◄معنى انّ الإسلام دين الفطرة: أنّه الدين الذي خلق الله خلق مفطورين عليه. وبعبارة أخرى، انّ معنى الفطرة: مجموعة من المكونات الأخلاقية التي من مظاهرها محبة العدل وكراهية الظلم وإحقاق الحقّ وإزهاق الباطل، وإيثار الرحمة إذا وجب العدل، وسيادة الفضيلة ومحق الرذيلة، وتحديد المسؤولية في كلِّ ما كسبته يد الإنسان، كما أنّ من معاني الفطرة، مجموعة العواطف والغرائز التي تحكم الإنسان في إطار تحقيق عزة الإنسان ورفعة شأنه في ظل مجتمع عزيز الجانب ممسك بحبل الله المتين (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (المنافقون/ 8)، فإنّ أساس هذه الفطرة هو ما يكمن في تكوين الإنسان من معرفة الله حقّ المعرفة، بحسب العهد الذي أخذه الله على الإنسان، وهو ما جاء في قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا) (الأعراف/ 172).
وليس من المحتمل تحرير الإنسان، عما هو مركوز في فطرته من الغرائز والميول النفسية والعواطف الوجدانية الخيرة، إلا بمؤثر خارج عن نفسه، من البيئة التي ينشأ فيها، من أبيه وأمه والمحيطين به، يقول الرسول (ص): "كلّ مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"[1].
ومن هنا كان قول الله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الرّوم/ 30)، وأنّ الفطرة هي الخلقة، وأنّ هذه الخلقة هي الدين القيم، وهي ما يخلق عليه الإنسان من غرائز وطبائع وقوى وملكات تحدد منهج السلوك الطيب والاعتقاد الصحيح في حياته.
عقيدة وسط:
إنّ العقيدة الإسلامية وسط بين العقائد، فلم تجنح إلى التجسيد والتشبيه، كما جنحت اليهودية والعقائد الوثنية، فإنّ اليهودية جعلت الخالق كالمخلوق من البشر، فوصفته بالتعب بعد فراغه من خلق العالم[2]، وأنّه محب لليهود متحيز لهم، كما يصفونه بالعنف والقسوة على الشعوب غير اليهودية، وأنّه يهبط ليصارع أحد الأنبياء حتى الفجر، ولما لم يتمكن من الإفلات منه، بعد إصابته في فخذه، أنعم عليه بتغيير اسمه[3].
كما لم يكن الإله في الإسلام فكرة مجردة، كالذي اعتقدته الفلسفة الإفلاطونية، فقد وصفت الإله بالسلب دائماً، حتى صار فكرة مجردة فقالوا: إنّه ليس عدماً، وليس جاهلاً، وليس عاجزاً، وليس متعدداً، وليس حادثاً، وليس أصم، وليس أبكم.. إلى آخره، في مقابلة كونه موجوداً عالماً، قادراً، واحداً... إلى آخره. حتى صار الإله في تلك الفلسفة مجموعة من السلوب الصائرة به إلى كونه عدماً محضاً.
فمفهوم الإله عند اليهود ومن على شاكلتهم يصيره محدداً، وإذا تحدد وقع في دائرة الحس ومحيطه واحتواه مكان وخلت منه أمكنة، ورآه خلق وغاب عن رؤية الآخرين، وكلّ ذلك نقص لا يليق بالكامل سبحانه وتعالى.
مفهومه عند من يصيره أمراً معنوياً وفكرة مجردة تجريداً مطلقاً لا يدل عليها وصف، ولا يدرك لها واقع تتجلى فيه، يجعل العقل لا يستطيع بهذا المفهوم أن يدركه ولا أن يتصوره تصوراً يستطيع معه أن يحكم عليه بالوجود، أو أن يدرك له أثراً وفاعلية.
أما مفهوم الإله في دين الإسلام فلم يكن شيئاً مادياً تجسيدياً، كما لم يكن فكرة مجردة بعيداً عن الإيجابية والواقعية، فإنّ المسلم يهدف في تقديسه للإله إلى حقيقة خارجة عن نطاق الأذهان، وإن كانت تعبر عنها الأذهان، فإنها في هذا التعبير تشير إلى ذات مستقلة قائمة بنفسها، ليست مجرد عرض من الأعراض أو لقب من الألقاب، يقول الدكتور دراز:
"إنّ التقديس الديني ليس تقديساً لذات أيّاً كانت، وإنما هو تقديس لذات لها صفات خاصة، وأهم مميزاتها أنها ليست مما يقع عليه حس المتدين، ولا مما يدخل في دائرة مشاهداته، وإنما هي شيء غيبي لا يدركه إلا بعقله ووجدانه، فالذي تتميز به العقيدة الدينية... هو أنّ لها خاصية الإيمان بالغيب أي بما وراء الطبيعة.
ثمّ إنّ هذا الغيب الذي نؤمن بوجوده من وراء الطبيعة، ليس من جنس هذه الطبيعة المادية المنفعلة، بل هو شيء ذو قوة فاعلة مؤثرة، وله أسلوب في تصرفاته مباين للطرائق التي تؤثر بها المادة فيما حولها، إذ أنّ هذه المواد يصدر عنها أثرها دون شعور منها، ولا اختيار لها في صدوره. أما القوة التي يخضع لها المتدين فإنّه يفهمها على أنها قوة عاقلة تقصد ما تفعل، وتتصرف بمحض إرادتها ومشيئتها.
