، بدعوى أنّ الذي نبّه إليه لا يتمتع بالمصداقية لكونه يمارس هو نفسه فعل الإغراق؟
هذه المسألة التي طرحناها هنا على مستوى السلوك تطرح كذلك على مستوى المعرفة. فالحقّ على مستوى المعرفة يؤخذ من أي مصدر كان، فلا يعتبر فيه إلا كونه حقاً. والمثل يقول: "خذ الحكمة من أفواه الحمقى". والحديث النبوي يقول: "أطلب العلم ولو في الصين". وقد ردّ ابن رشد على الفقهاء الذين حرموا المنطق والفلسفة رداً فقهياً شهيراً قال فيه: "وإن كان غيرنا قد فحص عن ذلك (الحّق) فبيّن أنّه يجب علينا أن نستعين على ما نحن بسبيله بما قال من تقدمنا في ذلك، وسواء كان [ذلك] الغير مشاركاً لنا أو غير مشارك في الملّة، فإنّ الآلة (السكين) التي تصبح بها التذكية (ذبح الأضحية) ليس يعتبر في صحة التذكية بها كونها آلة لمشارك لنا في الملّة أو غير مشارك، إذا كانت فيها شروط الصحة (= أن تكون نظيفة وحادة). وأعني بغير المشارك من نظر في هذه الأشياء من القدماء قبل ملّة الإسلام. وإذا كان الأمر هكذا، وكان كلّ ما يُحتاج إليه من النظر في أمر المقاييس العقلية (المنطق) قد فحص [عته] القدماء أتم فحص، فقد ينبغي أن نضرب بأيدينا إلى كتبهم، فننظر فيما قالوه من ذلك، فإن كان كلّه صواباً قبلناه منهم، وإن كان فيه ما ليس بصواب نبَّهنا عليه".
وإذاً، فكما أننا نأخذ الحقّ في ميدان المعرفة من أين أتى، ولا نعتبر إلا كونه حقاً، فكذلك الأمر في ميدان السلوك: فالآمر بالمعروف كالمنادي باحترام حقوق الإنسان، يقول الحقّ. وكما نعمل بالحقِّ المعرفي، أعني الحقيقة العلمية، دونما اعتبار لسلوك مكتشفها أو معتقَد ناشرها، فكذلك يجب أن نعتبر حقوق الإنسان التي ينادي بها من قد لا يحترمها أو لأي عدل عندما يدعو إلى احترامها. فالحقّ حقّ في نفسه، وليس بقائله. نعم، يمكن الطعن في شهادة شخص ما استناداً إلى جرح في سلوكه. ولكن هذا الجرح لا ينال من الحقّ الذي قد تنطق به شهادته، فلا يجوز تجريح شخص ما فقط لأن شاهد الزور شهد له بالصلاح.
المصدر: كتاب في نقد الحاجة إلى الإصلاح
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق