علي زيتون *
يقع الفن على مسافة واضحة من الواقع، لا هو قادر على الإنفصال التام عنه، ولا هو قادر على الإندماج فيه والتطابق معه، فالإنفصال الكامل يجعل من العمل خواء وهراء، والتطابق يلغي وجود أية صفة فنية، فعلاقة الفن بالحقيقة علاقة بالغة الدقة، فهو وإن لم يكن حقيقة موضوعية إلا انّه حقيقة من نوع خاص.
العمل الفني قائم بشكل أساسي على التعديل في هويات الأشياء الموضوعية والخروج على النسق الموضوعي الخاص بها إلى نسق فكري أو نفسي، يتم ذلك على صعيد الشعر بإزاحة الهوية الموضوعية للشيء إزاحة نسبية، وإستبداله بهوية جديدة متناسبة مع إنفعال الشاعر وحالته النفسية، نقول إراحة نسبية لأنّ الهويتين: الموضوعية والفنية تتبادلان الإضاءة ولا نلغي أحداهما الأخرى، ويقتضي تعديل الهوية تعديلاً في العلاقات القائمة في الأشياء.
تلتقي القصة مع الشعر من حيث التعديل في الوجود الموضوعي، لأنّ رسم هذه الشخصية أو تلك، تناول هذا الحدث أو ذاك، سوف يعايَن من زاوية ثقافة القاص وإنتمائه الفكري. ويقتضي هذا، حتماً، تعديلاً ومسافة بين الواقع والفن. ولا يعني هذا خلق نماذج بشرية وحدثية موازية لما هو موجود في الواقع ومختلفة عنه. ولكن يقتضي التعديل أن يخرجها من عالم الحقيقة الموضوعي إلى عالم رؤيوي يخص القاص. حيث تنقلنا القصة من عالمنا الواقعي وقيمه ومقاييسه وعلاقاته إلى عالم فني له قيمه ومقاييسه وعلاقاته.
وثمة مسألة تثار على هامش هذا التعديل، تتعلق بالقصة التاريخية التي تفترض علاقة أقوى مع الواقع والحقيقة الموضوعية. حيث يسعى القاص جاهداً، إذا لم يكن مغرضاً، إلى القبض على الحقيقة وتقديمها إلى القارئ. ولا يلغي هذا السعي فنية هذا النوع من القصص، إذ لابدّ من أن يخضع العالم الموضوعي إلى ثقافته وإنتمائه الفكري، لأنّه، في محاولته تقديم الواقعة التاريخية، إنما يضع في رأس إهتماماته أن يفيد من تلك الواقعة لإنشاء قصة فنية وإن كانت هادفة في المحصلة.
والمسألة أكثر دقة وحرجاً مع القصة القرآنية، فالقاص هو الله تعالى، والأشخاص من عباده المعروفين، والأحداث المرتبطة بهم وقائع. وما تقرر لنا القصة، بشكل عام، هو حقيقة ما جرى، فهل نحن، مع القصة القرآنية، أمام نص تاريخي؟ العودة إلى سورتي يوسف ونوح، وهما السورتان المخصصتان للقصة بشكل كلي، تزودنا بمتعة جمالية لا يمكن أن يكون مصدرها غير فنية هذا النص، سواء أكانت تلك الفنية المرتبطة بالبعد القصصي، أم تلك الفنية المرتبطة باللغة النثرية التعبيرية.
فكيف تمت هذه المعادلة التي جمعت الحقيقة إلى الفن في حضن أدبي واحد؟
تقتضي الإجابة عن هذا السؤال وقفة عند طبيعة اللغة من ناحية وطبيعة ما هو فني من ناحية ثانية، لأنّ الأمر متعلق أشد التعلق بقدرة اللغة بمختلف مستوياتها ومناهجها التعبيرية الكشفية على التعبير عن مختلف الحقائق ومستوياتها.
- طبيعة اللغة:
لا تقدم الحقيقة من خلال الاسناد الحقيقي والدلالة الوضعية للكلمات وحسب، لأنّه توجد من الحقائق ما لا يمكن للغة العادية أن تفصح عنها. والحاجة ماسة إلى لغة فنية لجلائها. فطبيعة اللغة قائمة على القصور، فهي قد اطلقت اسم (الفرح) على حال يعيشها الإنسان حين يشعر بالإمتلاء والإنشراح. وإذا عرفنا انّ هناك ما لا يعد ولا يحصى من أنواع الفرح ودرجاته، أدركنا إننا لا نستطيع التعبير بكلمة واحدة عن هذا العدد غير المحصور. هذا ولا تستطيع أية لغة أن تسمي كل نوع من أنواع الفرح باسم خاص به، لأنّها لو فعلت لأصبحت لغة غير عملية، مثقلة بمعجم غير قابل للتعلم، غير قابل للإستعمال. فالقصور الذي تحدثت عنه، ليس قصوراً مرضياً، ولكنه وسيلة اقتضتها طبيعة اللغة لكي تكون مريحة لا عبئاً.
ولكن هل يظل هذا القصور قائماً في التعبير؟
- طبيعة ما هو فني:
تعوّض اللغة هذا القصور بواسطة الأساليب الفنية التي تصطنعها من المجاز والطرائق البلاغية المختلفة إلى القصة والمسرحية مروراً بالسرد والحوار.
ويجب أن ندرك منذ البداية انّ العملية الفنية في النثر مختلفة عن العملية الفنية في الشعر. وإذا كان الشعر قراءة لبعض جوانب العالم (حقائقه) من خلال إنفعال ما (حزن – فرح – غضب – إعجاب... إلخ). ويقتضي هذا تعديلاً لتلك الجوانب بما يتناسب والإنفعال، وتكون الحقيقة الفنية، بناءً على ذلك، على مسافة واضحة من الحقيقة الموضوعية. والنثر هو الآخر قراءة لبعض جوانب العالم (حقائقه)، ولكن ليس من خلال سلطان الإنفعال، ولكن من خلال خلفية ثقافية ما، أي رؤيا فكرية للعالم، تقرب الحقيقة الفنية أكثر من الحقيقة الموضوعية. وإن كان هذا لا يعني انّ الإنفعال الشعري قد أفلت من قبضة الخلفية الثقافية. هو لا يفلت ولكنه يشكل زجاجة إضافية تقبع ما بين تلك الخلفية وبين العمل الفني. وهذا يرتب إختلافاً في طبيعة الدلالة التي ينتجها الشعر عن تلك التي ينتجها النثر. فإذا كانت الدلالة الشعرية دلالة إحتمالية مشوبة بغموض خاص، فإنّ الدلالة النثرية دلالة دقيقة وواضحة.
-لقاء الشعر والنثر:
ومما يجدر ذكره أنّ فنية اللغة النثرية شبيهة بفنية اللغة الشعرية. كلا التركيبين مثقل بالدلالة، يستتبع قراءة معمقة تكتنه كل أبعاده الدلالية التي يختزنها. فهي دلالة غير عالقة بأهداب الحروف تنقلت منها عند القراءة المباشرة، ولكنها قابعة في تضاعيفها وأعماقها. ولا يُسْلِم التركيب الفني مفاتيح أسراره للقراءة السطحية المباشرة ولكنه يسلمها للقراءة القائمة على التفكير. فقراءة النص الفني ضرب من التفكير، شعراً كان أم نثراً. والفارق الأساسي يكمن في أن تكون الدلالة احتمالية أو دقيقة.
ما أريد الوصول إليه هو انّ المعادلة التي تجمع الحقيقة إلى الفن قابلة للتحقق خصوصاً على صعيد النص القرآني.
ولكي نخرج من الحدود النظرية لهذه المسألة: (موقع القصة القرآنية بين الحقيقة والفن) نعود إلى النص القرآني نفسه، حيث اخترت سورة يوسف مجالاً أحاول من خلاله البرهنة على صحة ما ذهبت إليه، لأنّها تكاد تكون بمجملها قصة واحدة.