وأخيراً فإنّ هذه القوة العاقلة، المدمرة في نظر المؤمنين بها ليست قوة منطوية على نفسها منعزلة عنه وعن العالم، بل يرى أنّ لها اتصالاً معنوياً به وبالناس، تسمع نجواهم، وتصغي لشكواهم وتعنى بآلامهم وآمالهم، وتستطيع إن شاءت أن تكشف عنهم ما يدعونها إليه.
من جملة هذه المعاني يتحدد على وجه الإجمال المعنى الإجمالي الذي يتعلق به الاعتقاد والتقديس... ولتلخيص هذه الاعتبارات في لقب واحد نقول: إنّ التقديس الديني تأليه وعبادة، وإنّ موضوعه (إله معبود)... ونقول: إنّ القوة التي يقدسها المتدين ليست فكرة مجردة، وصورة عقلية خالصة، بل هي خارجة، ونقول: إنّ هذه الحقيقة ليست مادة يقع عليها الحس، بل هي سر غيبي لا تدركه الأبصار، ونقول: إنّ هذه القوة الغيبية قوة عاقلة تتصرف بالإرادة، لا بالضرورة كالمغناطيس والكهرباء، ونقول أخيراً، إنّ لهذه القوة عناية مستمرة بشؤون العالم الذي تدبره، وإنّ لها تجاوباً نفسياً مع نفوسه"[4].
وبهذا نخلص في مفهوم الوسطية في العقيدة الإسلامية إلى أنّ الإله ذات غيبية متصلة بعابديها، طليقة المشيئة ولها المشيئة العليا، ولما كان تصورنا لها عسيرا، اسعفنا القرآن الكريم بالقدر الضروري من الصفات مما يسد حاجتنا لإمكان تصورها، فأثبت لها من الصفات، العلم والقدرة والإرادة والحياة والسمع والبصر والحكمة، وغير ذلك مما جاء به القرآن الكريم من صفات الكمال التي تليق بذاته الكريمة، فالله سبحانه ذات ولكن (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى/ 11)، (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (البقرة/ 255).
عقيدة بسيطة غير معقدة:
لقد بلغت العقيدة الإسلامية، في بساطتها، أن يدركها العام والخاص والعالم والجاهل، فلا لبس فيها ولا غموض، لأنّ من مكامن النفس أن تدرك أنّ وراء العالم، البديع الصنع، المحكم التنسيق، واحداً خلقه وأحكم خلقه (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) (الفرقان/ 2)، فلا شريك له في خلقه، وأنّ الفطر السليمة تدرك ذلك ببداهة لعقول، إذا تخلت عن عصبية التقليد وغواشي الحياة (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) (العنكبوت/ 61)، وهذا يدل على فطرية العقيدة، وأنها كامنة في النفوس بسيطة الإدراك (قُلْ لِمَنِ الأرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) (المؤمنون/ 84-89).
وهكذا يستنطق الله الفطرة فتجيب ببساطة: انّ الله خالق كلّ شيء ومليكه ومدبر الأمر في السماء وفي الأرض.
وليست العقيدة الإسلامية كغيرها من العقائد المهمة المعقدة التي تدعو أصحابها إلى الإيمان الأعمى جاحدة ما في الإنسان من خصائص الفكر والفطرة المركوزة في صميم نفسه، يقول الداعون إلى تلك العقائد العقيمة "آمن أوّلاً ثمّ فكِّر" فإذا فكر بعد إيمانه بما دعوه إليه حكموا عليه بالطرد والحرمان من نعمة الرب ورحمته، وحتم عليه أن يسير في ركاب رؤساء الدين عنده. وتلك هي دعوى المسيحية.
أما الإسلام – وهو الدين الحقّ – إذا أراد صاحبه أن يخرج من دائرة المعرفة بالله المبنية على البداهة والفطرة إلى المعرفة المبنية على الدليل والبرهان، فإنّه يشبع فكره وعقله دون ما حجر على الفكر الحر والعقل المشرف للحقيقة العليا، ولهذا فهي عقيدة.
عقيدة لا تتناقض مع التفكير السليم:
لو استقرأنا كلَّ ما جاء في العقيدة الإسلامية لما وجدنا فكرة واحدة تتناقض مع التفكير السليم، فالله سبحانه وتعالى حينما يستنطق الفطرة بالسؤال عمن خلق السماوات والأرض ومن يدبر الأمر، فمعنى هذا أنّ الله أودع في طبيعة الإنسان قوة قادرة على التعرف على من خلق الخلق وأبدع الوجود، وذلك بواسطة ما نصب للإنسان من أدلة كونية، يستطيع الإنسان بالتأمل والتدبر فيها أن يعرف الخالق سبحانه، فيكون إيمانه بالدليل والبرهان لا عن عمى وتقليد، فلا تناقض العقل ولا التفكير الصحيح، وما أكثر ما ساق القرآن الكريم من هذه الأدلة المنتجة لليقين والمثبتة للقلوب والأفئدة، وذلك في مثل قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ) (آل عمران/ 190). وقوله: (وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (الذاريات/ 20-21)، وقوله: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) (الأنبياء/ 22)، وقوله: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (المؤمنون/ 91)، والقرآن الكريم مليء بما يشير إلى ما نصب الله في الكون من أدلة وبراهين على وجوده سبحانه.
الهوامش:
[1]- أخرجه أبو داود.
[2]- سفر التكوين، 2:2، 3.
[3]- تكوين، 32: 24-30.
[4]- محمّد دراز/ الدين، ص37، 38، 40.
المصدر: مجلة هدي الإسلام/ العدد الثاني لسنة 1983
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق