• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

العلاقة بين القضاء والقدر وإختيار الإنسان

معهد الدراسات الإسلامية في كربلاء/ العراق

العلاقة بين القضاء والقدر وإختيار الإنسان

◄- مفهوم القضاء والقدر:

إنّ لفظة "القدر" بمعنى المقدار، و"التقدير" يعني قياس الشيء وجعله على مقدار، وصنع كلّ شيء بحدٍّ معين ولفظة "القضاء" بمعنى الإتمام والفراغ من الشيء، أو الأداء، والحكم، (وهو نوع من الاتمام الاعتباري). وأحياناً تستعمل كلتا الكلمتين بمعنى مترادف حيث يستعملان في معنى "المصير".

والمراد من التقدير الإلهي، أنّ الله تعالى جعل لكلّ حادث مقداراً وحدوداً كمية وكيفية وزمانية ومكانية معينة، في تحققه بفعل العلل والعوامل التدريجية، والمراد من القضاء الإلهي، إيصال الحادث إلى مرحلته النهائية والحتمية بعد توفر المقدمات والأسباب والشروط لذلك الحادث. وعلى ضوء هذا التفسير، تكون مرحلة التقدير متقدمة على مرحلة القضاء، حيث تكون للتقدير مراحل تدريجية مشتملة على مقدمات بعيدة ومتوسطة وقريبة، ويتعرض التقدير للتغير بتغير بعض الأسباب والشروط.

فمثلا مسيرة الجنين المتدرجة من النطفة إلى العلقة فالمضغة، إلى أن تكون جنيناً متكاملاً، تعتبر هي المراحل المختلفة لتقديره، حيث يشمل المشخّصات الزمانية والمكانية أيضاً، وسقوط هذا الجنين في مرحلة من هذا المراحل يُعدّ تغيراً في التقدير. وأمّا مرحلة القضاء فهي دفعية وليست تدريجية، ومرتبطة بتوفر كلّ الأسباب والشروط، وهي أيضاً حتمية لا تقبل التغير (إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (آل عمران/ 47). ولكن وكما أشرنا إليه يستعمل (القضاء والقدر) كلفظين مترادفين أحياناً ومن هنا يقسم للحتمي وغير الحتمي، وبهذا اللحظات تعرّضت بعض الروايات والأدعية لتغيير القضاء وأنّ الصدقة والبرّ بالوالدين وصلة الرحم والدعاء من عوامل تغيير القضاء.

 

- القضاء والقدر العلمي والعيني:

يستعمل التقدير والقضاء الإلهي أحياناً، بمعنى علم الله بتوفر المقدمات والأسباب والشروط المؤثّرة في تحقق الظواهر وكذلك علمه بالوقوع الحتمي لها، ويطلق على ذلك "القضاء والقدر العلمي"، وأحياناً يستعمل بمعنى انتساب المسيرة التدريجية للظواهر، وكذلك انتساب تحقّقها العيني الخارجي، إلى الله تعالى، ويطلق عليه "القضاء والقدر العيني".

ووفقاً لما يستفاد من الآيات والروايات، فإنّ العلم الإلهي بكلّ الظواهر بالصورة التي تتحقق بها في العالم الخارجي تماماً، مودع في مخلوق شريف رفيع، يسمى "اللوح المحفوظ". وكلّ من يمكنه الاتصال بهذا اللوح، سيكون عالماً بالظواهر الماضية والمستقبلية. وهناك ألواح أُخر، أقل رتبة ومقاماً من اللوح المحفوظ، أودعت فيها الظواهر بصورة مشروطة وغير تامة، ومَن يشرف ويتعرّف عليها ستكون له معلومات محدودة وناقصة ومشروطة وغير تامة، ومَن يشرف ويتعرّف عليها ستكون له معلومات محدودة وناقصة ومشروطة قابلة للتغير، وربما تكون هذه الآية الشريفة ناظرة إلى هذين النوعين من المصير (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) (الرعد/ 39)، وتغير التقديرات المشروطة وغير الحتمية يعبّر عنه في الروايات بـ"البداء". إذن فالإيمان بالقضاء والقدر العلمي، لا يثير إشكالاً أكثر مما ذكر في موضوع العلم الإلهي الأزلي.

ولكن الإشكال الأكثر صعوبة يأتي في مجال الاعتقاد بالقضاء والقدر العيني، وخاصّة في مجال الإيمان بالمصير الحتمي، علينا معالجته والإجابة عنه وإنّ علم الجواب الإجمالي عنه في موضوع التوحيد بمعنى التأثير المستقل.

وأنّ الاعتقاد بالقضاء والقدر العيني الإلهي، يقتضي الاعتقاد بأنّ وجود الظواهر من بداية وجودها حتى مراحل نموها وإزدهارها، إلى نهاية عمرها، بل من حين توفر المقدمات البعيدة لها، كلّها خاضعة للتدبير الإلهي الحكيم، وعلينا أن نؤمن أيضاً بأنّ توفر الشروط لوجودها ووصولها إلى المرحلة النهائية، مستند إلى الإرادة الإلهية.