أول ما يلفت انتباهنا في هذه القصة حبكتها، إذ تبتدئ برؤيا يوسف الذي رأى أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأهم له ساجدين. وتنتهي بتحقق هذه الرؤيا من خلال سجود أبيه وأمه وأخوته له. وذلك عبر سلسلة من التطورات الحديثة القائمة على سببية منطقية واضحة وواقعية. [حسد الأخوة والقاؤه في غيابة الجب – السيارة الذين وجدوه في الجب ونقلوه إلى مصر فبقي فيها – كيد أنثى من اشتراه ودخوله السجن – السجن وتأويل رؤيا السجينين فيها – إساتعانة أحد السجينين بيوسف لتأويل رؤيا الملك – تحقق الرؤيا وتعيين يوسف خازناً للغلال المخزنة – مجيء أخوته إلى مصر وتحقق رؤيا السجود].
صحيح انّ هذه الوقائع هي حقائق قد حدثت فعلاً، الحقائق الواقعة ليست فناً من الناحية المنطقية. ويثير هذا سؤالاً، ما الذي حبس أنفاسنا وأثار دهشتنا ونحن نتابع وقائع هذه القصة إذن؟ قد نجد متعة عندما نقرأ أخبار الماضين، ومصدر هذه المتعة هو المضمون بقطع النظر عن الطريقة التي تقدم من خلالها تلك الأخبار. وهذا ما يجعل متعتنا هذه منفصلة عن الناحية الفنية، أما أمام قصة يوسف فالمتعة لا ترتبط بالمضمون وحده، ولكن بالناحية الفنية أيضاً خصوصاً الحبكة منها. فالمنعطفات التي قدمتها السورة ليست كل شيء في حياة يوسف يعني ذلك انّ أموراً وأحداثاً في حياة يوسف لم تذكر، وانّ سمات من شخصيته قد أهملت ويستتبع ذلك انّ الإختيار (إهمالاً وإثباتاً) خاضع لهدف ما هو الهدف الديني ويقدر تحقق الإنسجام بين الإختيار والهدف تكون الفنية واضحة ومتجهة نحو أعلى مستوياتها. وهذه هي الزاوية التي يجب أن نراقب من خلالها العمل القصصي الذي يتناول حقيقة من الحقائق مضموناً له، وما السببية التي أحكمت سلسلة الأحداث ومنعطفاتها الأساسية وصولاً إلى تحقق السجود سوى تأكيد لقوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأولِي الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (يوسف/ 111).
- لغة القصة النثرية:
وإذا كانت العبرة هي الهدف، فهل نستطيع الاهتداء إلى حبكة توازي حبكة القرآن الكريم في التوصيل إليه؟
لن أقف عند الناحيتين السردية والحوارية لضيق المجال ولكنني سأقف عند لغة القصة النثرية. فالقرآن الكريم قراءة متميزة وجديدة للعالم.
وإذا ما لعبت الحبكة الفنية واللغة التعبيرية النثرية هذا الدور في تأدية فنية القصة القرآنية، فإنّ الصورة الأدبية هي الأخرى تؤدي الدور الأرقى في هذا المجال.
ولقد اخترت الصورة الأدبية التالية، وهي تتكون من ثلاث آيات هي: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (يوسف/ 23)، (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (يوسف/ 24)، (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (يوسف/ 25).
تبدأ الصورة بأسلوب سردي (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ)، أن تبادر هي إلى المراودة يعني أنّ الضعف قد تسرب إلى نفسها فيما بدا يوسف متمالكاً نفسه متماسكاً خصوصاً أن هذا الفعل (راود) يحمل في تضاعيف مضمونه ومعاودة الطلب بأساليب مختلفة تتراوح بين الحركة والإيماءة والاشارة الصريحة، يعني ذلك إصراراً من قبلها على الفعل وإصراراً من قبله على التماسك والصمود.
وحين أشار إليها بقوله: (الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا) لم تكن هذه الصيغة عفوية، بل مقصودة لغايات دلالية، أولها: انّ القصة ما زالت حتى الآن تكني عن العزيز ولا تفصح عن اسمه بعد (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ) (يوسف/ 21)، ولم يسمه باسمه إلا بعد أن تجاوز الصورة التي بين أيدينا (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ) (يوسف/ 30)، وهذا الإخفاء بحد ذاته متعمد لغرض فني يريد أن ينأى بنا عن التوقع المبكر لمصير يوسف الكبير من انّه وقع بين يدي عزيز مصر قصد التشويق وآثارة الدهشة في الوقت المناسب.
وثاني تلك الغايات الدلالية الإشار إلى أنّ تلك المرأة تريد إستخدام كل إمكانات نفوذها في التأثير على يوسف، فهي تستغل كونه نزيل بيتها لتضع ذلك في حساباته ودفعه للقبول بمطالبها منه، وهذا ما يجعل من يوسف سلعة خاضعة للمساومة، ولكنها سلعية متأتية من جانب المرأة وحدها، يعني اننا أمام سمة عنصرية تتسم بها شخصيتها، ويوحي لنا هذا انّ يوسف يحاول الصمود بإنسانيته في وجه محاولة إنتهاكها.
- أسلوب النظم النحوي:
ويُسْتكمَل سرد الحدث من خلال قوله تعالى: (وَغَلَّقَتِ الأبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ) وأول ما يلفت الانتباه في هذا التركيب أسلوب النظم النحوي فيه. إذ يفيد الفعل (غلق) على وزن (فعل)، وهو من أوزان المبالغة، حرصاً شديداً وأكيداً على أحكام الاغلاق إمعاناً منها في توفير الأمان لنفسها في أثناء ممارسة الفعل المقصود. ويعكس هذا النوع من الحرص إحساساً منها بأنّها تمارس فعل الخطيئة، وخوفاً شديداً من الفضيحة والنتائج المترتبة عليها، ويشكل استخدام صيغة الجمع (الأبواب) إشارة إلى أنّها تعيش قلقاً غير عادي، والصراع الأساسي الذي يدور في خلدها لم يكن جدلاً بين الأقدام على العمل والأحجام عنه ولكنه جدل بين الخوف والطمأنينة، والأبواب جمعاً إستشعار لمكامن الثغرات التي يمكن أن تشكل خطراً على سرية عملها.
حين اطمأنت إلى سير خطتها (قالت: هيت لك). والإباحة التي يقدمها هذا التركيب ليوسف إنما يشير إلى ثقة تلك المرأة الشديدة بنفسها، وبأنّه سينصاع للأمر وانّ فيها من الآثارة ما فيه. فهو يخاطب أقوى الغائز البشرية بأيسر لغة تفهمها (هذا جسدي ملك لك) و(قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)، فكان جواب يوسف بهذه الصيغة التقريرية حاسماً، فيه من إستبعاد الموافقة على الإنغماس في هذا الفعل ما يلغي كل أمل عندها.
ونصل إلى الآية 24 حيث الجدل على أشده (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا)، فاستخدم الفعل الواحد لنقل ما عزم عليه الطرفان يوحي انهما قد عزما على الفعل نفسه خصوصاً وانّ الجدل كامل بين التركيبين إلى أبعد الحدود. فقبالة الفاعل المؤنث في (همّت) يأتي الفاعل المذكر في (هم). وإذا تعدّى فعل (همّت) الأنثوي بواسطة فعل الجر إلى ضمير المذكر (ه)، تعدّى فعل (هم) الذكري إلى ضمير الأنثى (ها). وإذا أضفنا إلى أنّ ما عزمت عليه أو خطر ببالها هو الإنصياع إلى غريزتها تبادر إلى ذهن المتلقي انّ ما هم به يوسف هو الإنصياع إلى الغريزة أيضاً. وإن كان في تقديم (همّت به) على (همّ بها) إشارة دلالية تفيد انّ الأنثى في موقع (الفعل) وانّ الرجل في موقع (ردة الفعل) وهذه مسألة تقيم حدوداً بين همّت به/ وهمّ بها ولا تساوي بينهما ولعل في هذا الاختلال في ميزان الهمين ما يفتح الباب أمام إمكانية أن يكون ما هم به يوسف مختلف عمّا همّت به المرأة وإن أومأ إلى أن ضعفاً من طبيعة ما قد تسرب إلى نفي يوسف وهذا ما استدعى عوناً من الله (لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) (يوسف/ 24)، خصوصاً أن ما كتب عليه هو أن يصرف عنه السوء والفحشاء، لأنّه من عباد الله المخلصين.
- طبيعة اللغة وقابليتها:
وتكتمل الصورة في الآية 25 (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ)، حيث يبتدئ هذا التركيب تحولاً في جدل الفعل/ ردة الفعل. فاستباق الباب إشارة إلى انّ المبادر يوسف وانّه في موقع الفعل هذه المرة للخروج من المناخ الخانق الذي زجته به الأنثى. ومع تحوله إلى موقع الفعل تحولت هي تلقائياً إلى موقع ردّة الفعل تسابقه الباب لتحتفظ به في الداخل مدفوعة بأمل لم يبق يوسف من توهجه السابق في نفسها سوى ذبالة ضوء شحيح، يؤكد هذا الأمر المشهد الثاني في الآية نفسها (وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ)، ولئن لعب هذا المشهد دور الإضاءة للمشهد الذي سبقه إلا أنّه يختزن أضواءً سوف يقدم لمشاهد تالية. أما المشهد الذي يليه (وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ)، فإنّه مشهد طارئ يعترض المشهدين السابقين ليضعهما على المحك، وليمنع انطفاءهما عند هذه اللحظة من خلال الدخول طي الكتمان، ولكي يعطيهما إستمرارية التأثير على مجريات الأمور المستقبلية، ولولا هذا المشهد لحدث الإنقطاع.
ولقد وجدنا يوسف قد لاذ بالصمت بعد أن أثار هذا الطارئ مكامن الكيد في نفس المرأة وأحدث تحولاً في المناخ النفسي الذي يظللها، انكفأت الرغبة المشؤومة ليخيم عليها مناخ المكر والكيد، ذلك انّ إختيار كلمة (سيدها) للتعبير عن العزيز دون سيده وهو سيد يوسف بشكل من الأشكال، ودون زوجها أو بعلها انّما كان إشارة إلى أنّه المعنى الأول بما جرى، فالعرض عرضه وكان تمهيداً لتقول (مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا)، مختارة كلمة (أهلك) من بين كلمات كثيرة تدل على ذلك إشارة إلى التزام المرء بالدفاع عن أهله وإيحاءً لذلك الزوج بأنّ في الأمر إعتداء على زوجه وتأكيداً لثقتها ببراءتها حددت الجزاء السجن ليوسف أو العذاب الأليم، وفي تحديد العقاب تعبير عن غضبها على ما زعمت أن يوسف قد قام به إمعاناً في كيدها.
ومهما يكن من أمر، فإنّ هذه الصورة وإن لم تستعن بالمجاز فإنّها كانت غنية بأنوارها وظلالها وألوانها وخطوطها وحركتها لا كما تتم في الحياة ولكن مركزة منتخبة كما يوحي إلينا بصورة الحياة الحارة الملتهبة. أنّ عالم القصة القرآنية حقيقة، ولكن هذه الحقيقة الممتدة في الزمن يكثفها العمل الفني فتبدو مشعة متوهجة مضيئة. وإذا كان الفني في اللغة أسلوباً تعبيرياً تعويضياً، فإنّ القرآن الكريم حين يلجأ إلى الفنية إنما يلجأ إلى طبيعة اللغة نفسها، إلى قابليتها ليعبر عن حقيقة ما لا تستطيع اللغة العادية التعبير عنها، هل الجمال شيء آخر غير نجاح التعبير؟
- موقع الفنية من الإعجاز:
ثمة سؤال يثار على هامش الحديث عن موقع القصة القرآنية بين الحقيقة والفن، ما هو موقع الفنية القصصية التي تخص القرآن من الإعجاز؟
تركز رأي علمائنا على أنّ الوجه المقصود بالتحدي هو الإعجاز البلاغي. وتركز رأي غالبيتهم، شيعة ومعتزلة وأهل سُنّة، على أنّ هذا الإعجاز البلاغي قائم على النظم، أي بنية التركيب (العبارة). ويعني هذا انّ الفنية القصصية غير مقصودة بالتحدي المعجز والقصة وأن بلغت حجم السورة وتساوت معها في سورتي يوسف ونوح فكانت معجزة، فإنّ ذلك ليس بسبب القص، لكن بسبب النظم، لأنّ القص لا يخصّ جميع سور القرآن.
ولكن إذا عدّ العلماء وجوهاً أخرى للإعجاز في تقديري، انّ القصة القرآنية، معجزة. وهذا يفتح أعيننا على مستويات من الإعجاز تخص النص القرآني، وإذا كان النظم يشمل جميع السور، فإنّ لكل سورة، بالإضافة إلى الإعجاز البلاغي النظمي، إعجازاً يخصها. والإعجاز الذي يخص سورة يوسف دون غيرها هو الإعجاز الفني القصصي. وتبقى مسألة أخيرة لفتت سورة يوسف إنتباهنا إليها تتعلق بالفنية العامة للنص القرآني.
- كتابة عالمية:
إنّ من يقرأ سورة يوسف يجد فيها حكاية متصلة بالذوق الشعبي والذهنية الشعبية، وقصة تمسك بأخص خصائص هذا الموضوع، ورواية تحيط بحياة نبي منذ تعرضه لحسد أخوته في بيت أبيه إلى أن أعزّه الله ومكنه في الأرض. فالسورة لم تلغ الحدود بين الحكاية والقصة والرواية وحسب، ولكنها ألغت الحدود بين اللغة النثرية واللغة الشعرية أيضاً. فإذا شكل تركيب (وغلّقت الأبواب) عملاً سردياً متعاوناً مع التراكيب السابقة واللاحقة لتأدية السياق الحدثي، فإنّه يشكل تركيباً شعرياً أيضاً، يتجاوز ما تتصف به الدلالة النثرية من دقة ووضوح إلى ما تتصف به الدلالة الشعرية من إيحائية وإحتمالية. قدم لنا هذا التركيب نوعين من الحرص إشتعلت بهما هذه الأنثى، حرص على النجاح بما عزمت عليه، وآخر على الحيلولة دون الفضيحة. والحرصان مفتوحان على كل إحتمال من الشدة. وهذا من أهم ما يميز اللغة الشعرية، ونجد بعداً شعرياً إيحائياً في الآية 31 (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ) (يوسف/ 31)، أليس في تقطيع الأيدي ما يوحي أشد الإيحاء بجمال يوسف، ويقدمه على أنّه جمال خارق يعجز ذهننا عن تصور مداه، أليست هذه الدلالة دلالة إحتمالية تخص الشعر دون النثر؟ وإذا ما أزال النص القرآن الحدود بين الأنواع الأدبية إلى الحد الذي جعلنا عاجزين عن أدراجه في عداد هذا النوع أو ذاك، فاكتفينا بالقول انّه (كتابة أدبية) وحسب، يعني أنّ النص القرآني يمثل من الناحية الأدبية الإبداعية حلم الكتابة العالمية المعاصرة الذي هجس به أدونيس عندما أشار إشارة واضحة إلى وجوب سير الكتابة باتجاه التوحد النوعي، أي الكتابة بلغة تستقطب كل المناهج التعبرية (شعرية كانت أم نثرية). ووجود مثل هذا الطموح عند الكتابة العالمية المعاصرة لا يعني إمكانية تحققه، ويفتح هذا أعيننا على بُعد جديد من أبعاد الإعجاز القرآني يتمثل في تحقق التوحد النوعي الأدبي الذي كان لعصرنا شرفُ الوعي به ونشدانه حلماً غير قابل للتحقق.
* رئيس قسم اللغة العربية في الجامعة اللبنانية، فرع الرابية
المصدر: مجلة النور/العدد 33 لسنة 1994م
ارسال التعليق