الشيخ محمد مهدي الآصفي
◄نحن لا نتوقف عند كلمة "العنف"، ولا نشكّ في أنّ الإسلام، يتبنّى "العنف" إلى جانب "الرّحمة" في منهاجه التشريعي التكاملي. ولا نشكّ في أنّ "الرحمة" و"العنف" هما وجها هذا الدين، ومن دون هذا وذاك لا يمكن أن نفهمه.
تفسير العنف:
ولكن نتساءل لماذا العنف؟ وما هو؟ إنّ العقليّة الغربية تفسّر (العنف) باستخدام القوّة للتوسّع العسكري والاستبداد السياسي والديني.
وللقرآن تفسير آخر للعنف، لا علاقة له بالتفسير الأوّل إطلاقاً، فهو يذكر للقتال أربعة أهداف هي:
أوّلاً: وثانياً: تقرير أُلوهيّة الله ودينه على وجه الأرض، وإزالة الفتنة من حياة الناس. يقول تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ) (البقرة/ 193).
وهذه الآية تقرّر هاتَيْن الحقيقتَيْن بوضوحٍ ما بعده وضوح: تقرير أُلوهيّة الله، وتحكيم شريعة الله على وجه الأرض (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) وهذا هو أحد الهدفين، وللوصول إلى هذه الغاية لابدّ من إزالة عوامل الفتنة التي تعيق حركة الدعوة إلى هذه الغاية (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) ولا تزول الفتنة مادام أئمّة الظلم يحكمون الناس، ويحتلون مواقع القوّة في المجتمع.
وثالثاً: المستضعفين والمعذَّبين في الأرض، والدفاع، وإزالة الظلم عنهم. يقول تعالى: (وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا) (النساء/ 75).
رابعاً: الدفاع عن قواعد التوحيد والعبودية ولولا القتال لهُدّمت هذه القواعد، ولم يُعبَد الله على وجه الأرض: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج/ 40).
إذاً، العنف بغاياته. فإن كانت غاية العنف هي التوسّع العسكري، والتعسّف، وإذلال الناس وتطويعهم، وسلب كرامتهم وإرادتهم، فهو أمر سيء ومرفوض. وإن كانت غاية العنف إقامة الحقّ والعدل، وتحرير الإنسان، وإقامة دين الله في حياة الإنسان، والدفاع عن القيم، وعن المستضعفين، فهو الوجه الآخر للرّحمة، ولن تكتمل الرّحمة إلّا به.
الحياة الطيِّبة:
من طيِّبات ردكم وإبدائكم لهذه الملاحظات القيّمة، نجد وكأنّ الجهاد حتى لو كان في شكل مسلّح وعبر وسائل حربيّة، لا يمثل عائقاً ومانعاً أمام مبدأ الحرية في اختيار المعتقد. غير أنّ بعض المحاولات الفكرية ترمي إلى الإيماء إلى أنّ بعض القضايا الشرعية والمعتقدات الدينيّة مثل الجهاد والحدود تكوِّن عنصراً من عناصر الإكراه والإرغام لإخضاع غير المسلمين للشريعة الإسلامية، الأمر الذي لا يتجاوز تمنّياً وأملاً لن يتحقّقا؛ لأنّ العقيدة لا تكون إلّا عبر القناعة والإيمان، والسيوف غير قادرة على صنعها. هل تعزو هذا الموقف إلى نمط اجتهادي حديث أم ترغب في أن تصحّح الانطباع الراهن عن مقولة الجهاد والحدود اللتان توحيان بالعنف والتوسع بالسيف لدى بعض المفكرين وكثير من الناس؟
الشيخ الآصفي: أنا أفهم الآية الكريمة من سورة البقرة (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة/ 256)، على غير ما يفهمها بعض المفسرين.
إنّ هذه الآية ليست بصدد بيان حكم تشريعي، وإنما هي بصدد بيان قضية واقعية، لا علاقة لها بالتشريع، وهي أنّ أمر الدين من الوضوح؛ بحيث لا يحتاج الإنسان إلى الإكراه في قبول الدين، كما نقول إنّ الأمر في أهميّة المراجعة الطبيّة للمريض من الوضوح؛ بحيث لا يحتاج المريض غير الرّاشد، فإنّه يكرَه على مراجعة الطبيب عند الحاجة، وهذه قضية واقعية. وليست بصدد بيان حكم تشريعي في نفي الإكراه عن الإنسان لقبول الدين. والقرينة الواضحة على ما أقول هو تعقيب هذه القضية بقوله تعالى: (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة/ 256)، فإنّ دلالة هذه الكلمة واضحة في ما قلناه. ومعنى هذه الكلمة: أنّ لا حاجة إذاً إلى الإكراه، لوضوح الفارق بين الرُّشد والغيّ.
وهذا التعقيب يناسب أن تكون هذه الفقرة من آية سورة البقرة تقريراً لقضيةٍ واقعيّة، لا لحكم شرعي. فإنّ وضوح التميّيز بين الرّشد والغيّ أدعى إلى الإكراه والإلزام الشرعي من حالة عدم الوضوح، فإنّ للإنسان عُذراً في حالة اللبس وعدم الوضوح. بخلاف حالة الوضوح، فإنّ القانون يلزمه ويتشدّد في إلزامه.
المصدر: كتاب حوار في التسامح والعنف.. نظرة إسلامية
ارسال التعليق