وبعبارة أخرى: فكما أنّ وجود كلّ ظاهرة، منتسب للإذن والمشيئة التكوينية لله وبدون إذن لا يمكن لأي موجود أن يفتح عينيه على عالم الوجود، كذلك فإنّ وجود وتكوّن كلّ شيء مستند إلى التقدير والقضاء الإلهيين وبدونها لا يمكن لأي موجود الوصول إلى شكله وحدوده المعينة، ولا يصل إلى نهاية عمره، وتوضيح هذه الارتباطات والعلاقات وتفسيرها يمثّل في واقعه التعليم التدريجي للتوحيد بمعنى الاستقبال في التأثير، الذي هو من أرفع مراتب التوحيد فإنّ للتأكيد على مثل هذه العلاقات والتنبيه عليها دوره الكبير في بناء شخصية الإنسان.

وأمّا إسناد الظواهر إلى الإذن، بل حتى للمشيئة الإلهية، فهو أيسر فهماً وأقرب إلى الأذهان، خلافاً لإسناد مرحلتها النهائية وتعينها الحتمي للقضاء الإلهي. فإنّه لأجل صعوبة استيعابه وفهمه لذلك بحث فيه أكثر، وذلك لأنّه يصعب التوفيق بين هذا الإيمان، والإيمان باختيار الإنسان في رسم مصيره وتحديده، لذلك رأينا بعض المتكلمين (الأشاعرة) الذين تقبّلوا شمول القضاء الإلهي لأفعال الإنسان، قد اتجهوا إلى القول بالجبر، بينما نرى جماعة أخرى (المعتزلة) الذين لم يمكنهم القول بالجبر وآثاره الخطيرة والسيِّئة، قد أنكروا شمول القضاء الإلهي لأفعال الإنسان الاختيارية، وكلّ جماعة أوّلت الآيات القرآنية والروايات المخالفة لرأيها بما يتلاءم واتجاهها ورأيها، كما ذكر ذلك كلّه في الكُتُب الكلامية الموسعة وفي الرسائل المخصصة للبحث حول الجبر والتفويض.

والمحور الرئيسي للاعتراض: أنّ فعل الإنسان إذا كان اختيارياً حقّاً، ومستنداً لإرادته، فكيف يمكن القول باستناده لإرادة الله وقضائه؟ وإذا كان مستنداً للقضاء الإلهي فكيف يمكن القول بأنّه خاضع لإرادة الإنسان واختياره؟

ولأجل الجواب عن هذا الاعتراض والتوفيق بين استناد الفعل لإرادة الإنسان واختياره، واستناده لإرادة الله وقضائه، يلزم علينا أن نبحث حول أنواع استناد المعلول الواحد لعلل متعدّدة، حتى يتضح لنا نوع استناد الفعل الاختياري ولله تعالى.

 

- أنواع تأثير العلل المتعدّدة:

يمكن أن يتصوّر تأثير العلل المتعدّدة في وجود ظاهرة ما، بعدة صور:

1- أن تؤثّر العلل المتعدّدة معاً، وكلّ منها منضمة للأخرى، وتساهم جميعاً في وجود الظاهرة، كاجتماع البذر والماء والحرارة وغيرها، حيث تؤثّر في انفلاق البذر وخروج النبات.

2- أن تتناوب العلل في التأثير، بحيث يمكن تقسيم تلك الظاهرة، على عدد تلك العمل، وكلّ قسم منها معلول لواحدة من العلل والعوامل، التي تؤثّر أثرها خلال وقتها ونوبتها، كما لو كانت هناك عدة محركات للطائرة، تؤدي بالتناوب عملية استمرارية حركة الطائرة.

3- أن يكون تأثير كلّ واحد منها مترتباً على الآخر، كما في تصادم كرات رياضية متعدّدة، كلّ منها بالآخر فكلّ واحدة هي السبب في حركة الأخرى، وكما في الاصطدامات الحلقية المسلسلة حيث تسقط الحلقة اللاحقة من حلقات السلسلة بتأثير السابقة على التعاقب، ومثال آخر له، ما نلاحظه من تأثير إرادة الإنسان في حركة اليد، وتأثير اليد في حركة القلم. وتأثير القلم في وجود الكتابة.

4- التأثير المترتب على علل وعوامل متعدّدة طويلة، بحيث يكون وجود كلّ منهما مرتبطاً بوجود الآخر، خلافاً للقسم الثالث حيث لم يكن وجود القلم مرتبطاً بوجود اليد، أو وجود اليد مرتبطاً بإرادة الإنسان، وفي هذه الصور جميعاً يمكن أن تجتمع علل متعددة على معلول واحد، بل يجب اجتماعها. وتأثير الإرادة الإلهية وإرادة الإنسان في الفعل الاختياري من القسم الأخير، إذ إنّ وجود الإنسان وإرادته مرتبطان بالإرادة الإلهية وأمّا الصورة التي لا يمكن فيها أن تجتمع علتان على معلول واحد، فهي الصورة التي تجتمع فيها علتان موجدتان، أو علتان يمتنع الجمع بينهما في التأثير في عرض ومستوى واحد وعلى البدل كما لو فرضنا صدور إرادة واحدة من فاعلين مريدين، أو استناد ظاهرة واحدة إلى مجموعتين من العلل (علتين تامتين).

 

- مناقشة شبهة:

تبيّن مما ذكرناه من توضيحات، أنّ استناد وجود الأفعال الاختيارية الإنسانية إلى الله تعالى، لا ينافي استنادها للإنسان نفسه، لأنّ أحدهما في طول الآخر، ولا تزاحم بينهما.

وبعبارة أخرى: استناد الفعل للفاعل الإنساني في مستوى، بينما استناد وجوده لله تعالى فهو في مستوى آخر أسمى من ذلك المستوى فإنّه في ذلك المستوى يكون وجود الإنسان نفسه، ووجود المادّة التي يحقّق فعله فيها، ووجود الآلات التي يستخدمها في القيام بفعله، كلّها مستندة إلى الله تعالى. إذن فتأثير إرادة الإنسان التي هي من قبيل الجزء الأخير للعلة التامة في فعله، لا ينافي استناد جميع أجزاء العلة التامة إلى الله تعالى، فإنّه تعالى هو الذي يملك بيد قدرته وجود العالم والإنسان وكلّ شؤونه وأحواله الوجودية، وهو الذي يفيض الوجود عليها باستمرار، ولا تستغني عنه تعالى في أي زمان وحال، وليست لها أية استقلالية عنه وبناء على ذلك فالأفعال الاختيارية للإنسان غير مستغنية عنه تعالى أيضاً، ولا يمكن لها أن تخرج عن حدود إرادته وكلّ صفاتها ومميزاتها وحدودها ومشخصاتها أيضاً مرتبطة بالتقدير والقضاء الإلهي، وليس كما ذكر، بأنّ هذه الأفعال إمّا أن تكون مستندة لإرادة الإنسان، أو مستندة لإرادة الله، وذلك لأنّ هاتين الإرادتين ليستا في عرض ومستوى واحد، ولا يمتنع الجمع بينهما، ولا يؤثران في تحقّق الأفعال على البدلية، بل إنّ إرادة الإنسان كأصل وجوده نفسه، مرتبطة بالإرادة الإلهية، ووجود الإرادة الإلهية ضروري لتحققها (وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (التكوير/ 29).

 

- معطيات الاعتقاد بالقضاء والقدر:

إنّ الاعتقاد بالقضاء والقدر الإلهي، كما أنّه يعتبر مرحلة رفيعة من معرفة الله، ويؤدي إلى تكامل الإنسان عقلياً، فكذلك له آثار ومعطيات عملية كثيرة، نذكر هنا بعضاً منها:

إنّ مَن يؤمن بأنّ حدوث الحوادث خاضع لإرادة الله الحكيمة، ومستند إلى التقدير والقضاء الإلهي، لا يخشى الأحداث المؤلمة، ولا ينهار أمامها، ولا يتملّكه الجزع واليأس، فإنّه حين يعتقد بأنّ هذه الأحداث تمثل جانباً من نظام العالم الحكيم، وتتحقّق وفق مصالح وحكم، يستقبلها بأحضان مفتوحة، ليتوصل من خلال هذا الموقف المؤمن إلى مَلَكات فاضلة، أمثال الصبر والتوكل والرضا والتسليم غيرها.

وكذلك لا تشدّه ولا تخدعه ملذات الحياة وأفراحها، ولا يصيبه الغرور والخيلاء، بها، ولا يتخذ النعم الإلهية سلماً للتفاخر والاستعلاء. إنّ هذه المعطيات القيّمة هي التي تشير إليها الآية الشريفة: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (الحديد/ 22-23). وعلينا أن نؤكد على تجنّب آثار ومضاعفات التفسير المنحرف لمسألة القضاء والقدر والتوحيد في التأثير المستقل، فإنّ التفسير الخاطئ يؤدي إلى الكسل والبطالة والمذلة وقبول الظلم والجور، والتهرب من المسؤولية، ويلزم علينا أن نعلم أنّ السعادة أو الشقاء الأبدي للإنسان إنما هو نتيجة أفعاله الاختيارية نفسه (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) (البقرة/ 286). (وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى) (النجم/ 38).►

 

المصدر: كتاب دروس في العقيدة الإسلامية

ارسال التعليق

Top