أمّا الروح فالحديث عنها شيِّق على الدوام لأنّها صلة الوصل بين الإنسان وربه، لذا فقد اهتمَّ الإسلام بها وبتهذيبها والعناية بها أيَّما اهتمام.
لقد يئس المادِّيون وعلماء الطبيعة والكيمياء الحيوية وعلماء الطب وغيرهم من الوصول إلى جوهر الروح ومعرفة مكوناتها ومكانها في الجسم.
لقد قال (إنجلز) وهو أحد أركان المذهب الماركسي المتهالك في كتابه (أنتي دوهرينغ) بأن علماء الطبيعة قد فشلوا في إنتاج كائنات حيَّة من مكوناتها العضوية المعروفة. فقد صنع أحدهم بيضة دجاج فرعاها في ظروف مماثلة للبيضة الطبيعية فلم يتخلَّق منها جنين، وباءت المحاولة بالفشل، لأنّه لم يتمكن من نفخ الروح فيها، ولقد تلا هذه المحاولة محاولات أخرى كثيرة باءت جميعها بالفشل والخذلان، فأعلنوا عندئذ بأنّ الحياة لا تستمر ولا تكون بدون تناسل الكائنات الحيَّة، وهذا يعني أنّ المادّة لا تُولِّد المادة ولا الكائنات الحيّة، وهذا يناقض أساس وجوهر مذهبهم المهترئ المتخاذل، ويُثبت دون أدنى شكٍّ أن أصل الحياة كان خَلْقاً مقدَّراً من الله سبحانه وتعالى، وهذا يعني تقويض ونَسْف عرش النظرية وأركانها وأساساتها نَسْفاً تاماً. وقد ذكر (لينين) في دفاتره الفلسفية تعليقات مشابهة لما قال (إنجلز).
وقد قام عدد كبير من علماء العصر بدراسات جمّة متباينة درسوا فيها التغيُّرات التي تطرأ على أخلاط الجسم كالدم وغيره وهواء الرئة وغازات الدم، والتغيُّرات التي يرسمها تخطيط القلب المستمر في أجهزة المراقبة لدى المرضى أثناء سكرات الموت علَّهم يصلون إلى جوهر الروح أو معرفة شيء عنها، ولكنهم عبثاً يحاولون، وستبقى الروح من أمر الله وسرّاً من أسراره تنطق بوجوده وعظمته سبحانه وتعالى، وبذلك بقيت دليلاً عقلياً ومادياً على وجود الخالق جلّ جلاله على مدى العصور، وستبقى كذلك إلى يوم الدين.
وفي المؤتمر الذي عقده جهابذة علماء الطبيعة في نيويورك عام 1959م يبحثوا في أصل الحياة وفي الروح – لاقت نتائج دراساتهم وأبحاثهم وتجاربهم الفشل الذريع في إنتاج كائن حيٍّ من موادّ عضوية وكيميائية كالتي تتركب منها الكائنات الحيّة، ثمّ خلصوا إلى نتيجة مفادها أن أصل الحياة لازال سراً مجهولاً من أسرار الطبيعة (ونحن كمسلمين نصحِّح لهم هذه العبارة فنقول: بأن أصل الحياة لازال سراً من أسرار الخالق سبحانه وتعالى)، كما أعلن المؤتمرون فشلهم في معرفة جوهر الروح وقالوا بأنّه لا يمكن أن تتكوَّن من مواد عضوية معيّنة، وأنّها ليست تفاعلات ولا ظواهر كيميائية ولا فيزيائية ولا فيويولوجية، ولا يمكن رصدها في الجسم البشري. لقد كانت هذه النتيجة التي استخلصوها من مؤتمرهم ضربةً قاصمة لافتراءات أصحاب النظرية الماديّة، الذين كانوا يعتبرون الحياة – أي الروح – مجرد تفاعلات كيميائية تقوم بها خلايا الجسم المختلفة خاصة منها الاعضاء النبيلة كالدماغ والقلب والكبد والكليتين والرئتين.
ولكنّهم رغم اكتشافهم بطلان دعواهم لا زالوا مصرِّين على أنّ المخلوقات، بل والكون بأكمله قد تشكَّل بشكل تلقائي ثمّ طوّر نفسه بنفسه حتى صار على ما هو عليه من العَظَمة والدقة والكمال، وهم يحاولون إقناع أنفسهم بأفكارهم البالية بأسلوبهم الجدلي الفلسفي المعروف باسم الديالكتيك المادي (Dialectical Materialism). ولكن الله سبحانه وتعالى يردُّ على هذه الافتراءات فيقول: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (المؤمنون/ 12-14).
وقال جلَّ جلاله: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) (الطور/ 35).
وقال سبحانه وتعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (العنكبوت/ 20). وقد شرحنا هذه الآيات في الفصول السابقة. أما فيما يخصُّ الروح فقد جاء الجواب الإلهي على الماركسيين والمادِّيين والملحدين بيِّناً قاطعاً قاصماً: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا) (الإسراء/ 85). وهذا تحقير لمنزلتهم وعلومهم.
فالروح إذن سرٌّ من أسرار الخالق لا يمكننا إدراكها ولارؤيتها، ورغم ذلك نؤمن بوجودها كما نؤمن بوجود الله الخالق دون أن نراه، ولكننا على يقين تام بأنّه سبحانه وتعالى يرانا على الدوام ويراقب حركاتنا وسكناتنا وصلواتنا وعباداتنا، ويسمع ابتهالاتنا ودعاءنا ومناجاتنا، فهو الحيُّ القيُّوم الذي لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم، وهو الذي وسع كرسيه السماوات والأرض وبيده مقاليد أمورنا وأرواحنا وأرزاقنا وإليه المعاد ومصير العباد.
لقد تحدَّى الله الكافرين والملحدين بإعادة الروح للميّت أثناء النَّزع فقال: (فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الواقعة/ 83-87).
بالإضافة إلى التحدّي الكبير الكامن في هذه الآية العظيمة نستنتج أنّ الروح شيء يُقبض وأنها تغادر الجسد من الحلقوم (الحلق)، كما يبيِّن سبحانه وتعالى بأنّ الملائكة الموكلين بقبض الروح أقرب إلى الميّت – أو إلى روحه – من أهله وأصدقائه المتحلِّقين حوله، ولكنّ أحداً منهم لا يدرك من الأمر شيئاً. كما يتحدّى الله العظيم في هذه الآية الكريمة مَن يُنكر وجود الله والبعث والحساب إن كان بإمكانه ردَّ الروح من حلقوم قريبه إلى جسد هذا القريب الذي يعاني من سكرات الموت! فإن تمكَّن من ذلك فإن له الحقَّ كل الحقِّ في نكران ذات الله ونكران البعث والحساب، أمّا وإنّه سيفشل بشكل أكيد، فإنّ هذا يعني أن أمر الروح بيد غيره.. بيد الله العزيز الحكيم الذي له وحده مقاليد الأمور وأنّه سبحانه صادق فيما وعد وتوعَّد.
هذا التحدِّي الإلهي العظيم قائم منذ نزول هذه الآية وحتى قيام الساعة، تماماً كما تحدَّى الله الثقلين على أن يخلقوا أضعف وأحقر مخلوقاته كالذباب وغيره (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (لقمان/ 11)، ولكن (قُتِلَ الإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ) (عبس/ 17).
المصدر: كتاب وجود الله بالدليل العلمي والعقلي
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق